ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الخامس


معركة الدفاع المشروع عن الذات

 

*(1) في هذه المناسبة الخالدة، مناسبة تأسيس الاتحاد الوطني لطلبة العراق وقبلها مناسبة الانتصارات التي حققها جيشنا وشعبنا في العراق والأمة العربية، اسمحوا لنا أن نرجع الى مقولاتكم في كتاب "في سبيل البعث" حول الرسالة العربية الخالدة، حينها تحدثتم عن الأمة العربية، هي نفس تلك الأمة التي كانت قبل ألف وألفي عام، وان ما يتحقق من انتصارات اليوم، انما يعد امتدادا لانتصارات الأمة العربية السابقة، بما يؤكد ما جاء في مقولاتكم حول الرسالة العربية الخالدة، نرجو من أستاذنا الكبير القائد المؤسس أن يتحدث إلينا عن تصوراته لما أفرزته هذه المعركة القومية الظافرة وما سوف تفرزه على صعيد النضال القومي.

 

- نحن نعيش أياما خالدة سيكون لها الأثر العميق والحاسم على مستقبل الأمة العربية، لا نرى فيها تحقيقا لمقولة واحدة، إنما لكل أفكار الحزب، وللتصور الأساسي لحزب البعث، مما يدل على أن حزبنا في هذا القطر كان دوما عميق الصلة بفكر الحزب، عميق الصلة بأمته وسجاياها، وأخلاقها، و بطولاتها.

ومهما أشدتُ بقطرنا العراقي العظيم وبشعبنا العظيم في هذا القطر، فإنني لا أوفيه حقه، هذا الشعب الذي أفرز الصورة الأصيلة المشرقة لحزب البعث، حزب المناضلين الشجعان الأخلاقيين، هذا الشعب الذي أنجب القائد التاريخي الرئيس صدام حسين هو نفس ذلك الشعب الذي حمل مشعل الرسالة في الماضي، وأقبل على الشهادة بفرح وغبطة وشعور بأنه يصنع التاريخ لأمته وللإنسانية، هذا الشعب يتمتع الآن بالروحية نفسها وبالطاقة نفسها، بالقدرات التي لم تنعدم وإنما كانت كامنة وغافية، وكان عمل الحزب هو تذكير الشعب بهذه الأصالة وبهذه القدرات الخارقة الكامنة، كما كان عمله الأساسي توفير المناخ الملائم لتفتح هذه القدرات وازدهارها، وذلك ببناء الشروط الموضوعية والشروط الذاتية للمجتمع العربي الجديد، الشروط الاقتصادية والاجتماعية والنهوض بمستوى الجماهير الواسعة التي يكمن فيها الخير، وتكمن فيها الطاقات الهائلة والنوازع الخيرة للبناء والتضحية. والشروط الذاتية وهي دوما الأهم، أي بناء العقل والفكر والنفسية الواثقة والطموح، والعقيدة أن الحياة إنما هي رسالة، ليست للعيش الاستهلاكي، وإنما هي للعطاء والبناء الخالد وللبطولة وللتعبير المتجدد عن الإيمان بالقيم السماوية والقيم الإنسانية الرفيعة الخالدة.

من أهم مقولات حزب البعث... الثقة بالإنسان والثقة بالشعب، وأهم ميزة للقائد التاريخي وللقيادة التاريخية هي الإيمان بالإنسان العربي والإيمان بشعبنا العربي، فعندما يتحقق هذا الإيمان بصدق وعمق، يخلق المعجزات ويتم التفاعل والتكامل والإندماج بين القائد وبين الشعب، فيصبح القائد هو الشعب ويرى الشعب ذاته ومستقبله متجسدا في عمل القائد. في الكتابات القديمة، هذا القول " اذا وثق فرد واحد بنفسه وثقت الأمة كلها بنفسها"، فالثقة بالأمة هي ثقة بالنفس، مادمنا أبناء هذه الأمة المجيدة، وعندما نثق بأمتنا وبأصالتها وبخلود روحها وبإمكان تجدد قدراتها وسجاياها وبطولتها، فان هذا يمدنا بثقة لا حدود لها بأنفسنا وبعدالة نضالنا وبحتمية انتصارنا، الثقة والإيمان بالشعب هو صورة عن الإيمان بالله، وقديما قيل بان صوت الشعب من صوت الله، وروح الشعب من روح الله. كان لا بد ان يبدأ الانبعاث من قطر من اقطار العروبة، من أرض تحررت قبل غيرها لتصبح القاعدة والمنطلق، أن تصبح قاعدة للإعداد والتهيئة الجدية الطويلة النفس، وعندها يكون نهوض الأمة سهلا ويتم بسرعة أكثر مما هو متوقع، لأن بذور الخير موجودة في كل عربي ولأن الاستعداد للنهضة والانبعاث هو استعداد قوي عميق، برهنت عليه امتنا في هذا العصر بأقوى البراهين وأسطعها في ثورات عديدة، وبدايات نهضة شاملة وبروح البطولة والتضحية التي لم تنضب من الأرض العربية، ولكن لابد للانبعاث الجديد لكي يكون في مستوى الرسالة العربية، وفي مستوى الماضي المجيد العريق، وفي مستوى هذا العصر الذي نعيش فيه، ولكي تسترد الأمة العربية مكانتها ودورها بين الأمم وتبلغ رسالتها من جديد، لا بد لهذا الانبعاث أن يتجاوز مرحلة العفوية وأن تتهيأ له شروط عديدة، وأن يكون مستندا الى فكر قومي إنساني وشمولي، وهذا ما نعتقد انه تحقق لحزبنا - وتحقق بصورة ممتازة لحزبنا في العراق.

كان لابد لهذا الإعداد البطيء الذي يعطي اليوم ثماره الناضجة، أن يقابل من قبل بعض الأنظمة والطبقات المستغلة، المتسلطة، في بعض الأقطار العربية، بالخوف والذعر وبالعداء كموقف دفاعي عن وجودهم وعن مصالحهم غير المشروعة، فهذا شأن كل الرسالات وشأن كل النهضات الأصيلة، لا بد أن تعدم مواطن المرض والفساد في الجسم القومي، لكي تقضي عليها بأن تشيع حالة صحية في مجموع الجسم القومي، حالة نهوض واثقة بالنفس وتوق وحنين الى الأمجاد، الى التراث، والى التحرر والحياة الحرة النظيفة. فعندما نرى هذا التجاوب مع معركتنا لدى الشعب العربي في كل أقطاره، لا نشك لحظة في أن الروح التي عبر عنها شعبنا في العراق ستنتشر وستجرف بقايا المرض والفساد.

هذه الحرب في واقع الأمر، هي حرب دفاعية اضطررنا اليها دفاعا عن هذا القطر الأساسي في الوطن العربي وفي جسد الأمة العربية، هذا القطر الذي هيأه تاريخ ألوف السنين ليكون مؤتمنا على التراث القومي الروحي والحضاري ومجددا لهذه التراث. فعندما يهدد في وحدته ليس في الأرض فحسب، وإنما في وحدة الشعب وتماسكه فان دفاعه عن نفسه مشروع وواجب، لأنه ليس قطرا فحسب، بل هو مسؤول عن الأمة العربية أكثر من أي قطر آخر، ودفاعه مشروع عندما نتذكر الجهد الذي صرف في هذا القطر بشكل استثنائي منذ ثورة 17 تموز ولحد الآن، فهي التجربة الثورية العربية الوحيدة التي كتب لها النجاح والازدهار، فلو فرطنا بها لكانت الخسارة عميمة على الأمة العربية كلها وعلى مستقبلها. وهذه الحرب الدفاعية مشروعة لأنها ايضا، انما تستبق الأخطار المبيتة والمحدقة بمستقبل الأمة العربية، هذه الأخطار التي تهدد بنيان الأمة بالتفتت والتفسخ فتكون هذه الحرب الدفاعية إنقاذا لشخصية الأمة ولقوميتها ولأساس تماسكها ووحدتها، فهي بالفعل جهاد بالنيابة عن الأمة العربية كلها وعن أجيالها المقبلة، ولنقل بصورة أوضح أن الاستعمار والامبريالية والصهيونية وكل القوى الشريرة في العالم جعلت ومنذ بداية القرن على الأقل هدف عدائها وتآمرها الأمة العربية بالدرجة الأولى، للموقع الممتاز الذي توجد فيه أراضيها ولما في هذه الأراضي من ثروات ولتاريخ هذه الأمة الحضاري والروحي الذي يهدد القوى الاستعمارية بزوال سيطرتها واستغلالها، فيما لو بعث من جديد، لذلك فان الاستعمار والصهيونية وكل القوى الشريرة ذات المصالح الاستغلالية الآثمة مستعدة أن تهادن وتساوم اي شعب وأي بلد اذا كان لها مطامع فيه بغية أن تركز عدائها على الأمة العربية. ان بلدان العالم الثالث كلها كانت ضحية الاستعمار والتوسع والاستغلال وما زالت مهددة دوما بعودة الإستعمار في أشكال جديدة ولكنها لا تشكل العدو الأول للاستعمار والصهيونية والقوى الاستغلالية كما هي الأمة العربية.

فالأمة العربية في هذا العصر تخوض معركة الدفاع المشروع عن الذات، عن البقاء، عن إرادة الحياة وعن إرادة النهوض وليس طبيعيا او منطقيا أن تصطدم أي حركة تحرر في العالم الثالث مع الثورة العربية لان هذا الاصطدام والتناقض عندئذ يكون مشبوها ويكون بكل يقين، في حصيلته، لمصلحة القوى الاستعمارية والصهيونية، وأخيرا فلهذه الحرب مشروعية تتميز على كل ما سبق ذكره هي انها كانت مناسبة لتفجر قوة عربية من نوع جديد ومن نوع أصيل وتاريخي وهذه القوة ليست قوة مادية فحسب، وليست قوة مادية بالدرجة الأولى، بل انها قوة روحية وفكرية، قوة إيمان وعقل منفتح، سيطرت على المادة سنين طويلة وبنتها وطوعتها وبنت هذا البناء المتكامل الذي أتاح لهذه البطولات الخالدة أن تتجلى في هذه الحرب، كما أتاح لهذا الشعب العظيم في القطر العراقي ان يفاجئ نفسه بالعطاء والتضحيات، وبسمو في الروح واستعداد للنهوض والتقدم بشكل رائع، كان لا بد أن يحصل لكي تسترد الأمة العربية ثقتها بنفسها، ولكي تتصل من جديد بمعنى وجودها ولكي تتغلب على حالة اليأس والتردي المتفشية في أوضاعها الراهنة. لو لم يكن لهذه الحرب غير هذا المبرر، ولو لم تفرز الا هذا الجانب لكانت حربا مشروعة ورائدة وخالدة.

 

* ناضل الطلبة البعثيون في العراق كما تعلمون منذ فترة انطلاق البعث في قطرنا وأطرت نضالهم أسماء عديدة منها الطليعة الطلابية التقدمية لسنوات عديدة منذ الخمسينات وحتى حكم عبد الكريم قاسم، واستطاع في 23 تشرين الثاني عام 1961 من دعوة القاعدة الطلابية يمثلها الاتحاد الوطني لطلبة العراق، ولقد كنتم استاذنا الكبير القائد المؤسس مع طلبة العراق والأمة العربية في نضالهم واليوم اذ تصادف الذكرى 19 لتلك الانطلاقة يشرفنا أن نستمع اليكم أيها القائد المؤسس وأنتم تستعيدون ذكرياتكم عن دور طلبتنا في القطر، خاصة وقد كنتم مهتمين بنضالاتهم في تلك الفترة الهامة.

 

- كنت فخورا ومعتزا بحركة الطلاب البعثيين في العراق وبنضال الاتحاد الوطني، ولا أنسى كل ما قام به الاتحاد في فترات عصيبة وحاسمة من تاريخ هذا القطر الوطني والقومي، وأذكر بالتقدير للاتحاد الوطني التضحيات التي قام بها، والتي وصلت حد الاستشهاد، ولها في نفسي أعمق الذكرى وليس بعد الشهادة برهان على صدق الإيمان وصدق العقيدة وتجرد أصحابها عن الأغراض الزائلة وانصهارهم في مبادئهم وفي أهداف الأمة وطموحها، والشباب كان في حزبنا هو المؤهل منذ البداية لان يستوعب معنى المسؤولية التاريخية التي حملها نداء البعث الى الأجيال العربية والأمة العربية وكان هو العنصر المجدد للروح الثورية، ولأخلاقية الحزب في مجموع الحزب، ليس في عهود النضال السري والسلبي فحسب، وإنما في عهد استلام السلطة من قبل الحزب، كان للشباب البعثي دور أساسي في ابقاء شعلة القيم الثورية والنضالية وهّاجة، وإبعاد الحزب عن أمراض الاسترخاء والترهل والنفعية التي فتكت بثورات أخرى، وبقيت ثورة الحزب في هذا القطر سالمة منها، هذا المناخ الصحي الأخلاقي الذي يحيا فيه شبابنا وطلابنا البعثيون والذي أهلهم دوما لان يكونوا مستنفرين دوما للنضال ويؤهلهم في هذا الظرف بالذات أن يكونوا في طليعة الحاملين لأعباء المسؤولية، مسؤولية الحرب.. إن هذه الروح لم تبق محصورة في نطاق الحزب بل إن الشباب البعثي أشاعها في حياة الشعب كله وادخلها الى كل بيت في هذا القطر حتى فوجئنا بهذه الظاهرة الرائعة وهي تسابق المواطنين الى الفداء من كل الفئات، رجالا ونساء، فتيانا وشيوخا بشكل يعزز ثقتنا بأمتنا وهذا بلا شك بتأثير القيادة التاريخية الفذة التي برزت في هذا القطر والتي كشفت لكل فرد من أفراد الشعب عن أعمق وأسمى ما تنطوي عليه نفسه من نوازع خيرة، فحدث هذا التفجر وهذا التسابق.

إني ابعث بتحيتي لشبابنا في الاتحاد الوطني قيادة وقواعد مع تقديري وتفاؤلي الكبير بمستقبل قطرنا وامتنا والسلام.

 

كانون الأول 1980

(1) حديثا شامل لمجلة صوت الطلبة بمناسبة الذكرى التاسعة عشرة لتأسيس الاتحاد الوطني لطلبة العراق والانتصارات التي حققها العراق على الجبهة الشرقية.

 

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الخامس