ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الخامس


البصرة رمز لروح النهضة

 

 

الرفاق الأعزاء (1)

 هذا اللقاء من أسعد اللحظات في حياتي، لأني وجدت فيه خلاصة لعمل الحزب، وخلاصة لفضائل الشعب التي لا يمكن ان تظهر في الطريق السليم اذا لم تكن موجهة من الحزب وهذا يبين باختصار الدور التاريخي للحزب. الحزب خلق حالة جديدة بالنسبة للامة العربية ولكنها تميزت بالنسبة للعراق، ولكنه لم يخلق من العدم بل هو انطلق من الإيمان بأصالة الأمة وباستعدادها للانبعاث ولكن بدون ان تتقدم طليعة مهيئة فكرياً وأخلاقياً واستعداداً ارادياً وحيوياً للاضطلاع بمسؤوليات تاريخية وبدون وعي تاريخي لطبيعة المرحلة ولدورها في هذه المرحلة، بدون هذه الطليعة تبقى فضائل الأمة والشعب اما ضامرة أو مشتتة بشكل فوضوي، تهدر ولا توصل دوماً الى النتائج الإيجابية المرجوة بل توصل أحياناً الى رد الفعل والى نوع من الانكماش واليأس، عندما يظهر للشعب بأن ثقته لم توضع في محلها وأن جهوده لم ترع بأمانة وانما استغلت لأغراض غير مصلحة الامة ومصلحة الشعب.

وجدت فعلاً قطعة حية معبرة كل التعبير فيما عرضتموه، قطعة حية من حياة الحزب، ومن نضال الأمة، من خلال نضال الشعب، شعبنا العظيم في العراق، وفي هذا الجزء المتميز الذي هو مدينة البصرة التي تستحق كل الأوصاف الرائعة، والبصرة مؤهلة تاريخياً، هي عربية اسلامية بشكل كامل، وهي سجل لأعمال فكرية وادبية وأيضا لفصول خالدة من التاريخ العربي، وهذا التراث لابد أن له فعلاً ايحائياً وملهماً بالإضافة الى حاضرها، وهي تمثل الانفتاح، وتمثل الحيوية والحركة، وهي نقيض العزلة والجمود، ولذلك كان عمل الحزب فيها مؤثراً وناجحاً وأعطى النتائج الإيجابية  الوفيرة، وفي فترة قصيرة نسبياً

ما أحب أن اؤكد عليه هو أن ما وصل اليه العراق بصورة عامة، وبعض المناطق منه بصورة خاصة والبصرة بصورة أخص، هذه الحالة النادرة الرائعة التي تفرح القلب وتبهر العقل، نحن البعثيين لانتوقف عند النتائج دون الرجوع الى الأسباب، لانتوقف عند حالة الانبهار لان الانبهار قد يشل العقل والتفكير أحيانا، في حين أن حزبنا قام على الفكر وعلى الوعي، وكل هذه النهضة التي بناها الحزب في العراق والتي تواجه تحديا قوياً في هذه الحرب أمام الخطر الفارسي التوسعي الذي يستهدف هذه النهضة لهدمها، ميزتها الأولى هي انها بنيت على الفكر، بنيت على الوعي، في مقابل الهجمة المتخلفة، الهمجية القائمة على الغرائز، والغرائز المظلمة والنافية لدور العقل ولدور الوعي، واذا في لقاء كهذا يأخذ العقل حقه، والوعي حقه، إذ يرى ويلمس بالتفصيل وبالعمل اليومي وبالارقام أحيانا كيف تبنى النهضة، لان النهضة ليست شيئا سحرياً ليست شيئا غائما، ليست شيئاً يأتي فجأة، وانما هي بناء، وبناء طويل، وبناء يستلزم كل ملكات العقل والارادة، وأعلى درجات الوعي والنضج، وان هذا الدأب وهذا الإستمرار، وهذا التطوير المستمر، وهذا التفاعل بين الحزب وبين الاحداث، بين الحزب وبين الشعب، هذا الأخذ والعطاء المستمران، هذا التبادل في التعليم والتعلم يوصل آخر الأمر الى حالات ناضجة ومشرقة ومتوهجة تكون مسرحاً للبطولات ولظهور العبقريات، وهذا شيء مهم أن نذكر ونتذكر بين الحين والآخر ان الحزب هو صاحب الدور التاريخي في هذا البناء، مع الأقتناع التام العميق بأن الشعب بفضائه العظيمة وسجاياه النادرة هو النبع وهو الأرض الخصبة وهو الملهم، ولكن كما قلنا للحزب دور طليعي تاريخي دور قيادي في تاريخ الأمة.

 

وكما ان للحزب دوراً قيادياً تاريخياً، كذلك لقيادة الحزب ولقائد الحزب الفذ دوراً تاريخياً أصبح معروفاً ومفهوماً من أبناء الشعب كلهم يعيشونه ويتنفسونه مع الهواء، وكل هذا ضمن منطق وطبيعة الأشياء ومنطق التاريخ، إذ لم تظهر ولم تنجح ثورات خلال التاريخ ولم تقم نهضات الا ضمن هذا المنطق الذي يعطي للعمل اليومي والتفصيلي ضمن التصور العام والتصور المبدئي والأساسي الذي انطلق منه الحزب، يعطي للعمل اليومي والتفصيلي هذه الأهمية، لأن الحالات الكبيرة الناجحة والرائعة إنما تكون حصيلة التراكم، تراكم وتصاعد وتفاعل هذه الاجزاء والتفصيلات.

 

أيها الرفاق

ايضاً عملكم هومعبر عن مميزات الحزب عما هو أكثر من العمل ربما في بعض المناطق الأخرى لأنه واجه حالات كانت تبدو صعبة في البداية ولكن بالإيمان بدور الحزب وبالفعل الدائب الواعي للحزب والحضور المستمر، الحضور القريب من الشعب، وبالثقة اللامحدودة بالشعب بأصالته، اي بالفضائل والتجارب المختزنة من عشرات القرون وبوعيه الجديد، واستعداده الجديد للتقدم، للنهضة، وأكتشافه لنفسه من خلال الحزب، واكتشافه لمصلحته الحقيقية من خلال الحزب، أستطعتم واستطاع الشعب ان يقبل التحدي وان يخرج منتصرا أيما انتصار، هذا الانتصار الباهر، وصمود البصرة هو أبرز عنوان لهذه الحرب العادلة الخالدة ببطولاتها، اي ان مراهنة العدو على البصرة سرعان ماخابت، وكان ذلك في تلك الايام التي واجهت فيها قواتنا المسلحة البطلة اهجوم الإيراني المغرور في تموز 1982، هذه كانت معركة فاصلة تبدأ تاريخاً جديداً وتلخص اربعة عشر سنة من البناء الثوري للعراق، هذا الصمود وهذا النصر. وبعدها أصبحت الإنتصارات امراً محسوماً، لأن الشي ء الاساسي قد ضمن وبشكل علني وواضح وبأعلى درجات الوعي، لأن هذا الشعب امتلك مقدراته بيديه، امتلك سر النهضة، عرف دوره، عرف عن أي القيم يدافع، وأي نهضة يبني لنفسه ولأمته، فكان ذلك ارتقاءاً كبيراً في نضج الوعي وفي نضج الوطنية وفي وضوح وتأجج روح النهضة في الشعب.

 

لست بصدد  تعداد مآثر هذه المحافظة الباسلة البطلة وهذا شيء يطول، لم تعد البصرة مجهولة عند أبناء الأمة العربية كلهم ببطولاتها الجديدة وبصمودها العظيم، لذلك اكتفي بأن أؤكد من جديد سعادتي واستبشاري لمسيرة حزبنا ولنهضة عراقنا، فالحزب سائر على الطريق الصحيح، والعراق يتقدم الأمة ولابد للأمة الأصيلة أن تلبي نداء العراق.

والسلام عليكم

 

ميشيل عفلق

19 نيسان 1986

 

(1)حديث مع قيادة فرع البصرة نيسان 1986

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الخامس