ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الخامس


مزايا التجربة الثورية في العراق

 

الرفيق العزيز أمين سر الفرع(1)

الرفاق الأعزاء

صرتم تعرفون وبشكل أكيد وعميق أن الصلة بيني وبين مناضلي حزبنا في العراق صلة تاريخية، صلة يعجز المرء عن وصفها، وقد كنت متوسما في حزبنا في هذا القطر العظيم، متوسما فيه المزايا الكبيرة والمتفردة، ولكني أعترف بأني كنت بين الحين والآخر وعلى امتداد هذه السنين أفاجأ بما يبهر وبما يحير أحيانا، إذ أتساءل كما يتساءل الكثيرون، هل هو الحزب أم الشعب؟ هل هو القائد أم الحزب أم الشعب؟ ونصل في آخر الأمر بعد هذه التساؤلات الى نظرة موحدة توحد بين هذه العناصر التاريخية التي لا تتوافر إلا في المراحل التأريخية العظيمة.

وأنا كما تعرفون أيضا في أكثر المناسبات التي آتي فيها على ذكر بدايات الحزب وعلى الصلة التي تربط البدايات بهذه النتائج العظيمة المتحققة في العراق، أحرص دوما بدافع النزاهة على التأكيد بأن بدايات الحزب كانت متواضعة جدا، وأن الفرحة التي نشعر بها أمام عظمة البطولات وعظمة الإنجازات التي تجلت على أروع شكل في سنوات الحرب، فرحة عميقة لأنه في نفس الوقت الذي نرى فيه المسافة الواسعة والفارق الكبير بين بداية الحزب وبين هذا التحقق التأريخي لمبادئ الحزب وأفكاره، نشعر أيضا بأن صلة حية وأكيدة، حقيقية وليست وهما، تربط بين تلك البداية المتواضعة وبين هذا الذي نشهده من تألق. إنه الأيمان بأعمق صوره، الإيمان الذي أتاح لنا في ظروف مختلفة جدا قبل ما قرب من نصف القرن، أن نبدأ عملا ونرى ولو بالحلم، بالخيال، بالتصور، ما يمكن أن يعطيه الإنسان في المستقبل، وأن أمتنا جديرة بأن نمنحها ثقة غير محدودة، وأن نتوقع منها ومن أبنائها المعجزات، لأنها أمة متميزة، أمة الرسالة التي لا يمكن مهما قست عليها الظروف، ومهما ظهر التشويه وامتد وتفشى، لا يمكن أن يحجب حقيقتها، ولا يمكن أن ينسيها أصالتها وعراقتها. وهذا الشيء الذي خصت به، هذه النفحة الالهية هي الكفيلة بأن ترفع غشاوات الزيف والتشويه كلما تراكمت، وأن تنتفض الروح وتهتز الأصالة، وأن تؤذن الأمة بمرحلة إنبعاث جديدة.

 

أيها الرفاق الأعزاء

لا أستطيع أن أدلي بأي ملاحظة على ما سمعت غير التقدير الكبير والتعبير عن السعادة لهذا المستوى الذي بلغه الحزب، لهذا التكامل في مختلف جوانب النشاط والنضال والحياة القومية. أليس هذا حلم حزبنا منذ البداية؟ أن تستعيد الشخصية العربية وحدتها وأن تنطلق فيها المواهب والقدرات ملء انطلاقها بدون عوائق، وأن يكون بينها وبين الحياة تجاوب صاف، صادق، شفاف، وتلتقط بأمانة وعمق ما تستدعيه الحياة حسب شروط الزمان والمكان، حسب شروط التطور، وأن تكون الإستجابة صادقة وقوية في آن معا.

مهما قلت في الصفات التي توافرت لرفيقنا العزيز الحبيب القائد صدام حسين، هذه الصفات النادرة التي أعطت مثل هذه الثمار في أرض خصبة وطيبة وعريقة فهذا حظ كبير للأمة وللعراق وللبعث. وأثمن ما في هذه الصفات وهذه النتائج الباهرة أنها أتت ضمن الظروف وضمن القوانين، قوانين العمل والتطور، فهي باهرة ومحيرة في نتائجها ولكنها ضمن قوانين العلم وقوانين الطبيعة البشرية والنفس البشرية وقوانين الإجتماع. بدأت البدايات الصغيرة ونمت ضمن التفاعل مع الظروف ومواجهة الصعوبات والتحديات، وكان معدنها يظهر ويتكشف ويتجلى تباعا كلما تقدم الزمن وكلما تراكمت التجربة والممارسة الى أن أصبح نموها يتصاعد حسب منطق العبقريات وليس منطق الكفاءات العادية أي بالقفزات الكبيرة التي تختصر الزمن، ولكن لا تهمل ولا تقفز من فوق المراحل لكي يأتي البناء متينا وخلوا من الثغرات.. هذا هو الإعداد الطويل والمحكم الذي سبق الحرب والذي أتاح بأن تكون الحرب بهذا المستوى من النجاح، من الدقة العلمية، من التوحد في الروح بين الجميع، بين الشعب، بين الجيش، كل فئات الشعب.

أعرف بأنني لا أزيدكم علما -بأي شك- لأنكم تعيشون هذه الحالة وتساهمون في خلقها، في بنائها. لابد أنكم لاحظتم في الكلمة عن مناسبة (7) نيسان أن هناك اهتماما أكثر من السابق بكثير بالوضع العربي وبالظاهرة الجديدة المشجعة التي هي هذا التجاوب العربي الذي تميز عن السنوات السابقة من الحرب. هذه النتيجة هي بداية مشجعة، بداية يجب أن تتابع وأن تنمى، ولو أنه شيء فيه غرابة أن يحارب العراق ست سنوات حربا تعد في مصاف الحروب العالمية وأن يقدم التضحيات الجليلة، ويقدم البراهين الساطعة على التفوق، وأن يتأخر التجاوب العربي الى هذا الوقت! وهو أحسن من السابق ولكنه غير كاف ولا بد ان يتابع وينمى، حتى يقدر أن يكون له تأثير في الأحداث وتأثير في إنهاء الحرب.

إن القلق الوحيد الذي يساورنا أحيانا هو أن يبقى هذا الإنجاز التأريخي مقتصرا على العراق وأن تنعدم الصلة بينه وبين واقع الاقطار العربية الأخرى. أو أن تكون الصلة ضعيفة وأن تبقى على شكل مفارقة بدلا من أن تكون على شكل تواصل، لذلك يجد الحزب نفسه أمام تحد هو من طبيعته كحزب قومي، من طبيعة فكرته، وهو أن يحول دون عزل تجربة العراق، أن يحول دون حصارها، أن يعمل كل ما في وسعه لكي تجد هذه التجربة التي توجتها الحرب طريقها الى عقول وقلوب جميع أبناء الأمة أينما كانوا في الوطن الكبير. هذا هو الشيء الطبيعي لأن هذه التجربة مصممة منذ الأساس تصميما قوميا ولذلك جاءت الحرب لتدفع الخطر عن العراق وعن الأمة كلها، ولا بد أن يتصاعد هذا التجاوب، وأن تبرهن إرادة الحياة في أمتنا بأنها أقوى من مخططات الأعداء ومن كل ما دبروه ويدبرونه من حيل ومن عوائق ليمنعوا سريان هذه الروح الى بقية أجزاء الأمة، ولكي تحتضن الأمة هذه التجربة، وهذه الحالة الفريدة، هذه الحالة الانبعاثية من أجل أن تعم وتنتشر. مثلما كان الإيمان بأننا نستطيع أن نصل الى مثل ما وصلنا اليه في العراق من تحقق مليء للفكرة وللمبادئ، من تحقق قوي ومشع، كذلك مطلوب أن نؤمن بنفس القوة، بنفس العمق، بأن ضمير الأمة سيستجيب لنداء العراق الذي هو طليعة الأمة، طليعتها القيادية في مرحلة من أخطر مراحل التأريخ. كنت دوما مطمئنا على العراق ولكن أستطيع القول بأني بعد أن سمعت منكم هذا العرض ازددت اطمئنانا. فعندما تصبح القوة هي بالدرجة الأولى قوة الروح وقوة الوعي وقوة الممارسة والصلة الحية بالشعب، عندها تعجز كل قوى الأعداء على النيل من قوتنا لأنها من النوع الذي لا يفنى.

الحالة الجديدة في العراق أيها الرفاق، هي فعلا تجسيد للخلود، تجسيد للعمل الخالد، ولذلك يشعر أبناء العراق سواء أكانوا على جبهات القتال أو في الصفوف الخلفية بتواصل حي مع التأريخ المجيد، تأريخ البطولات العربية والخلق والإبداع الحضاري والإبداع الأخلاقي. هذه حالة لا يمكن أن تتوقف، النمو والتطور والتقدم في طبيعتها وبالتالي فإنها لا بد أن تتصل بروح الأمة وأن تكون كما هي في منطق التأريخ بداية لنهضة الأمة كلها، علما بأن الأمة في قناعتنا نحن البعثيين، الأمة بخير ولا يمكن أن نحكم عليها من خلال تصرفات الحكام والأوضاع الشاذة المفروضة عليها، ونحن أقدر من غيرنا على رؤية النواحي الايجابية في أحوال وأوضاع الأمة، والنواحي الصحية والتي تبشر بالإنتقال الى أوضاع افضل. ولا يعقل أن يكون بين الأمة الواحدة التي تنتمي الى تأريخ واحد وتعيش دوما على ذكريات روحية وقومية واحدة وقيم واحدة، لا يعقل أن تتحقق على جزء منها مثلما تحقق في العراق وأن لا تكونن الاجزاء الباقية، فيها الإستعداد الكامل والتهيئة النفسية لأن تتجاوب وأن تعمل وتسعى من أجل أن تحطم القيود والركام الذي يغطي جوهرها، وأن تتوحد في حالة نهوض شاملة. فالنضال هو قانون الحياة العربية، وهو وسيلة وغاية كما تعرفون تصل الأمة عن طريقه الى أهدافها ولكنها في الوقت نفسه تكون قد ولدت من جديد من خلال النضال. النضال الذي يحرك الكوامن، القوى الكامنة للأمة ويجددها ويتيح لها الفرص لكي تنطلق. وكم كان بودي أن أعلق على بعض ما سمعته منكم، ليس لأن عندي ملاحظات، بل لكي أقول وأكرر بأن ما سمعته هو ما كنا نحلم به دوما، هو حلم البعث في بناء هذه الشخصية العربية المتكاملة.

ولعلكم تذكرون كلمات قديمة (يجب ان تتحد الصلاة مع العقل النير مع الساعد المفتول لتؤدي كلها الى العمل القوى المبدع.. الخ) هذا الحلم من بداية الحزب، إن كل قوى الشخصية العربية يجب ان تتفتح وتنطلق في تكامل وتوحد.

ومنذ بداية التجربة الثورية في العراق كنت مطمئنا الى أن التجربة تسير وفق هذا التصور. عندما وضعت فكرة الجيش الشعبي للتطبيق مستفيدة من تجربة سابقة ومن إيجابياتها -وخاصة من سلبياتها- أن يكون البعثي هو بوقت واحد المناضل المساهم في البناء، المساهم في التثقيف وتوعية الشعب والمقاتل المدافع عن الوطن والثورة، الحاضر في كل ساعة وأمام كل تحد مستجد، فهذه من التجارب الثمينة للحزب، وقد نجح فيها الحزب الى حد بعيد. هناك أشياء كثيرة كلها تؤكد على أصالة هذه التجربة التي تسهمون في بنائها والتي نريد لها أن تتجلى في إبداع حضاري عربي وإنساني، وقناعتي بأن شيئا كثيرا مما تحقق في العراق وخاصة في سنوات الحرب سيدخل في تأريخ الانسانية، ولن يقتصر على كونه إنجازا عربيا.

سعادتي كبيرة بلقائي بكم وبمعايشتي لهذا العهد التأريخي الذي نحياه في العراق، وأعتبر ذلك من قبيل التأكيد على أصالة هذا الحزب، بأنه مؤهل للانجازات التأريخية، وبأنه لن يتوقف عن العطاء، وأن أمامه طريقا طويلا ومهام ضخمة، وأنه يستطيع أن يتابع سيره بثقة متزايدة ومتعمقة بنفسه وبرسالته وبقدر أمته.. والسلام عليكم.

6 نيسان 1986

(1) حديث مع قيادة فرع أبو جعفر المنصور في 6/4/1986.

 

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الخامس