ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الخامس


تجربة العراق الثورية هي تجربة البعث

 

ماذا تمثل ثورة 17- 30 تموز في الطموح البعثي(1)؟

 

ثورة 17- 30 تموز هي ثورة الحزب في القطر الذي كان له موقع خاص في ضمير الحزب. إنها تمثل قفزة نوعية جبارة في مسيرة حزب البعث، جاءت في وقت كان الحزب فيه بأمس الحاجة الى ما يعزز ثقته بقدرته على تجاوز النكسات والتغلب على عوامل الضعف.

أما من حيث ما حققته من إنجازات على امتداد خمسة عشر عاما فإنها قد نقلت العراق الى حالة النهوض الشامل في فترة زمنية قياسية وهذا شيء فريد في الحياة العربية الحديثة.

تجربة العراق الثورية هي تجربة البعث، والبعث للأمة العربية، وفي قطر مثل العراق بتأريخه وحاضره وإمكاناته الغزيرة لا يمكن للتجربة القطرية إلا أن تأخذ أبعادا قومية وبخاصة إذا كانت تجربة حزب البعث.

على هذا الأساس كان التقاء العراق والبعث لقاءا مصيريا وتاريخيا. فالعراق أصبح القاعدة والمنطلق والطليعة والرائد والقلعة المحصنة.

عندما يعتز العراقي بعراقيته ذلك يعني أنه يعتز بعروبته، لأول مرة في تأريخ الحزب تتاح فرصة جدية لتطبيق أفكار البعث كطريقة في الحياة وطريق للنهضة، وكممارسة لأخطر أشكال النضال، للحرب، دفاعا عن الحياة والنهضة..

إن الذي يشدني لهذه التجربة وهذه المعركة ويريحني ويطمئنني هو التجدد والحركة والإقدام وابتكار المبادرات، وتعدد الحلول، وغنى المشاركة، وتفتق القرائح، وأشياء كثيرة، كلها تدل على أصالة التجربة وعلى أنها لاقت في عقول العراقيين والمناضلين العرب وفي ضمائرهم، الصدى العميق واللمسة المرهفة التي حركت المشاعر والطموح الى كل ما هو عظيم وعبقري وتأريخي. في مثل هذه التجربة تجد الحرية تربتها الخصبة للنمو، وتجد الديمقراطية مناخ ازدهارها.

هذا جزء من حلم المستقبل العربي، المستقبل البعثي. لم يرد البعث ومنذ بدايته، أن يكون قدره شبيها بالساقية الرقراقة، بل بالبحر الهادر.

فثورة 17-30 تموز هي ثورة الحضارة، هي ثورة الفرح، هي ثورة العطاء، هي ثورة الحرية، هي ثورة الإبداع، هي ثورة الحرية لأنها ثورة الإبداع، هي ثورة البطولة، هي ثورة الحرية لأنها ثورة البطولة.

وعنصر البطولة في فكر البعث هو أحد التعبيرات الأساسية عن ثورية البعث، كما أن العقلانية هي تعبير آخر أساسي عن ثورية البعث. والاخلاقية تعبير أساسي ثالث.

أن نعطي الحياة أضعاف ما بذلته لنا، دين الحياة، وظفر الحياة على الموت، عندما يتاح لكل المواهب والفضائل أن تتفتح وتنطلق وتستخدم، فتحفظ ملك الحياة للحياة، ولا تبقي للموت إلا اللحم الجاف والعظام النخرة.

في مفهوم البعث البطولة هي الحرية. فعندما تسد السبل كلها تبقى طريق البطولة سالكة.

وهي تعبير عن الثقة بالشعب وبأصالة الأمة. ففي جو البطولة يفاجئ الشعب نفسه كل يوم، وكل يوم يكتشف في نفسه قدرات جديدة، و17-30 تموز هي ثورة البعث، فهي اذن للأمة كلها.

ولكن في هذا الزمن الرديء، وفي مواجهة الحصار الذي يضربه الأعداء على الأمة العربية لا سبيل أمام الثورة للخروج من الحصار إلا سبيل البطولة التي تفجر عند الشعب ينابيع الأصالة والعطاء. وتخاطب روح الشعب العربي في أقطار أخرى بطريقة الإتصال التي لا تستطيع أسوار العزلة القطرية ولا أجهزة الأنظمة الإستبدادية أن تراقبها او تمنع دخولها.

 

وأنتم ترون تجربة الحزب في العراق تحرز كل سنة الانتصارات، أية أحاسيس تراودكم أزاء هذه التجربة؟

 

دفاع مشروع عن الذات

إنتصار تجربة الحزب في العراق على إيران الخميني، يحمل فيما يحمل من معان، تفوق الثورة العربية والنهضة العربية على العقلية المتخلفة والمتعصبة التي يحملها الخميني. وعلى رواسب العنصرية الفارسية في موقفها من العراق والأمة العربية، عقلية ورواسب الحسد والحقد تجاه النهضة العربية. والنهضة العربية نهضة أصيلة أصالة الأمة العربية ذات الحضارة والرسالة الإنسانية، هي أسمى وأغنى من أن تتصرف بردود الفعل، وبالعقد والنظرة الضيقة. تصرفها إيجابي واثق، نظرتها إنسانية، وأفقها حضاري وموقفها تأريخي.

فرحتنا بالانتصارات التي أحرزتها تجربة حزبنا بالعراق هي تعبير عن محبتنا لأمتنا. لأننا نؤمن أن طريق الحزب هو الطريق الصحيح الى نهضة الأمة وبلوغها أهدافها، وأن انتصار الحزب هو انتصار لقضية الأمة، كما إن انتكاساته كانت خسارة لها وتآمرا عليها.

إنها فرحة العمر أعتز بها واتعزى.. فرحة كانت كاملة لولا الغصة التي خلفتها أحداث لبنان وما حل بشعب فلسطين وما تبدى من تخاذل الأنظمة العربية وتواطؤ بعضها. ولكن الفرح أقوى من الألم، والانتصارات الخالدة التي سجلها أبطال العراق هي بشائر الغد العربي الوضاء.

في السابع من نيسان سنة 1982 قلت قناعتي العميقة والنهائية في تجربة الحزب الثورية في العراق، وفي الملحمة الخالدة التي توجتها. ولا يمكن ان يطرأ عليها أي تبديل أو تغيير، لأنها لم تكن تعبيرا عن حالة شعورية عابرة، بل نتيجة لتجربة عمر بكامله... قلت في السابع من نيسان 1982: نحن نشعر باليقين، واقتناع العقل وارتياح الضمير ورضا التأريخ أمام حصيلة مسيرة الحزب النضالية، وأمام الإنجاز التاريخي الذي حققه الحزب في العراق، والذي بلغ ذروة تألقه في المعركة المباركة النابعة من أعماق وجدان الأمة العربية في تمردها على واقعها، وتوثبها الى الوحدة والتقدم والقوة".

"فدفاع العراق هو دفاع مشروع عن الذات والأمة وطريق النهضة العربية، لكنه دفاع المؤمن برسالة، دفاع المقتدر، وليس دفاع الخائف المتردد، إنه دفاع أمام افتراء وادعاء باطل وحقد أعمى وعقل مغلق، افتعل الخصومة دون مبرر، حيث كان الشيء الطبيعي هو اللقاء والتعاون، وطي صفحة الماضي الأسود المليء بالاعتداءات.. هو دفاع القائد المؤمن بحق وطنه وأمته، الواثق من نفسه ومن قيمة البناء الذي تعهده طوال سنين، ومن متانته وإتقانه. دفاع الوفي لأرضه وتأريخه، المحب لشعبه، الغيور على مصلحة هذا الشعب وكرامته وعزته. دفاع العقل المتفتح الخلاق والشخصية القيادية الشجاعة البطولية التي تدرك بالحس المرهف ما تنطوي عليه نفسية الشعب من أصالة واستعداد عميق للنهوض، فلا يضيع فرصة إلا وسخرها لتربية الشعب والارتفاع بوعيه، وتعريفه بطاقاته الخبيئة وقدراته الحقيقية".. وبعد مضي عام مليء بالأحداث الجسام، إذا كان لي ما أضيفه، فهي تلك الأسطر التي سجلتها عن إجتياز العراق للفترة الحرجة وما يعنيه ذلك:

"عندما بدأ العدو يهدد أرض العراق ويحشد الأعداد الضخمة لغزوه، في تلك الفترة الحرجة كان على الحالة الجديدة التي ميزت العراق الجديد أن تعلن عن نفسها وان تتأكد وتترسخ في كل يوم أمام أعين العالم المتربص وأمام الطامعين من كل صوب. شجاعة ورباطة جأش ووطنية ورجولة ومستوى عال من الوعي. العبقرية القيادية للرفيق صدام تصرفت بالصفتين الأساسيتين اللتين تميزت بهما دوما: الشجاعة والحكمة.

واستمر النصر واستمرت روح النصر، ولكن بعمق جديد ورسوخ جديد واكتمال للنضج والتألق في الشخصية العراقية الجديدة، سواء على جبهات القتال أو في صفوف المناضلين البعثيين أو المواطن العادي. تلك الفترة التي اجتازها العراق الجديد بسلام والتي عاشها القادة والمناضلون ورجال الجيش الأبطال جنودا وضباطا وقادة، ساعة بساعة ويوما بيوم، هي من الفترات الخالدة التي تصنع الشعوب وتصنع التاريخ. فاجأ بها الشعب العراقي نفسه يوما بعد يوم، وكان في كل مرة يكتشف أن قدرته أكبر مما قدر.

في تلك الأيام طرح كل عربي شريف على نفسه هذا السؤال: أليس في هذه القيم والمعاني التي يجسدها العراق الجديد، عراق البعث ويستبسل في الدفاع عنها ما يستحق أن يضحى بالحياة من أجله؟

 

* ونحن نعيش احتفالات شعبنا العظيم بأعياد تموز.. في وقت تعاني فيه أمتنا من جملة تحديات خطيرة، كيف ترون المستقبل العربي القريب والبعيد؟

 

حالة نهضة حقيقية

هذه المفارقة تمثل قدر أمتنا وإنساننا العربي في هذه المرحلة الصعبة: أي أن نعيش حالتين متناقضتين في آن معا.

وهذا ليس على صعيد واحد بل على معظم الأصعدة.. المناضل البعثي لا يخاف من مواجهة الحقيقة العربية الراهنة بتناقضاتها الجارحة.. العراق يعيش حالة نهضة حقيقية، وجد نفسه في حالة صحية قادرة على العطاء والبناء، بينما العجز هو القانون السائد في معظم الاقطار، فلم يُضِع الفرصة المتاحة، وبنى نفسه البناء الناهض المتين، وبنى بشكل خاص إنسانه فأحسن بنائه وحصّنه ضد احتمالات الردة واليأس. والعراق في ذلك يحصن نفسه من جهة، ويشكل من قوته رصيدا لقضايا أمته من جهة أخرى. وهذه حالة تفرح قلب كل عربي صادق ومؤمن بالمستقبل المشرق للأمة.

والبعث الذي اختار الطريق التي اختطتها تجربته الفذة في العراق، طريق النهضة والبطولة والبناء العقلاني المتكامل للإنسان وللمواطن، لا يستطيع إلا أن يتذكر دوما أوضاع الشعب العربي في الاقطار التي لا تزال ترزح تحت وطأة التخلف والظلم والتعسف. ولا يستطيع إلا أن يتذكر دوما ما يحل بشعب فلسطين، سواء داخل الأرض المحتلة أو في المخيمات في لبنان، وما فعلته وتفعله "إسرائيل" في عدوانها المتكرر، واستباحتها لدماء هذا الشعب الذي أصبح رمز العروبة المضطهدة، ورمز الإنسانية المعذبة.

ولا يمكن للحزب أن يواجه المستقبل إلا بالنظرة الوحدوية والموقف الوحدوي الذي يستطيع وحده ان يتكافأ مع الأخطار المحدقة. ولأن المنطق الوحدوي هو وحده التفكير الإستراتيجي الشمولي.

 

* حكام سورية نفذوا أخطر مؤامرة ضد الأمة وضد الحزب في23 شباط وما تلاه من مواقف. نرى أن موقفهم من الثورة في العراق هو امتداد للمؤامرة الأم إن صح التعبير، ونطمح أن نستمع الى رأيكم بهذا الخصوص؟

 

البعث يزداد تألقا

بين نكسة الحزب في 18 تشرين ونكسته في 23 شباط فرق جوهري هو أن الذي ضرب الحزب في 18 تشرين قوة من خارجه إستغلت الإنقسام والإرتباك في داخل الحزب ولكنها لم تفرق في ضربتها بين جناح وآخر. بينما في 23 شباط تآمرت فئة من داخل الحزب فضربت خطه القومي التاريخي وجعلت القطر السوري منذ ذلك الحين ساحة للتآمر على القومية العربية والوحدة والتحرر تحت ستار شعارات الحزب الذي انتحلت إسمه لتتمكن من طعنه وتشويه صورته. ومنذ 23 شباط قبل سبعة عشر عاما، وهذه الفئة المغتصبة تعيث فسادا في القطر العربي السوري وتنكل بسكانه كما لو كانت جيشا أجنبيا محتلا.

وكان ذلك تحديا مصيريا للحزب وأصالته وأخلاقيته وقوميته: فإما أن يكون حزب البعث عبارة عن تلفيق لبعض الأفكار والشعارات الثورية والتقدمية من هنا وهناك، لا يضمها منطق عضوي، ولا تأريخ لها ولا تراث، فيكون بمقدور أي مغامر وأية فئة إنتهازية أن تنتحلها وتتستر بها دون أن توجد أية صلة بين أعمالها وسلوكها وبين ما ترفع من شعارات وتدعي من أهداف، وأما أن تكون لحزب البعث أصالة تستعصي على الإنتحال والتزوير، وأن تتجلى في الفارق النوعي الذي لا بد أن يظهر بين الأصيل الصادق النسب للحركة والمخلص لفكرها ومبادئها وبين الدخيل المزور. من هنا نشأ الحقد الدفين المتراكم الذي يكنه المزورون الحاكمون في دمشق للحزب الأصيل ولتجربته الفذة في العراق. البعث الصادق هذا هو طابعه المميز، البعث المؤمن بالحقيقة والقيم وبحكم التأريخ والأجيال القادمة.

قد يخسر بسبب هذه الطبيعة لما تقتضيه السياسة من شطارة وأساليب ملتوية، ولكنها خسارة مؤقتة وربح على المدى البعيد.

هذه الطبيعة من عوامل نجاحه الباهر في العراق، لأنها أيضا طبيعة العراق. كانت هذه الطبيعة وستكون دوما أساس النجاح الشعبي العميق لنضال الحزب في كل قطر عربي لأنها تلتقي مع الميل الأصيل في الشعب العربي الى الصدق.

هل يستطيع البعثيون اليوم أن يستحضروا في خيالهم وعقولهم لحظة البداية، وما كان فيها من جرأة وثقة بالأمة وبالمستقبل، عندما كان الكثيرون يقيسون حركتنا الى ما عرفوه وألفوه في العمل السياسي ويفترضون ان دوافعنا الى العمل لا تختلف عن دوافع رجال السياسة، وكان رهاننا على الصبر والثبات ونكران الذات. هذه الصفة المميزة التي هي الصدق هي التي تبين أكثر من غيرها الفارق النوعي بين حزبنا في العراق وبين المزورين المتسلطين على الشعب في سورية.

إن تآمرهم اليوم على العراق وتجربته الثورية المشرقة وتحالفهم مع إيران وحكامها الحاقدين التوسعيين ضد عروبة العراق ونهضته، كل هذا ليس إلا النتيجة الطبيعية لمؤامرتهم الاولى على الحزب في 23 شباط سنة 1966. وقبل تآمرهم على العراق تآمروا على عبد الناصر عندما ورّطوه في حرب مع "إسرائيل" لم يكن مهيئا لها.

ولكن البعث الأصيل يزداد تألقا كلما أوغلوا في التآمر والخيانة، ويشع أصالة قومية وأخلاقية كلما أمعنوا في حقدهم الأعمى وشعوبيتهم المنكرة.

 

* في تأريخ حزبنا وتأريخ أمتنا، كيف تقيمون الظاهرة القيادية لصدام حسين وهل أن ظهوره كان صدفة أم ضرورة؟

 

قائد يسد ذلك الفراغ

من الواضح أن الحزب، وبعد النكستين اللتين مُنيَ بهما في ردتي تشرين وشباط، كان يشكو من فراغ قيادي كبير. وقد لاحظت صفات الرفيق صدام القيادية في المؤتمر القطري في أيلول من عام 1963. إذ كنت أراه لأول مرة، وسمعته يوجه النقد الصارم للقيادة القطرية في ذلك الحين. وبعد سقوط ثورة رمضان إستدعته القيادة القومية لدمشق لتكليفه بإعادة تنظيم الحزب بالعراق.

لقد برهن الرفيق صدام أنه مستوعب لدروس النكسات الحزبية واختط أسلوبا في العمل يعيد للحزب تماسكه وقوته وطموحه. وبما أن الحزب هو حزب البعث، أي حزب الثورة العربية، حزب الوحدة، فكان من الطبيعي أيضا أن تكون الهموم القومية قد إنعكست على تفكير الرفيق صدام وتجربته الحزبية. ويكفي أن أشير إلى أن ثورة 17-30 تموز حدثت بعد هزيمة حزيران وجرح الهزيمة لم يزل حارا.

وفي هذا دروس بليغة لمن كان مثله مؤهلا في الوعي والإرادة ليهيئ نفسه للدور القيادي القومي حيث ترك غياب عبد الناصر فراغا كبيرا. فالواقع الحزبي والواقع القومي كانا يستدعيان ظهور قائد يسد ذلك الفراغ.

 

* تعتبرون علاقة الحب المتبادل بين القائد صدام حسين والشعب أعظم إنجازات الثورة وأعز ما كان يطمح اليه الحزب؟ أشعر أيها الرفيق الأمين العام أن هذه الفكرة بحاجة الى إيضاح منكم؟

 

تميز القائد البعثي

في كلامي عن الرفيق صدام لا أطلق أحكاما عامة، بل أصف وأحلل حالة خاصة تتعلق بالشخص وبالحزب. والإنجاز الأكبر في مقاييسنا البعثية هو بناء الإنسان في جو النضال والنهوض وتفجر طاقات الشعب.

وعندما تنشأ علاقة الحب بين القائد والشعب وتنمو وتتوطد تغدو المهمة سهلة والنفوس مهيأة مرنة متحفزة والعقول كذلك.. قد تنشأ علاقة حب بين قائد وشعب دون أن ينتج عنها بالضرورة بناء للإنسان، ولإنسان جديد. ولكن في هذه الحالة الخاصة، القائد بعثي وله شخصية متميزة فهو يحمل خصوصية البعث، الصدق، الصلة القوية بالأمة وتأريخها وبالشعب وتطلعاته، الصلة الوجدانية، المحبة، الاعتزاز، الاستعداد لأعلى درجات التضحية في سبيل الأمة وقيمها وأهدافها الكبرى، المعاناة من تآمر الأعداء الكثر على الأمة وثورتها ونهضتها وحقوقها المشروعة، المعاناة من الظلم والإفتراء والتجني الذي لحق بالبعث على امتداد مسيرته النضالية الطويلة لاضطلاعه بالدور التاريخي في حمل رسالة الأمة.

خلاصة هذه التجربة وما تلهمه من دروس وعبر تؤدي الى التفكير الناضج والتصرف المتزن والحساب الدقيق والشعور الحاد بالمسؤولية. واعتقد إن الرفيق صدام أعطى البراهين على تميز القائد البعثي عن غيره. إن فرحتنا بهذه العلاقة الصميمية بين القائد والشعب بأنها أتاحت الفرصة للعمل التاريخي.

لقد كتب الكتاب والمناضلون المتفاعلون مع التجربة وقرروا حقيقة علمية وصلوا اليها بالمشاركة والمعاناة وهي: أن القائد العظيم من الشعب العظيم. ولكن هذه الحقيقة العلمية نفسها كما تظهر من خلال التأريخ، تؤكد أسبقية دور الفرد القائد، الذي يطبع مرحلة تاريخية، ويطبع الشعب بطابعه، دون ان يقلل ذلك من عظمة الشعب الذي برهن بتجاوبه السريع والعميق مع صفات القائد وتفاعله المستمر معه والإمداد المتبادل بين الطرفين، أنه جدير بهذا القائد، وأنه نبع هذه الصفات والفضائل.. النبع الذي لا ينضب.

 

* لا أخفي عليكم أيها الرفيق الأمين العام إنني كمناضل بعثي أشعر بفخر كبير وأنا أتابع ظاهرة صدام حسين القيادية.. أنتم مؤسس الحزب وقائده. كيف تتعاملون مع هذه الظاهرة؟ وكيف تنظرون الى دور الرفيق صدام حسين في الفكر البعثي؟

 

شعور الإعجاب والفخر والسعادة

كان شعوري دوما إزاء ظاهرة الرفيق صدام حسين القيادية هو شعور الإعجاب والفخر والسعادة. الإعجاب بشخصيته الفذة، والفخر بكونه عربيا، والسعادة بكونه بعثيا. أكبرت فيه دائما الشخصية الشجاعة الراسخة كالطود تلهم الثقة في أحرج الظروف وأصعب الملمات. كما أعجبت بذكائه الحاد النافذ الذي يستبق الأحداث والذي كان يزداد تألقا مع ممارسة السلطة وظروفها المعقدة.. ولكنه الذكاء البعثي الذي يختلف عن ذكاء الحكام البارعين، بالجد والصدق والإتصال المباشر بالمبادئ والأهداف الكبرى والقيم الأساسية.

كان تعاملي مع ظاهرة الرفيق صدام القيادية تعامل الاحترام والحب، فهو دوما بالنسبة لي الأخ والرفيق أبوعدي، الإنسان النبيل.

وعندما أتيت لأستقر نهائيا في العراق كان من الطبيعي أن تتوافر فرص تعميق التعارف والتفاهم وكانت سعادتي كبيرة باكتشاف الجانب الفكري الموهوب والفهم الخلاق لفكر الحزب والقدرة على إغنائه من خلال الخبرة المكتسبة أثناء ممارسة السلطة.. وكان ذلك شيئا جديدا في حياة الحزب وقد ظهرت أهميته وآثاره الايجابية على ما أعتقد في هذه الحرب التي يخوضها العراق. فكان للعطاء الفكري اليومي للرفيق صدام أثر كبير في تحديد وإبراز الأبعاد القومية والتاريخية والحضارية للمعركة، وتعميق فهم المقاتلين وأفراد الشعب لها.

إن ما تم خلال هذه الحرب عظيم وتأريخي، ولا يقدم عليه إلا قائد تأريخي وشعب عظيم الطاقات، عظيم التراث الروحي والحضاري، شعب عريق. حرب تتفق مع قيم الحق والعدل، وترتفع بمستوى الوعي، وتوحد أبناء الشعب وفئاته المختلفة، وتفوت الفرصة وإلى الأبد على القوى الأجنبية والصهيونية التي أرادت أن تلعب بورقة التفرقة الطائفية والقومية. بني العراق وولد من جديد، ولمئات السنين، محصنا ضد كل محاولات الغزو والتخريب والتفرقة.

لو لم يكن عمل القائد أكثر من أنه حمى العراق من الهجمة التترية المخربة، لكان ذلك عملا تاريخيا، لأنه يكون بذلك قد أبقى العراق بكامل أرضه وسيادته وعروبته سالما من الأذى، مستعدا للمشاركة في أعباء المصير العربي، فكيف والأمر لم يقتصر على الصمود واتقاء الشر، بل تعداه الى تحقيق انتصارات باهرة وإنجازات عظيمة في كل مجال وعلى كل صعيد. أي أنه يقدم الى الأمة العربية بالاضافة الى سلامة الأرض والسيادة والعروبة، نهضة شاملة فذة ستكون ملهما وحافزا ورصيدا للأمة في بناء حاضرها ومستقبلها.

كيف نشر البعث؟ من اكتشاف بضع حقائق بسيطة وأساسية.. أو قل من ملامسة الواقع الحي ملامسة جديدة صافية بريئة متحررة. وهذا ما وجدته عند الرفيق صدام منذ أن توطدت بيننا العلاقة الفكرية بعد عام 1976 بتعرفي عنده على الفكر المبدع والتجربة الشخصية الأصيلة. وشعرت بتفاؤل شديد بمستقبل الحزب، وباطمئنان على فكر الحزب الأصيل، إذ أن الوفاء لهذا الفكر لا يكون بالتكرار والتقليد، بل بالخلق والإبداع.

وإذا أخذنا الظاهرة القيادية للرفيق صدام كظاهرة شخصية، أي كيف نشأت هذه الشخصية الفذة منذ الطفولة، وفي شروط الريف العراقي القاسية، ثم نمت وتطورت وبرزت مواهبها حتى وصلت الى هذا الحد النادر المثال من حيث النضج.. فإن ذلك يبعث الأمل ويعزز الثقة بشعبنا وقواه الكامنة وسجاياه الأصيلة التي تنجب أفرادا من هذا النوع المتفوق.

وإذا أخذناها كظاهرة قومية، فهي كذلك مبعث تفاؤل وثقة ويقظة أمتنا العربية وتصميمها على شق طريق التحرر والنهضة. اذ لا يفصل أكثر من عشرين عاما بين ظهور عبد الناصر وظهور صدام حسين. والمغزى من ذلك ان الجو القومي العربي يزداد توترا وإصرارا على مواجهة التحديات المصيرية ويحرض ويلهم الأفراد الموهوبين أن يجسدوا إرادة الأمة.

ونعتقد أن الصورة التي يعطيها الرفيق صدام حسين عن تجسيد هذه الإرادة تشكل تقدما محسوسا في الوعي والنضج والتكامل على من سبقه. وهذا هو الشيء الطبيعي والمنطقي إذا اعتبرنا تجارب الأمة العربية النضالية حلقات متصلة، ومسيرة واحدة متكاملة.

 

* نعرف موقع الرفيق ميشيل عفلق في عقل وضمير الرفيق صدام حسين، أي معنى أخلاقي يعكس ذلك؟

 

موقف الوفاء بأجمل معانيه

أشعر بتقدير لا حدود له للعلاقة المتميزة التي خصني بها الرفيق العزيز صدام حسين والتي جسدت الوفاء الصادق والخلق الرفيع في التعامل الرفاقي والإنساني، ولا عجب فهو قائد تأريخي يتصرف ويتعامل بالمقاييس التاريخية ويرسي قواعد السلوك للأجيال القادمة. وإني أشعر بسعادة عميقة عندما أتصور مستقبل الحزب وقد ترسخت فيه هذه الأخلاقية وانفتحت أمامه قلوب الجماهير العربية في مختلف أقطارها واطمأننت الى تحقيق مستوى جديد من التعامل الإنساني على أرض العرب.

نعم إن موقف البعث في العراق مني، والرفيق صدام حسين بخاصة وبشكل مميز، هو موقف الوفاء بأجمل معانيه. ولئن كان ذلك يشكل لي شخصيا عزاءا كبيرا إذا ما تذكرت كل حالات التنكر والغدر التي شاهدتها وكنت هدفا لها خلال مسيرة الحزب الطويلة، فإن القيمة الموضوعية لهذه الفضيلة تبقى في نظري هي الأهم، أن تتثبت وتترسخ في الحزب قيم أخلاقية أصيلة وعميقة وناضجة، لتكون حصانة للمناضلين، ومقوما من أهم مقومات إستمرار ونجاح حزبنا. وكثيرا ما ردّدت منذ بداية الحزب وحتى الآن، أن التعامل الأخلاقي هو بالنسبة الى حزبنا، ضرورة عملية وحاجة واقعية.

لقد بادلتهم حبا بحب، ووفاء بوفاء.. ويحلو لي أن أنسب كل الفضل لهم، لأني أشعر أني منهم كما أنهم مني.

 

16 تموز 1983

(1) حوار صحفي أجراه الرفيق حميد سعيد رئيس تحرير جريدة الثورة بمناسبة الذكرى الخامسة عشرة لثورة 17- 30 تموز.

 

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الخامس