ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الخامس


العراق ومعركة فلسطين

 

 

 

 

- هل لكم ان تعودوا بذاكرتكم الى ايام التأسيس الاولى للحزب لتحدثوا (وعي العمال) عن الانتشار الاول للحزب في صفوف الطبقة العاملة(1).. ؟

 

عندما اعود بالذاكرة الى السنوات الاولى لنشاة الحزب، في بداية الاربعينيات، يتأكد عندي الشعور بأن الحزب نشأ نشأة طبيعية صادقة، فشعار الحزب الذي يحدد اهدافه الكبرى (وحدة، حرية، اشتراكية) كان ترتيبه لايزال غير مستقر. ولم يأخذ الشكل الاخير المعروف الا في العام 1949.

 

وبالرغم من ان الحزب اعتبر اهدافه الثلاثة متساوية ومتكاملة ومتفاعلة، فإن التسلسل في الترتيب الاخير يحمل معنى التسلسل في القيمة والاهمية، فالوحدة العربية، والقومية االعربية، والهوية االعربية الحضارية تحتل في ضمير البعثيين المكان الاول والارفع. والحرية التي تعني بالاضافة الى النضال التحرري ضد الاستعمار واستبداد الحكومات الرجعية والعميلة، الوعي والتربية، وروح الثورة والنضال، والابداع والبطولة، فانها تأتي مباشرة بعد تعيين الهوية القومية الحضارية. وتأتي بعدها الاشتراكية، وهي التي تهتم  بمعالجة اوضاع  الشعب العربي الاجتماعية والاقتصادية.

ثم احاول ان اتذكر بدايات النضال الحزبي، فاجد ان الحزب بدأ بالتركيز على كسب الطلاب، كقاعدة اولية واساسية لحمل افكاره والنضال في سبيلها. كما اجد ان القضايا التي بدأ الحزب يبشر بها ويناضل من اجلها كانت قضايا الوحدة العربية والتضامن مع الاقطار العربية في نضالها ضد الاستعمار الاجنبي، كحركة (نصرة العراق) عام 41، والتضامن مع كفاح القطر اللبناني في معركته التحررية ضد الاستعمار الافرنسي، عام 43، والانتصار لنضال الشعب الجزائري، وضد القمع الاستعماري عام 45،..

 

في الوقت نفسه، كان الحزب في سورية يناضل في سبيل الحرية والتحرر، وضد سياسة التسويات مح المستعمر، وضد قمع الحكومات الرجعية للحريات العامة واعتدائها المتكرر على الدستور. وبعد ان رسخ الحزب في وعي الجماهير الطلابية، وعن طريقها، في وعي الجماهير الشعبية، هويته العربية، القومية الوحدوية، ومواقفه الثورية الحاسمة من الاستعمار

والاحتلال الاجنبيين، ومن الحكومات المفرطة او المستاهلة في حق البلاد في السيادة والاستقلال الناجز، وذلك من خلال مواقف ومعارك خاضها الحزب وقدم في سبيلها التضحيات، اخذ يطرح الموضوعات الاجتماعية وينظم المظاهرات والاضرابات، دفاعا عن خبز الشعب وحقوق الطبقة العاملة، وحقوق الفلاحين الرازحين تحت وطأة  الاقطاع. وكان اول اضراب ومظاهرة في هذا السبيل في مدينة حمص عام 46، واستمر ذلك في تصاعد حتى استطاع الحزب، بنضاله الشعبي الواسع، ان يجبر الحكومة على تأميم شركة حصرالتبغ (الريجي) الافرنسية عام 1951.


وان ما أحرص على تسجيله في هذه المناسبة، هو ان العمال، اول ما بدأ دخولهم وانتسابهم الى حزب البعث، كانوا يشتركون في التنظيم مع الطلاب وقطاع المعلمين واصحاب المهن الحرة، ولم ينشأ لهم تنظيم خاص بهم الا في اوئل الخمسينيات، ومعنى ذلك انهم كانوا يتلقون الثقيف القومي الثوري، وينظرون الى قضاياهم العمالية كجزء من المعالجة العامة الشاملة للقضية القومية، اي لوحدة النضال العربي، ولمقاومة الوجود الاستعماري، والنضال ضده بكل الوسائل، ولمجابهة الحكومات المستسلمة للاجنبي، والمدافعة، في الوقت نفسه، عن مصالح الاقطاعيين والشركات الرأسمالية والشركات الاجنبية.

 

- كيف تنظرون الى تأثير  تجربة الحزب في القطر في ظل قادسية صدام المجيدة على مستوى النضال العربي التحرري..؟

ان الامة العربية في هذه الفترة متعطشة الى ما يحيي املها، ومتعطشة الى الفروسية والاعمال البطولية والنظرة الجدية، والجرأة والاقدام، والنزعة الحضارية، والنزوع الى التقدم والتفوق، وكل ذلك وجدت الامة تباشيره في تجربة العراق الثورية. كل ذلك تحتاجه الامة لتداوي الانكسار الذي خلفته في نفسها تصرفات بعض الحكام الذين اذلوها باستسلامهم وركوعهم امام العدو، وتفريطهم بالحقوق والكرامة. تحتاجه الامة لتعالج ماخلفه في نفسها الذين يلعبون بمقدراتها ويتآمرون على مستقبلها، ويتشفون من تاريخها بدافع عقدهم واحقادهم التاريخية وهم محسوبون من ابنائها
.

ولان القطرهو العراق، ولان الحزب هو البعث، ولان القائد هو صدام حسين، تحولت تجربة القطر الى انجاز قومي تاريخي.

 

لان الامة العربية في مرحلة انبعاث، ولان العصر هو عصر الوحدة، فان العراق عندما ينهض نهوضا شاملا، تكون الامة العربية هي التي، من خلاله، تحقق نهضتها، وتقترب من وحدتها.

 

حيث يكون الصدق والعمق والبطولة في اي عمل عربي، تكون الامة حاضرة فيه كلها، ويكون هذا العمل خطوة على طريق الوحدة.

 

ان اول مساهمة للعراق الجديد في النضال العربي التحرري، هي انه حمى نفسه من الغزو الايراني التوسعي، ومن اغراضه الخبيثة المبيتة، والتي تلتقي مع اغراض الصهيونية واسرائيل. فعندما يبرهن العراق على مناعته ضد الردة، وعلى انه يملك بنية صحية قوية، فهذه اول خدمة يقدمها للامة االعربية ونضالها في سبيل تحررها ووحدتها. لان العراق جزء مهم وخطير وقيادي في جسم الامة، فبقاؤه صامدا، سالما  ومعافى، هو في حد ذاته تعزيز لثقة الامة بنفسها وبقدراتها، كما انه تعزيز لأملها  في الانتصار على اعدائها، ولا احد يستطيع ان يتصور ان معركة تحرير فسلطين ممكنة دون العراق العربي القوي، ودون ان يكون العراق في الطليعة والمقدمة.

اما المساهمة الثانية والاهم، فهي ان العراق الجديد، لاتقتصر ميزته على انه صمد وسلم من الاخطار، بل انه يعيش حالة فريدة من العطاء والابداع، والمشاركة الشعبية الجماعية المتفجرة بالحماسة والطاقات، فهو يقدم نموذجا للنهضة ملهما ومحرضا، وينبوعا متدفقا من الجرأة والاقدام، لا تستطيع اية قوة ان تعزله عن وسطه الطبيعي، الذي هو الوطن العربي الكبير، وساحة النضال العربي الواسعة.

 

ان الاعداء من الامبرياليين والصهاينة والقوى الاجنبية التي لايروق لها ان ترى بلدا عربيا يسير في طريق النهضة، ويشكل قوة احتياط حديثة جدية لمعارك التحرير العربي القادمة، هؤلاء كلهم يتصرفون بوحي مصالحهم الاستعمارية العدوانية الشريرة، ولكن العرب الذين وقفوا مع اعداء العراق، ضد العراق، والعرب الذين  يمالئونهم ويشجعونهم في الخفاء قد اثبتوا انهم هم امراض الامة االعربية والسبب الاول في نكباتها.

لقد مضى على الحرب اثنان وثلاثون شهرا، والعراق يصارع ويصد الغزو من بلد يفوقه عددا ومساحة وثروة، وهو صامد يصنع البطولة كل يوم، ويبرهن بهذا الصمود وهذه البطولات الفذة انه عراق جديد، وانه جدير برعاية جماهير الامة العربية، وبحبها وتأييدها الفعال.

 

ورغم كل مظاهر التردي المخيم على الاقطار االعربية، فيبقى ان ضمير الامة العربية هوحقيقة حية يهيمن  على الاجواء العربية من المحيط الى الخليج، ويذكر العرب باهمية العراق ودوره وفضله، وما يؤمل منه لمستقبل القضية.

 

ان المعركة المجيدة التي خاضها الجيش العراقي بكفاءة كبيرة، ووعي نادر، وبطولة رائعة، وغذاها الشعب العراقي بروح عالية من الفداء والبذل والتضحية، فجعلته يعيش في اجواء الانجازات التاريخية الخالدة، ان هذه المعركة، قد اخذت طابع مشاركة عامة وشاملة، وحارة وعميقة. وكان للقيادة الفذة للرفيق صدام حسين دورها الكبير المجيد في اعطاء القدوة في الشجاعة والصمود، والثقة بالنفس وبالشعب، والايمان بحق الوطن وعدالة قضيته، قيادة اعطت المعركة ابعادها الفكرية القومية والتقدمية، وجعلت منها انضاجا وتتويجا لنهضة الشعب، وصهرا لوحدة طبقاته وفئاته وطوائفه، وتعميقا لوطنيته وحسه القومي الحضاري.

ميشيل عفلق

 بغداد في 27 نيسان 1983

 

(1)حديث لمجلة وعي العمال بمناسبة الأول من ايار عيد العمال العالمي.

 

الصفحة الرئيسية للجزء الخامس