ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الخامس


البداية الصحيحة

 

أيها الرفاق والأخوة الأعزاء

عيد الطبقة العاملة يوحي بأفكار ومبادئ وقيم عزيزة وثمينة، إذ يذكرنا بظهور حزبنا، بنشأته وبالعوامل العميقة والدواعي الإنسانية التي كانت وراء ظهور هذا الحزب.

فلقد كان الخيار الإشتراكي من أهم الخيارات التي وضعتها الأجيال العربية الشابة قبل أربعة عقود من السنين هدفا لها وتعبيراً عن وعي عميق للسمات الأساسية التي يجب أن تتصف بها النهضة العربية الحديثة..

 

الاشتراكية خيار إنساني

فالإشتراكية لم تكن بالنسبة الى تلك الأجيال خياراً اقتصادياً بالدرجة الأولى، وإنما كانت خيارا إنسانيا وحضارياً يتصل بالقيم الإنسانية والأخلاقية والحضارية التي قام عليها تاريخ الأمة العربية والتي نلتقي بها في حضارة هذا العصر جنباً الى جنب مع نضال الشعوب في سبيل الحرية والكرامة والعدالة وبناء الحياة الجديدة. خيارنا الإشتراكي كان من أجل ان تصبح قوميتنا حقيقة حية فاعلة مبدعة لا أن تبقى كما كانت لفظة عاطفية ليس لها تأثير وفعل جدي في الحياة والتاريخ.

عندما لا تكون الجماهير الواسعة الكادحة المنتجة هي دعامة القومية فإننا قد نكون قد حكمنا على أمتنا بالتخلف والضعف والإندثار. عندما لا تكون الجماهير الشعبية الواسعة الكادحة هي العامل الأساسي للنهضة وللثورة فلن تكون الثورة مشروعا حضارياً وتحولاً تاريخياً بل شيئا سطحياً ووقتياً عديم الإشعاع.

 

العودة الى الشعب

العودة الى الشعب، العودة الى الجماهير، الى أعماق الجماهير، الى روحها وأخلاقها ومثلها العليا، هذه هي البداية الصحيحة لكل حركة ثورية أصيلة وعميقة، واننا منذ البداية نهلنا من معين الشعب واستلهمنا روح الشعب، لم نختر اشتراكية مجردة وانما كانت إشتراكيتنا حية مستقلة، من نتاج أرضنا، ومن حاجاتنا ومن أخلاقنا، وكنا بذلك نستند الى حقيقة وهي أن الرجوع الى الأصالة والى الخصوصية، خصوصية الشعب وقوميته وتاريخه هي الطريق الصحيح الى الإنسانية، وليس العكس. ليس ان نبدأ بالأفكار المجردة وان نقسرها قسرًا لكي تتطابق مع وسط لم تخلق له ولم تتولد من حاجاته، ذلك لأن إرادة التجدد والتقدم في حزبنا كانت مقترنة منذ البدء بروح الأصالة، وهكذا استطاع الحزب أن يسلك طريقاً طموحة، طريقاً جريئة غير معبدة، طريق الاستقلالية التي كانت رهاناً على المستقبل، ومجازفة قائمة على الثقة العميقة بالأمة وبأصالتها، وبالإنسان العربي وباستعداده اللا محدود للثورة والتجدد والتقدم، كما كانت قائمة على الثقة بالإنسانية وبعمق نزوعها الى الحرية، بأن الشعوب عندما يستلهم كل منها طريقه الخاص الصادق فلا بد أن تصل كلها الى صعيد مشترك وتلتقي لقاءً حراً لا اصطناع فيه ولا قسر.

 

أيها الرفاق والأخوة الأعزاء

هذه الأيام الخالدة التي نعيشها في العراق العظيم، عراق العروبة والبعث، جاءت لتعزز ثقتنا بتلك الأفكار، بتلك المبادئ، بذلك الطموح. إن هذه الطريق التي اختطها الحزب والتي أراد أن تكون تعبيرا عن إرادة الأمة وحرية الشعب وأعمق حاجاته وتطلعاته، نجدها الآن فعلا قد حققت صورة رائعة فريدة من حيث تطابقها مع الرؤية الأولى التي راودت الحزب عند بداية نشوئه، هذه اليقظة عند مجموع الشعب، هذا الإنسجام بين الشعب وبين المبادئ والأفكار، هذا الإندفاع، هذه الحالة الإيجابية التي لا تتحقق إلا في فترات نادرة في حياة الشعوب، أليست حالة تستحق أن يتوقف عندها الأخوة العرب والرفاق التقدميون في العالم الذين نشترك وإياهم في المبادئ وفي التطلعات الإنسانية؟ هذه حالة نعتقد أن فيها خيراً لأمتنا كلها، وأن فيها خيراً وأنموذجا وحافزاً وإضافة للنضال الثوري الإنساني كله.

عندما تفرض على الشعب حالة الحرب دون أن يريده، وعندما يأتي الاستفزاز والتحرش ومحاولة التخريب ليستهدف وضعاً كوضع العراق في ظل ثورة الحزب في هذا القطر وفي طورها الناضج المشرق السخي بالعطاء الواعد بعطاء أكبر وبإنجازات أعظم، عندما يأتي الاستفزاز والتخريب لينال من تجربة ثورية من هذا النوع، تتميز عن مجموع الأوضاع العربية المؤسفة المحزنة وتكون هي التي تعيد للجماهير العربية ثقتها بنفسها وبالمستقبل، هل تكون محاولة تخريب هذه التجربة بدافع خير وبوحي الحكمة والعقل النير أم انه التعصب الأعمى والجهل والتخلف، يثير عنعنات ومشاكل آن للأمة أن تتجاوزها، وقد تجاوزتها في كثير من أجزائه، وآن للأمة العربية أن تدفن مثل هذه العقليات وان تتطلع الى النور والى التقدم.

 

قائد تاريخي

لذلك قلت بأن الحرب فرضت على هذا القطر، وان العراق يحارب دفاعاً عن النفس وعن أرضه، وعن تجربته التي بناها وغذاها من عَرق الجماهير الكادحة سنين طويلة أمضتها في بناء هذه التجربة، في ظل هذا الحزب القومي التقدمي، وفي ظل قيادة تاريخية، وقائد تاريخي، جمَع الشجاعة الى الحكمة، وجمع البسالة والبطولة الى العقلانية والعلمية، فكان دفاع العراق هو أيضا عن مستقبل الأمة العربية، عن شخصيتها وعن هويتها، عن دورها الحضاري، عن حقها في التحرر والتقدم وتجاوز مرحلة العقلية الغيبية المتخلفة المريضة.

 

شيء إيجابي ثمين في الحياة العربية

وها هو العراق في دفاعه يحقق على امتداد ثمانية أشهر النصر تلو النصر باندفاع شعبي أتمنى لو أن كل العرب يتاح لهم أن يشاهدوه، وأن يعيشوه، وأن يلمسوه عن قرب، فهل هذه الحالة هي حالة عادية يمكن ان يتجاهلها العرب ويتناسوها؟ أم أنها شيء إيجابي ثمين في الحياة العربية جدير بأن تحميه القلوب والأفئدة، جدير بأن يتنادى العرب من مشرقهم الى مغربهم لكي يرعوه ولكي يحتضنوه لأنه منهم وإليهم، لأنه لمستقبلهم؟

ليس هذا شيئاً عاديا، ليس نصراً تحقق في أيام ثم انتهى، هو نصر عربي مبين يترسخ على امتداد ثمانية أشهر، ويزداد رسوخا، ويزداد قوة، ويزداد نصوعا، ويقول لأمة العرب: هذه هي إمكاناتك وقدراتك عندما تتحررين من الأوضاع الفاسدة المصطنعة، هذا هو مستقبلك، إنتصار لا يعرف التراجع.

أي مقياس أيها الرفاق والأخوة أصح من مقياس الشعوب، وإرادة الشعب، وعاطفة الشعب؟ هذا هو أصح مقياس، وأصدق مقياس على مر العصور وفي كل البلدان وفي مختلف المجتمعات دوما. فهل يستطيع الحاكم الذي يعلن الحرب على شعبه، ويعيش حالة حرب دائمة مع شعبه، هل يستطيع ان يحارب العدو؟ فإذا قيل لنا هذا نظام تقدمي فنسأل: كيف هي علاقته بالشعب؟ واذا لم تكن علاقته علاقة إيجابية، علاقة حب عميق وتعاطف وتسابق في العطاء والإبداع فتكون تلك التقدمية تقدمية مزورة.

 

تنتظرنا معركة فاصلة

إننا ننتظر معركة فاصلة نعرفها كلنا، نعرف أعداءنا ولم نقل أن هذه المعركة التي فرضت علينا في الوقت الحاضر هي المعركة المصيرية للأمة العربية، نعرف بأن معركتنا المصيرية هي في فلسطين، معركتنا ضد الصهيونية والإمبريالية وكل أعداء الحرية والتقدم والسلم، هذه هي المعركة الفاصلة، ولكن كيف نصل اليها وكيف نوفر الحد الأدنى لشروطها إذا لم نبرهن على توافر هذا الإنسجام بين الحكم وبين الشعب، على توافر هذا المناخ الصحي النظيف الذي تطمئن اليه روح الشعب فتعطي بدون حساب وتمنح البطولات والمعجزات لأنها تكون قد وثقت وأحبت، فإذا كنا نريد ان نختصر الطريق الى تحرير فلسطين فلنبدأ بتوفير مثل هذه الأجواء لأن الحكم الذي لا يتصالح مع شعبه يكون عمليا قد تصالح مع العدو أو هادنه او تواطأ معه.

 

بدأنا البداية الصحيحة

البداية الصحيحة هي في المصالحة مع الشعب، في الإنسجام مع الشعب، إننا نشعر بأننا بدأنا البداية الصحيحة والتهيئة الجدية لمعركة المستقبل ولا يخالجنا شك في أن ضمير الأمة الحيّ المتيقظ يرى ويميز ويقف الى جانب الحق وفي صف الحياة الجديدة المبدعة.

 

4-أيار-1981

(1) كلمه خلال استقبال الوفود العمالية 4/5/1981.

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الخامس