ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الخامس


طموح البعث أن يكون حركة حضارية

 

حزبنا في القطر السوداني، له مكانة خاصة في نظر قيادة الحزب، لأننا لمسنا فيه، منذ البداية، التوجه السليم، والروح النضالية والإرادة مع الفهم الحديث، فكانت بدايته، من البدايات السليمة في تاريخ الحزب وفي الأقطار العربية.
إعتمدت هذه البداية اعتمادا كلياً على جهود الرفاق في السودان، فالحزب لم يمدهم بأكثر من الرصيد الفكري والنضالي، أمدهم بتراث، بخلفيةٍ، بماضٍ، ولكن هم الذين تكفلوا في بناء حاضرهم ومستقبلهم، كمناضلين بعثيين في السودان ولا شك عندي بأن هذا الإعتماد على النفس، والذي كان أكثره إضطراريا، لحسن الحظ، ولحسن حظ الحزب، وحظ منظمته في السودان، أن الظروف كانت قاسية، صعبة الى حدّ أنها لم تسمح للمركز بأن يرفد المنظمة في السودان، كما هو المنتظر عادةً.. ان هذا الاعتماد على النفس قد أدى الى نتائج إيجابية ثمينة، فكانت هناك ظروف سياسية عربية صعبة، وكانت هناك ظروف داخلية في الحزب أيضا، تعطل هذا الدور، دور الإتصال الفعال بين المركز والمنظمة، وكان على الرفاق ان يجدوا طريقهم بأنفسهم، وان يبتكروا، وان يجددوا ويهتدوا بالتجربة، بالاهتداء بتراث الحزب -كما قلنا- ولكن بصورة خاصة بالنظر نظرة مستقلة ومبدعة الى الواقع، فأوجدوا تلك الصورة الحكيمة التي سمحت لحزبنا في السودان ان يتجنب ما تعرض له في بعض الاقطار، نتيجة الخلاف الذي حصل بين الحزب وبين (الله يرحمه) عبد الناصر، وبالتالي بين الحزب وبين جماهير الحزب، والجماهير الناصرية، وكانت الجماهير الناصرية أوسع بما لا يقاس من جماهير الحزب، لأن الحزب هو الذي أطلق -في البداية- هذه الأفكار التحررية والوحدوية، ولما تبناها عبد الناصر، إمتزج الحزب مع عبد الناصر بشكل أنه لم يعد بالإمكان الإبقاء على الحدود التي تميز شخصية الحزب؟ وكان لذلك نتائجه، ولا مجال للخوض فيها الآن.
المهم أن هذه الصورة التي اهتدى اليها رفاقنا، كانت بحد ذاتها، معبرة عن جدارتهم وكفاءتهم، وعن رؤية غير إعتيادية، ليحافظوا على موقع الحزب بين الجماهير، ليتجنبوا التناقض بين الحزب والجماهير، الجماهير الواسعة، وتطورت هذه النواة بالشكل السليم أيضا، والحزب يتطلع باستمرار، بأمل كبير الى النضال القائم في السودان.
كانت هناك فترة حرجة، مر بها الفرع وامتُحن فيه، ونجح في الإمتحان. كان محصورا في وسط جامعي طلابي مثقف وكان مهددا بخطر مزدوج، ألا ينجح بالوصول الى الجماهير الواسعة الكادحة، ان يبقى يسير بالوسط المثقف والطلابي، أو أوساط المعلمين، المحامين، والأطباء الذين تخرجوا من الجامعة، وكان الخطر الآخر الذي له علاقة بالأول وهو أن تفوته فرص النضال القومي، ان تكون تجربته النضالية ناقصة. قلت بأن الحزب نجح في الامتحان، لأنه خاض معارك، وهذا يعني أنه انتصر على نفسه، إنتصر على القوقعة الثقافية، التي تقف أحيانًا سداً حاجزاً بين الشاب الثوري المثقف وبين الفعل، بين الفكر والممارسة، فكانت لحظة ثمينة وحاسمة عندما زج الحزب بنفسه في هذا المعترك، وهذا ما مكنه - ايضاً - من التغلب على المشكلة الكبرى وهي عدم الإنحصار في حدود العمل الطلابي، أو المثقفين، والوصول الى الجماهير الواسعة. فأصبح للحزب رصيد نضال في السجون وفي المعتقلات.. رصيداً من الآلام التي يحملها المناضل، والتي تلفت اليه نظر الجماهير وتجعله موضع ثقة.
هذا بالإجمال ما نشعر به، من خلال استعراض تاريخ منظمتنا في السودان، بالخطوط العريضة، وتجعلنا متفائلين دوما، ومنتظرين المزيد من العطاء، الشيء الهام الذي أود أن الفت إنتباهكم إليه، وأنا متأكد أنكم تعونه، ضرورة أن تكون منظمات الحزب القومية في الوطن العربي قائمة بدورها بكل جدية، كما لو لم يكن لها هذا السند الكبير والثمين الذي هو تجربة الحزب في العراق وتجربة الحكم في هذا القطر الذي هو -كما يسميه الرفيق بدر باستمرار- القاعدة المحررة للأمة العربية، للثورة العربية، فالحالة المثالية هي أن يعمل الحزب.. أن تعمل منظماته بدرجة من الجدية والإندفاع والإعتماد على النفس كما لو كانت وحدها المسؤولة، نقول كما، إذا، هنا يوجد واقع إيجابي، تعب الحزب طويلا حتى حققه، هو تجربة الحزب في العراق، وعندما تنجح مثل هذه التجربة وتنمو وتتكامل بشكل غير إعتيادي.. بشكل فيه من عوامل الصحة والإستقامة والإبتكار والإندفاع والجد، ما يجعلها تجربة فريدة ورائدة.. وهي جديرة أن تكون هي القاعدة للثورة العربية كلها، فإذن هي قادرة أن تخطط لنضال الحزب القومي وهي قادرة أن تزود الحزب القومي بشتى الوسائل المادية والمعنوية، أن تقدم له الكثير من تجاربها، من ثمار التجربة النضالية والتنظيمية والسياسية، بشكل يسهل على فروع الحزب في الأقطار العربية ويمكنها من إختصار الزمن.
إن هذه الإيجابيات لا يمكن ان نهملها او نتجاهلها، ولكن في الوقت نفسه، لا يجوز ان نتعامل معها بدون تعمق في النظرة، وبدون إنتباه وتوتر في الوعي وبالشعور، فلكي تكون هذه الأشياء الإيجابية التي تقدمها ثورة الحزب في العراق الى الحزب القومي، لكي تكون -فعلا- إيجابية، أي مضافة الى المزايا النضالية التي يتمتع بها الحزب القومي، لا بد أن تكون مدركة لتلك الضرورة وإلا فإنها تصبح متكأ وبديلا، أو ما يشبه ذلك، وتكون مضعِفة لروح الإستقلالية ولروح الإعتماد على النفس، وعندئذٍ تنعكس الآية فلا الحزب القومي يستفيد، ولا ثورة الحزب في العراق تستفيد لأن الحزب القومي الذي لا يحسن التعامل مع هذه الإيجابيات يضعف دوره، أو يفقد دوره في قطره، ويصبح عبئاً أيضاً على ثورة الحزب.
نضال الحزب لا يمكن أن ينحصر في مكان واحد ولا في مكانين، وإنما يجب أن يكون في كل الأقطار التي إستطاع الحزب أن يكوّن فيها نواة، وأن يكون الإعتماد على النفس هو القانون الأول، عندها تكون المحصلة محصلة ضخمة وإيجابية عندها يكون - فعلا - النضال نضالاً قوميا، لأنه قام على المشاركة الفعلية لجماهير شعبنا العربي في كل جزء من أجزاء الوطن العربي، وليس النضال بالنيابة، ليس شيئاً فوقيا، نحن أجزاء لوطن واحد، ولأمة واحدة، ولكن النضال يجب أن يكون في كل قطر يقوم به الحزب، وأن يشرك فيه جماهير الشعب حتى تكون المحصلة بأن جماهير الشعب العربي كلها، تكون قد شاركت في صنع ثورتها التحررية الوحدوية الإشتراكية، وتكون هذه المشاركة الفعلية في مستوى واحد من الوعي المتقارب، عندئذٍ تكون جماهير الأمة، في مختلف أقطارها، محصنة ذاتيا، فهي عندما تدفع الثمن، وعندما تشارك، وتصنع نضالها، تكون محصنة ضد النكسات وضد التأثيرات الخارجية.
والآن أترك للرفاق مجالا لطرح الأسئلة.

 

******************

 

الرفيق نائب الأمين العام، عندما تكلم عن دور النشاط الخاص في البناء الإشتراكي، أشار إلى أن الملكية الخاصة في الحزب، عندما تطرح في المرحلة الحالية، لا تطرح باعتبار أنها مسألةً مرحلية مرتبطة برغبتنا بأن يشارك القطاع الخاص بعملية التنمية.. إنما النشاط الخاص مرتبط بالإشتراكية فهو نشاط ثابت ودائم في تفكير الحزب، في حين نلاحظ في المنطلقات النظرية وردت إشارات الى أن الملكية الفردية، مهما كان نطاقها ضيقاً هي بالنهاية ستكون ملكية مستغلة.. وأن اشتراك الحزب في الملكية الفردية، بمرحلة محددة من المراحل، كان له آثار ضارة على تفكير الحزب، وهنا نؤشر وجود افتراق بين الطرحين، نحن نلاحظ أن الأطروحات الموجودة حاليا في الساحة العراقية منسجمة مع الأفكار والمبادئ التي طرحها الحزب في الأربعينات والخمسينات، أكثر مما ورد في المنطلقات النظرية نفسها.. ونلاحظ أن الرفيق القائد المؤسس كان له بعض الإعتراضات على المنطلقات النظرية نفسها، والتي كان قد أشار لها في اجتماعات اللجنة العقائدية أو في اجتماعات المؤتمر القومي السادس، باعتبار أن العناصر التي كتبت التقرير العقائدي نفسها - كانت تحاول أن تطعن في تاريخ الحزب وفي تراثه، وكان عنده اعتراضات عليها.. الشيء الذي نريد أن نعرفه من الرفيق القائد المؤسس: هي الظروف التي وضعت فيها المنطلقات النظرية، والتي جعلتها تفترق عن الطروحات والمبادئ التي كان الحزب قد طرحها في البدايات من نشوئه، والظروف التي مكنت الحزب حالياً من خلال التجربة العراقية، أن يعود مرة ثانية لمنطلقاته الأساسية. (الظروف التي صاحبت اصدار المنطلقات النظرية في المؤتمر القومي السادس بتلك الصورة، والظروف التي صاحبت تجربة الحزب في القطر العراقي، والتي جعلته قادرا على أن يعود بمنطلقات الحزب الأصيلة، متجاوزا مثل هذه الظروف).

 

- الرفيق نائب الأمين العام على صواب، عندما يقول بأنه ليس شيئاً مرحليا، وإنما شيء ثابت لفكر الحزب من بداية الأربعينات، كل الأفكار الأساسية في حزب البعث متكونة عند الذين بدأوا، متكونة تكويناً فكريا، نتيجة تفكير مستقل، ونتيجة درس واطلاع على التجارب الثورية الأخرى، نتيجة دراسة التاريخ العام، وتاريخ البشرية، والدروس التي يمكن أن نستخلصها من التاريخ، ومن تاريخنا القومي، من حياة أمتنا، كل ذلك كان حاضرا عندما سجلنا هذه الأفكار الأساسية، سواء في المؤتمر الأول، في مواد الدستور، أو قبل ذلك في الكتابات، ومن جملة هذه الأفكار موضوع الملكية الخاصة. نحن طموحنا كان، أن حزب البعث ليس مجرد حزب سياسي، ولا حتى مجرد حزب ثوري، وعندما نتكلم عن الطموح نعني ان المهمة التي على الأجيال المناضلة أن تحققها فيما بعد لكي تجعل هذا الطموح حقيقة: الطموح بأن يكون حزب البعث حركة نهضة عربية شاملة، حركة حضارية، حركة تجديد وبعث وانبعاث للأمة العربية في كل نواحي النشاط الإنساني، وإن دلائل كثيرة تشير إلى أن الأمة العربية مهَيأة لهذه النهضة وهي تتمخض عنها، لذلك فإن الرفاق الأوَل في الحزب، إنطلقوا من ثقة بالنفس، متأتية من ثقة بالأمة، وهي ليست وجدانية وإنما موضوعية، هناك دلائل كثيرة تشير الى هذا الإستعداد وهذا التحفز، فعندما يكون الطموح بناء حركة تشق الطريق لنهضة عربية شاملة، في السياسة، وفي الاجتماع، وفي الاقتصاد وفي الحرب وفي السلم، والإختراع، وفي الفنون، سميناها البعث العربي، ولفظة إشتراكية، أتت فيما بعد، عندما صار الإندماج بين حزبنا وحزب الأستاذ أكرم الحوراني. كان ثمة إصرار على إضافة كلمة إشتراكي، لأن لها جاذبيتها، ولها تأثيرها لكنها من حيث منطق الفكر البعثي، فهي محصلة بديهية، لأن البعث العربي بعث لكل شيء، وللاشتراكية، فاذن ما هي الا مزاودات، والمنطلقات النظرية تدل بدورها على عقلية مراهقة، وخلف المزاودين على القيادة التاريخية للحزب، آنذاك كانت تكمن دوافع الإنتهازية، دوافع القفز السريع الى السلطة والمراكز القيادية فحشروا هذه المبالغات، دون قناعة، دون دراسة. فالملكية الخاصة لم تكن عندهم الضحية الوحيدة، فقد كانوا يريدون ذبح القومية بكل بساطة، لأنهم كانوا يعتبرون أن القومية شيء متخلف ويجب أن تزول، طبعا لم يُترك لهم المجال لأن يعبثوا بمصير الحزب وبمصير الأمة بمثل هذه الخفة، لكن رغم ذلك بقيت بعض البصمات على المنطلقات النظرية.. بصمات الغوغائية والإنتهازية، فإذاً، من يفكر في المستقبل الناهض المبدع للأمة العربية لا يمكن أن يأخذ الأمور بمثل هذه البساطة، بإلغاء الملكية الخاصة، إنما يتقيد بمبدأ منع استغلال الإنسان للإنسان واتخاذ التدابير لمنع تشكّل قوى إقتصادية يمكن أن تكون مستغِلة لجهود الآخرين. أما الملكية في حدود بسيطة، فهذا هو الشيء الواقعي... هذا هو الشيء المتزن والمعبر عن نضج في النظرة، هذا هو الشيء الذي ينم عن دراسة للنفسية البشرية بما فيه نفسية الإنسان ونفسية المجتمع. فالإنسان كإنسان، والمجتمع كمجموعة متجانسة، لا يمكن أن يرضوا بحياة ميكانيكية.. حياة خلايا النحل والنمل، لا بد من مراعاة الجانب الإنساني، جانب الحرية، جانب المبادرة الفردية، فالملكية الخاصة في الحدود التي لا تتناقض مع روح الإشتراكية تضمن للإنسان هذا الجانب المعنوي، جانب الإستقلالية، جانب الشعور بحريته، بفرديته، ضمن دوره الإجتماعي، والتجارب الإشتراكية كلها تسير في هذا الإتجاه، إتجاه التخلص من النظرة الحَرفية للمبدأ الإشتراكي، النظرة المتطرفة، والأخذ بعين الإعتبار الواقع الإنساني، واقع النفس الإنسانية. فنحن قلنا لسنا بحاجة الى أن نكرر التجارب الخاطئة، نبدأ بالشيء الصحيح، علما بأن هذه التجارب - عندما بدأ حزبنا- لم تكن بعد قد أعطت كل نتائجها ولم تكن كل أخطائها قد اتضحت، فكان الحزب يملك الرؤية المتعمقة والرؤية المستقبلية.

 

لماذا تمسك حزبنا في العراق بالأفكار الأساسية التي طرحها الحزب في الاربعينات؟

الحزب في العراق كان دوماً هو حزب الأربعينات، يعني الحزب الأصيل.. الحزب التاريخي وهذه الفترة التي مرت عليه في العام 1963 هي فترة عابرة وقصيرة، دخلها تشويش المراهقة، تشويش عدم النضوج. الشباب، بعض الشباب المتنافسين فيما بينهم، وصلوا الى السلطة في ظرف في منتهى الحراجة، ولم يكونوا مهيئين للقيادة، لقيادة هذا الحزب في قطر كالعراق، وفي ظروف كتلك الظروف.. فكان الإرتجال والتخبط والمزاودات، والطروحات غير النزيهة التي لا تصدر عن قناعة، وإنما فقط من أجل إحراج آخرين، من أجل تحقيق مكاسب شخصية عملية، للوصول الى المراكز في ذلك الوقت. إن ثورة السابع عشر من تموز هي ثورة النضج، نضج الحزب للإستفادة من الدروس، دروس ثورة (14 رمضان) وانتكاستها والردة التي أعقبتها والآلام التي نتجت عن ذلك، فالإرادة الجبارة التي قررت الا تستسلم وأن تعيد بناء الحزب، وأن تستعيد السلطة للحزب، هذه الإرادة، هذا العقل الجديد كان لا بد أن ينجح، ولا بد أن يتسم بالنضج، بالواقعية، بالرصانة، بالأصالة، بالرجوع الى الأفكار البعثية الأساسية التي كان الحزب في العراق -كما قلت- متشبعاً بها وهذا ما يجعلنا على هذا النحو من الاستبشار الذي تلمسون آثاره، نعبر عنه أحيانا بالمناسبات لأننا متفائلون في مستقبل الحزب، بمستقبل هذه الثورة في العراق، لأنها فعلا برهنت، وبرهن العقل الذي يقودها على عدة مزايا كبيرة، من جملتها ومن أهمها هذا العمق، هذه الأصالة التي أهلته الى أن يفهم الأفكار الأساسية لحزب البعث كما أُريدَ لها ان تُفهم منذ البداية، بقيت زمنا لم تحظ فيمن يفهمها مثل هذا الفهم العميق.

 

كيف نوفق بين علمانية البعث ونظرته الإيجابية للدين؟

- باختصار وكما سبق أن أشرت الى أن طموح الحزب، فكر الحزب من حيث الطموح -أي طموحنا- كان هكذا: بأن يكون هذا الفكر فكراً للنهضة العربية الشاملة، فكراً لتجديد الحضارة العربية في هذا العصر، فأي فكر بهذا الطموح يبدو وكأنه يجمع المتناقضات، قد يبدو كذلك، ولكن علينا ان نتعمق لنرى، إذ ما يبدو متناقض، هو ليس كذلك، فهو علماني، وله نظرة إيجابية، ونظرة عميقة ورائدة سبق فيها الكثيرين، بمعنى أنه في الوقت الذي ظهر الحزب فيه، كانت الماركسية سائدة فكرياً بين المثقفين في العالم فلم يستسلم لإرهاب فكري عالمي، وأعطى للدين أهميته في النفس الإنسانية، وفي التاريخ الإنساني، وفي المستقبل الإنساني أيضا، لأن الحزب نظر الى الدين كشيء خالد، فالحاجة للدين شيء عميق وأساسي، ولا يمكن ان يزول في أشكاله وصوره، يمكن أن تتطور. التدين قابل للتطور لكن الدين من حيث أنه حاجة إنسانية خالدا، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، نظر الى تراثه الروحي من خلال الأمة العربية، وأعطاه المعنى الحي الثوري الذي يمكن أن يكون أساس الثورة العربية الحديثة، فالفهم العميق للدين والفهم العميق للإسلام، كدين وكتراث عربي ثوري حضاري، هذا الفهم أوصل الى نتيجة يمكن أن نعبر عنها هكذا: الحياة العربية الحديثة.. المستقبل العربي الذي نريده، الذي نناضل من أجله، نناضل لبنائه، هذه الحياة العربية الناهضة، المعافاة، المبدعة، القادرة على الإبداع، القادرة على تجديد الحضارة، لا يمكن أن تكون بهذه الصفات، وأن تؤدي هذه المهام والأغراض، إذا لم ترتَوِ الى أبعد حدود الارتواء من مَعين التراث الروحي للأمة العربية، وأن تكون نظرتها الى الروح بصورة عامة، نظرة إيجابية، عميقة.
لنرجعكم الى كتابات الأربعينات، في بداية الأربعينات، مقال في عام 1941، موجود في كتاب (في سبيل البعث) بأن القومية العربية، وأظن بالأصل، العنوان هو، "القومية العربية ليست لفظا مجرداً بل حقيقة حية"، هذا المقال نشر في مجلة اسبوعية بدمشق في بداية العام 1941، فيه إشارات عن علاقة العروبة بالإسلام، إشارات ليست مستفيضة، الى التصور الأول، وهو أن القومية في نظر البعث هي المضمون الجامع لكل شيء، هي المستوعبة، والدين جانب أساسي من جوانبها، لذلك قلت لكم بأننا أطلقنا على الحزب إسم (البعث العربي)، وفي مقال في سنة 1950، قلنا أنه لا بد أن يرافق البعث، بعث القومية، أن يرافقه بعث في الدين. طبيعي أن الأمة عندما تنهض وتشعر بوجودها، تشعر بشخصيتها، تشعر برسالتها ونهوضها، فإن ذلك لا يكون مقتصرا على ناحية واحدة بل هي تنهض بكل روحها، وبكل إمكاناتها، وبكل طاقاتها، وبكل تطلعاتها.
فالدين شيء أساسي، في الحياة، الناحية الروحية، الأخلاقية، نظرة الإنسان الى الكون، هذا شيء متعلق بالدين في بداية الإنسان ونهايته، بداية الكون، الحكمة من وجوده،كل هذه تساؤلات مصيرية رافقت وجود البشر على الأرض، فعندما تنهض الأمة نهوضا سياسيا واجتماعيا، لا بد أن تنهض نهوضا دينيا؟ وفي إطار هذه النظرة لا يعود ممكنا أن يبقى الدين وكأنه اختصاص جماعة، حلقات في المجتمع، كما حصل في أُوربا. نحن أولا نفهم هذه الناحية بشكل آخر، ثانيا، إن نظرتنا أدخلت الشيء الأساسي والجوهري في الدين، أدخلته في الحياة القومية، إلا أنها لم تجعل مهمتها دينية، يعني مهمة البعث العربي ليست شؤون الآخرة، وشؤون العقاب والثواب..، جوهر الدين، حركة تنقية، تطهير للنفس وللمجتمع ورجوع الى الصفاء، الى البديهة، الى الفطرة، الى التجاوب السليم مع قوانين الحياة التي لا تستقيم الا بالمقاييس الأخلاقية، وبمقاييس العدل، ومقاييس الرحمة، وهذه الأشياء التي نص عليها الدين، بالإضافة الى كل ذلك، نحن فهمنا من الإسلام الوصايا، وصايا نموذجية لحياة العرب، ولها إشعاع إنساني، وهو ثورة إنسانية، ظهرت في أرض العرب ومادتها العرب، العرب هم مادة الإسلام، لكن هي ثورة إنسانية بأعمق معاني هذه الكلمة، لأن الإسلام يعالج كيف ينبغي للعربي وغير العربي أن يتصرف، كيف ينبغي للإنسان أن يسلك ويعالج مصير الإنسان، ووجود الإنسان في الحياة، فالإسلام يتوجه الى البشر عامة، لكن هذه الرسالة ظهرت عند العرب وجنودها وأبطالها هم من العرب، مرت بأطوار ومراحل هي النموذج الأعلى والأرقى لكل حركة ثورية صادقة وأصيلة وجادة، مراحل نشوء الدعوة والأطوار التي مرت بها هذه مفروض إننا كلنا نعرفها، وكيف تتجلى فيها القومية، النضال، الجهاد والفكر، الفكر الثوري وتأثير الممارسة وما استلهم من تجارب جديدة، ومن تطوير للفكرة الأساسية، كل هذا كان في نظر الحزب درسا ثمينا، يمكن أن يتجدد دوما، وليس شيئا للحفظ، للتقديس، للإعجاب فقط وإنما فيه قابلية دائمة في الأمة العربية لأن تجدد نفسها حسب هذا النموذج، أي نموذج الإسلام، جوهر الإسلام كما ققلنا، إرجاع النقاء للإنسان في المجتمع، إزالة الزيف، إزالة الشر، وإرجاع الحرية، والإنطلاق والتحرر من الخرافات ومن القيود، ومن عبودية الأفكار الموروثة والسقيمة التي أصبحت عوائق، أصبحت عامل تفرقة، عامل تناحر في المجتمع، عامل ظلم لفئة ضد فئة، تحرير للعقل، تحرير للفكر من الخرافات، من المعتقدات الموروثة، فقلنا أن الإسلام هو دين العقل في الدرجة الأولى، العقل السليم الصحيح، الذي يرفض التناقض ويرفض المستويات المتدنية، ويرتقي بالانسان الى التفكير المنطقي، التفكير الناضج. كل الجدل القائم في زمن البعثة بين المسلمين، بين الدين الجديد وبين المشركين، أو أهل الكتاب، الذين هم على أديان سماوية، كان قائما على أساس العقل العلمي الناضج، وعلى أساس حرية التفكير، فلا ضغط ولا إكراه، فنحن في هذا العمر، وفي سعينا لبناء المستقبل الجديد الناهض، مهمتنا ليست إنشاء دولة دينية، بل دولة قومية، الدين جزء أساسي فيها، كروح ينْبثّ في فكرها، ينبث في نظرتها الأخلاقية، في نظرتها الإنسانية. نحن أُمة عربية، تعيش غير معزولة عن العالم، ضمن عالم، ضمن شعوب لها ديانات مختلفة ولها حضارات مختلفة، ولها بلدان وأقاليم وظروف مختلفة، علينا أن نتعامل مع هذا العصر ومع هذه الإنسانية، فلا يمكن أن نتقيد بحرفية النصوص، أو نرجع الى أمور تكون هي عامل تفرقة وقد تكون مظهر تخلف بدلا من أن تكون عامل نهوض، هذا المقصود بالعلمانية. العلمانية: تريد أن تبني مجتمعاً قومياً ودولة قومية، لا تفرق بين المواطنين، تحترم حرية كل الفئات وكل المذاهب والمعتقدات، ليس هناك تمايز أو تمييز بين فئة لها امتيازات على فئة أخرى، الكل في عرف القانون، في عرف الدولة متساوون، أمامهم نفس الفرص. نحترم حرية الإنسان، كرامة الإنسان، ولكن هل هذه العلمانية تعني فقط بأن نجمع فئات متباينة في هذا المجتمع ونسميها أمة عربية؟ أم أننا نحرص على الإنسجام الحقيقي العميق، الإنسجام الفكري والروحي في هذه الأمة؟.
الإنسجام هو أساس تكوّن الأمة وأساس استمرارها وأساس تطورها وعطائها. هناك التربية القومية التي يدخل جوهر الدين فيها وروح الإسلام، لأنه هو التراث العربي، وهو النموذج الثوري العربي، المثل العربية الأخلاقية الإنسانية فيه، تدخل في التربية القومية. عندما نؤمّن لكل المواطنين تربية قومية واحدة توحدهم، عندها لا يهمنا أن يكون هنا هذا المذهب، وهناك هذا الدين، وهناك هذه الطائفة، طالما أن كل المواطنين إنصهروا في تربية قومية واحدة، عندها الإنتماء للأديان وللطوائف يصبح انتماء لأشياء، قد تكون تراثية، تاريخية، أي شيء، لكن لا يتناقض ولا يتعارض مع أهداف الدولة العربية، بهذا نكون قد ضمنا نموذجاً واحداً وموحداً، لكل المواطنين في الدولة العربية.

 

حول بناء الإشتراكية في بلد عربي واحد، ونظرة الحزب إليه.

- الحزب كان يدعو دوماً للسير في طريق الإشتراكية، لتحقيق ما يمكن تحقيقه من الإصلاحات الإشتراكية، دون أن يقتنع بأنه يمكن الوصول الى تحقيق كامل للإشتراكية من دون الوحدة العربية. الحزب مؤمن بأن التحقيق الكامل للإشتراكية يكون عندما تتحقق الوحدة العربية، لكن باستمرار وبالممارسة عندما كان للحزب دور في سورية، حتى قبل سنة 63 عندما كان له دور في النظام البرلماني السوري، كان له وزن مؤثر في سَن التشريعات ذات الطبيعة الإشتراكية.
مفهومنا للإشتراكية هو ككل مفاهيم حزبنا، مفهوم يختلف عن المألوف، هو أعمق، لذلك لم نحصر فهمنا بالأمور الاقتصادية والاجتماعية، وإننا من البدء تناولنا الإشتراكية من زاوية الإنسان وحرية الإنسان، والهدف الروحي والحضاري للإنسان، أكثر مما هو لتأمين الحاجات، لإيجاد الرخاء والعدل، إعتبرنا كل هذا مقدمة ووسيلة لبلوغ غاية أهم، هي تحقيق شخصية الأمة العربية، تحقيق رسالة الأمة العربية في الوجود، تحقيق شخصية الإنسان العربي من خلال قيامه بدوره في حركة النهضة والبعث، الدور الفاعل والمناضل، لو سلمنا بأن الإشتراكية يمكن ان تتحقق في قطر عربي واحد لتوفر عوامل مساعدة كثيرة، الثروة وأشياء كثيرة، لو سلمنا بهذا وهذا نفترضه افتراضاً للجدل، تبقى الناحية المعنوية، شخصية المجتمع وشخصية الفرد، الإنسان، هذا المجتمع الذي هو جزء وليس كُلاً، دائما يشعر بالنقص ودائماً يفتقد الكل، يعني، يشعر بأنه هو جزء من كل وليس مستقراً وليس مطمئنا، وهذا الإنسان العربي، في هذا الجزء من الوطن العربي، الذي يحقق الاشتراكية، هذا الإنسان، لو وفرت له الدولة كل حاجاته، يبقى من الناحية المعنوية يشعر بالنقص، يشعر بالإستلاب، لأنه هو ايضاً موجود في نفسه وفي حسه وضميره ووعيه، موجود مع اخوانه في الارض المحتلة، موجود مع الجماهير في كل قطر عربي يعاني من الإستبداد والإستغلال والقهر، موجود في كل مكان، وبالتالي، اذا كانت الإشتراكية غايتها إسعاد المجتمع وإسعاد الأفراد فهو لن يكون سعيداً في حالة التجزئة، انما يكون سعيداً في النضال، الإشتراكية تقدم له ما يسد حاجاته وتقدم ما يؤهله للنضال في سبيل تحرير باقي أجزاء الوطن وفي سبيل توحيد أجزاء الوطن، هذه ناحية مهمة وهي ناحية معنوية. لكن اذا اخذنا ايضا الناحية المادية، الإشتراكية العربية، هي بمستوى الحضارة العربية، الإشتراكية العربية شيء يقدم للعالم كله، يعني هو تعبير عن الحضارة العربية الجديدة، الحضارة العربية الجديدة لا يبنيها قطر عربي واحد مهما كان. الحضارة العربية الجديدة تستند الى جهود كل العرب والى تجارب كل العرب والى كفاءات ونضالات كل العرب،كل الجماهير العربية، عدا عن ناحية الموارد الإشتراكية العربية التي تعتمد على الأرض العربية كلها وليس على جزء واحد للتكامل سواء في الزراعة او في التصنيع، او في الاختراع. اذا قلنا بأنه يمكن أن نحقق حداً جيداً من الإشتراكية في قطر اذا توافرت شروط الحزب المناضل الواعي والقيادة التاريخية والشروط المادية وغيرها، ممكن، لكن هذه الاشتراكية في قطر واحد ممكن منذ الآن ان تحمل سمات الاشتراكية العربية، ان تشير الى نسَبها لأنها هي منتسبة الى هذه الصورة التي سوف تتحقق في المستقبل، فيها بعض المعالم، بعض الملامح، كما يشير الإبن الى ملامح نسبه وأهله، لكن كما قلنا، الإشتراكية العربية هي طموح حضاري مقترن بحالتين: بحالة التحرر الوطني العربي من كل سلطة أجنبية ومن كل استلاب لجزء من أراضيه وبصورة خاصة، تحرير المركز أي فلسطين ووحدة هذا الوطن، ووحدة هذه الأمة، لتصبح في حالة العطاء، وعندها تكون اشتراكيتها ذات معالم عربية.

 

كيف نواجه المؤامرات الإستعمارية وفي الوقت نفسه خطر الفكر الإشتراكي الأممي الذي يطرح نفسه كبديل لفكر الثورة العربية؟

- هذا السؤال قديم، وهو مازال يحتفظ بأهميته ولو انه لم يعد بنفس الدرجة من الأهمية. هذا السؤال مطروح، مطروح علينا ونحن طرحناه على أنفسنا، لأن التحرر من الإستعمار كان من الدوافع الى تكوين الحزب، فقد كان هناك استعمار عالمي، طبعا استعمار غربي، يستعمر معظم أجزاء الوطن العربي في ذلك الحين، وكانت هناك الحركة الشيوعية والدولة الشيوعية الكبرى، قلعة الإشتراكية، كما كانوا يسمونها في ذلك الوقت، التي تقدم البديل للإستعمار وتطرح نفسها كمحررة للشعوب. فنحن قلنا ان الإستعمار يأتينا من الغرب، فالخلاص والإنقاذ يُفترض أن يكون منا، ان ننقذ نحن أنفسنا، فالذين كانوا يقولون، نحن نريد ان ننقذكم، كانوا بذلك يتجاهلون دورنا، ويعمدون الى إلغائه، إلغاء دور الأمة العربية.
فبدايات الحزب كانت مقترنة بالثقة بأن الأمة العربية لا يمكن ان تكون على هامش التاريخ، وأن لها دوراً، ولها رسالة، وهي صانعة حضارات منذ فجر التاريخ، وهي قابلة أن تتجدد وتبني حضارتها من جديد ولا يمكن أن تكون تابعة، هذا كان واضح في ذلك الحين، منذ بدايات فكر الحزب، وإنضاج ولادة الحزب، في النصف الثاني من الثلاثينات، عندما كانت الحركة الشيوعية تابعة للنظام الستاليني.
في الأربعينات، خرج الحزب الى النور، وبداية الأربعينات تعني الحرب العالمية الثانية، فكان أمامنا واقع لا يترك مجالاً لأي التباس، وهذا ما سجلناه في كراس هو خلاصة لأحاديث مع الشباب في البيوت عام 1943 ونشر عام 1944، عن (الشيوعية والقومية العربية). من جملة هذه الأحاديث ان الاتحاد السوفيتي متحالف مع ما كان يسمى بالديمقراطيات، يعني، بريطانيا وفرنسا، ضد ألمانيا النازية وايطاليا واليابان.. قلنا، متى سيتفرغ الاتحاد السوفيتي للوطن العربي، من أجل أن يساعد على تحريره؟ هل هو الآن يساعدنا ضد الإستعمار البريطاني والفرنسي أم انه يساعد بريطانيا وفرنسا علينا؟ عمليا فهو متحالف معهما وداخل في حرب حياة او موت، الى أن ينتصر على ألمانيا. هل علينا ان نسكت عن الإستعمار البريطاني في مصر وفي فلسطين وفي عدن وفي السودان؟ هل نسكت عن فرنسا في المغرب العربي بطوله، وفي سورية ولبنان، وهكذا..؟ كان هذا الموقف امتحاناً بسيطا وواضحاً جدا للمنطق الأممي، الذي يطلب منا أن نقف على النقيض من حقوقنا المشروعة في الدفاع عن حريتنا، في المطالبة بإستقلالنا، وفي النضال ضد مستعمرينا، ودخلنا في الاصطدامات الفكرية والعملية مع الشيوعيين في ذلك الوقت، أثناء الحرب، طبعاً بعد الحرب الأمور لم تحتفظ بهذه الحدة، بهذا التناقض الحاد. الاتحاد السوفيتي خرج منتصرا، صار ممكنا أن يقوم بدور إيجابي في الحياة الدولية لمصلحة كل الشعوب التي تخضع -بشكل أو بآخر- للإحتلال وللإستعمار، مما ساعد الأحزاب الشيوعية، فلم تبق بنفس الوضع الحرج والمحرج التي كانت فيه في زمن الحرب بل انتقلت الى وضع اقل بعداً عن الجماهير، فيه شيء من التوافق، لكن كان يستحيل عليها ان تصل الى درجة من الانسجام والتوافق التي يصل لها حزبنا، أي التي يصل لها حزب وطني مخلص، لأن الحزب الشيوعي له نظرة وارتباطات أممية تتعدى قدرة البلد الذي يعمل به؟ ومنذ ذلك الحين حتى الآن،كانت تأتي الأدلة كلها على أن هذا المنطق الأممي هو منطق نظري، أكثر مما هو منطق واقعي، منطق نظري انكشفت نواحي الضعف فيه، خلال سبعين سنة من الممارسة، فكان لابد أن تحدث تراجعات عديدة عن ديكتاتورية البروليتاريا، وعن الموقف من القومية ومن الدين. لقد ضعف تأثير الشيوعية حتى من الناحية الفكرية، وأصبحت المسافة بعيدة وطويلة بين تلك الهالة القدسية التي كانت لها، تلك الهيبة والعصمة العلمية التي كانت تحاط بها الشيوعية منذ أربعين سنة أو 45 سنة، وبينها الآن.. فإلى جانب التراجعات العديدة في مجال الإشتراكية وعلى صعيد الفكر والتطبيق الإشتراكي، ومجالات أخرى، حتى تصمد التجربة الإشتراكية أمام تحدي الغرب، حدث انقسام شطرَ العالم الشيوعي الى شطرين: الصين والإتحاد السوفيتي، الأمر الذي يدمغ النظرية الشيوعية بالضعف عن حلّ مشكلات هذه التجارب. فالشيوعية ما عادت تشكل خطورة كما كانت في الماضي، لم تعد هي البديل، لكنها من جهة أخرى، موجودة حاضرة، ولا بد أن نكوّن فكرة عنها، وأن يكون لنا أسلوب في التعامل معها، فهي أحيانا قد تكون صديقة حميمة، وأحيانا أخرى، قد تشكل خطر، وقد تكون معادية، لكنها ليست العدو الأول، طالما الإستعمار والصهيونية والإمبريالية موجودة، يعني هناك أولويات، فالصورة التي انطلق منها الحزب في البداية، هي صورة الإستقلالية التي ما زالت صحيحة، وستبقى صحيحة، الإستقلالية التي عبر عنها بالحياد الإيجابي، وعدم الإنحياز.
فالمنطلق الأول الذي كان منذ بداية الحزب واضحاً جدا، وشيئاً أساسيا في نظرية الحزب، هو استقلالية طريق الأمة العربية، الأمة العربية لها طريق مستقل في التحرير وفي البناء في طورها السلبي، أي نضالها من أجل التحرر، ثم في طورها الإيجابي، في العطاء وبناء مجتمعها وحضارتها. قلنا بأن مصداقية الشيوعية كنظرية، كفكر، ضعفت، ضعفت كثيرا، لانها صارت تجرّ وراءها عددا من التناقضات والأخطاء التي تضعف هذه المصداقية، يبقى أن البعض مازالوا -في أُوربا وفي أجزاء من العالم- يقولون بأن الماركسية يمكن ان تقدم دليل عمل، الماركسية فيها نظرية، فيها جهد فكري كبير ومحترم، وربما تطورت أيضا، وتناولتها أدمغة عديدة وكبيرة واجتهدت فيها وطورتها، فهي وكل النظريات الاجتماعية يمكن ان يستفاد منها.
نحن ما أغلقنا عقولنا عن الماركسية، إستفدنا منها، وقرأنا أشياء كثيرة فيها، بنظرة علمية ونقدية، ليست نظرة متعصبة، ولكن نظرة نقدية، وقلنا من البداية، بأن المارسكية فيها نواح خاطئة وفيها نواح سطحية، النواحي السطحية مثلا، فهمها للدين فهو فهم سطحي. الخطأ مثلا، الخطأ الكبير، إغفالها للقومية، حقيقة القومية، وأيضا، سطحية الفهم للأممية، فأمميتها أممية نظرية. نحن نؤمن بنوع من الأممية، بصيغة من الأممية، لنا مفهوم واعي ولكنه مفهوم حي يختلف عن هذا المفهوم المجرد الذي تبين أنه فاشل.
الفلسفة التي قامت عليها الماركسية، فيها تعصب، فيها مبالغات، فيها تأكيد على جانب من الحقيقة يضخم كثيرا، كما يضخم أيضا الخطأ الذي في غيره، وهذا يعني، انها تفتقر الى النزاهة العلمية رغم ادعائها بالعلمية، فهي براغماتية، بمعنى انها تستهدف النجاح بصرف النظر عن الوسائل، لذلك فهي تبالغ، وتقلل، وتزيد، وتنقص، فتبتعد عن الموضوعية التي هي شرط المعرفة العلمية. نحن نشعر براحة عقلية وراحة وجدانية، لأننا لا نحتاج الى المغالطة، والى المبالغة، لا نحتاج الى ان نعمل هذه الاشياء التي لجأت لها الماركسية.
الفلسفة المادية التي بنيت عليها الماركسية، فيها نواحي الضعف وفيها نواحي القوة التي لا تنكر، وقلنا بوضوح بأنها هي أول محاولة فكرية للنظر الى التناقضات الاجتماعية، بنظر واقعي وجدي بعيد عن الطوباوية، بعيد عن الاحلام، يعني هي إنزال هذه المثل الانسانية القديمة، في العدل وفي المساواة وفي الحلم.. في المجتمع السعيد والعادل، انزالها الى أرض الواقع، لذلك قدرت أن تؤثر، وقدرت أن تفجر ثورات، أما تفاصيل هذه الفلسفة، فإنها تنطوي على تفسيرات متعسفة وغير جدية وبخاصة، إغفالها لأهمية النواحي الروحية في حياة البشر.

 

2 آب 1980
(1) حديث مع الرفاق السودانيين، بتاربخ 2 / 8 / 1980

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الخامس