ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الخامس


البعث أصالة عربية وعقل ثوري

 

أيها الرفاق والرفيقات

نعيش في ظروف في منتهى الخطورة والجدة، ظروف خطيرة ولكنها غنية فيها خلق وفيها إمكانات غزيرة وآمال واسعة.

في ظروف كهذه يصل فيها الخطر على الوجود القومي وعلى وجود الأمة ذروته، تبرهن الأمة عن مقومات الحياة فيها ومقومات البقاء وعن استعداداتها الحضارية الغنية، فتتيح هكذا لأبنائها على مختلف مستوياتهم أن يتأكدوا مرة جديدة من هذه الحقيقة التي يؤمن بها المناضلون بأن الأمة العربية أمة حية فيها قابلية للتجدد المستمر وللانبعاث المبدع وإنها في هذا العصر تبدأ نهضة حضارية جديدة هي بداية تاريخ لها وللإنسانية أيضا.

هكذا يتاح للمؤمنين بأمتهم وللمناضلين في سبيل حقوقها وأهدافها بين فترة وأخرى أن يسعدوا بهذه الرؤية، بهذه اللحظات الخالدة التي تعزز فيهم الإيمان والثقة بالمستقبل.

لا أعتقد أن البعثيين يمكن ان ينتابهم شك في حقيقة أمتهم وحقيقة استعدادها الأصيل لثورة عميقة شاملة في هذا العصر، ولكن الانجازات الكبيرة التي تتحقق في فترات فاصلة حاسمة تغني نفوس المناضلين وتغني رؤيتهم وتكشف لهم معاني أعمق في النضال وفي المهمات التي ندبوا أنفسهم لها.

ماذا حدث أيها الرفاق حتى تغير الوضع العربي في فترة زمنية قصيرة جداً لا تتعدى الأسابيع المعدودة؟ هذا التغير الحاسم الذي حصل في هذه الفترة القصيرة يبدو وكأنه معجزة ولكنه في الواقع لم يأت صدفة ولم يأت دون مقدمات ودون أسباب قريبة وبعيدة ودون تهيئة وعمل دائب استمر سنوات ساهم فيه الشعب بكامله وكان الحزب بمناضليه طليعة للشعب في هذه المهام الثورية وهذه النهضة التي بناها حزبكم في هذا القطر. إنه تراكم لعمل يومي، لعمل خططت له عقول ثورية ونفوس عربية أصيلة تغار على مصلحة الشعب وعلى مصير الأمة، فأمكن أن يوجد بعد سنين من هذا العمل الذي كان بعضه ظاهراً واضحاً وبعضه خافياً مستتراً لا يعلن عن نفسه، أمكن بعد كل هذا الوقت وهذه الجهود أن تبني القاعدة الأساسية القادرة على أن تتجمع فيها وحولها آمال الأمة، أن تكون موضع الأمل والثقة بما تم فيها من بناء للقدرات البشرية، للعقول الثورية، وكذلك ما استطاعت هذه القدرات وهذه العقول أن تحوله في أوضاع المجتمع وفي الأشياء حتى طوعت الصعوبات ووفرت الوسائل وأمكن أن يظهر آخر الأمر في وسط الظلام الذي أشاعه الأعداء في وطننا الكبير، في وسط روح اليأس والهزيمة، أن تظهر هذه القاعدة الصلبة التي استطاعت في ساعة الخطر الشديد أن تكون الملجأ وأن تتطلع إليها الأنظار وأن يستمد منها العزم وأن تنطلق منها المسيرة لعمل قومي واسع.

هذا حزبكم أيها الرفاق وهذا شعبكم العربي، حزبكم الذي مضى على مسيرته النضالية عشرات السنين حقق خلالها انتصارات قومية معروفة وأصيب خلالها بعثرات ونكسات كانت في بعض الأحيان موجعة. هذا الحزب له تاريخ صاعد متكامل أفضى إلى هذا النضج الذي تمثل في قطركم وفي تجربة قطركم هذا. وإن الأفراد المبدعين لا يظهرون عبثا ولا يظهرون بدون تهيئة في المجتمع، في تجارب المجتمع، في حاجات المجتمع، وإن ظهورهم الذي يبدو أحياناً وكأنه صدفة ومعجزة إنما له تفسير اجتماعي، بل الحاجات والتجارب والانتصارات والنكسات كلها تساهم في خلق هؤلاء الأفراد الذين تكتمل فيهم الشروط ويتحقق فيهم التجاوب والانسجام بين تطلعاتهم وتطلعات مجتمعهم وشعبهم وعندها يقومون بتمثيل إرادة هذا الشعب على أقوى شكل لتمثيل إرادته العميقة بتحقيق القفزات في طريق تحرره وتقدمه معتمدين على هذا التجاوب، معتمدين على تجربتهم التي هي تجربة الشعب والأمة، التي تلخصت فيها تجارب الشعب والأمة، فيأتون ليحققوا انعطافاً حاسماً تكون أسبابه قد نضجت وتهيأت في المجتمع. ولكن ليس أي فرد يستطيع أن يمثل إرادة الأمة ويحقق مثل هذا الانعطاف، إذ لا بد من شروط خاصة، صعبة التوافق تتهيأ في المراحل التاريخية الفاصلة ويكون فيها هذا الانسجام الفائق بين عمل القائد وبين إرادة الشعب والأمة. لقد توفر لهذا الحزب بعد تجارب مضنية برهن فيها الحزب أنه مستمسك برسالته لا يتخلى عنها مهما تكون العقبات والنكسات، مهما تبلغ مؤامرة الأعداء عليه، هذا الإيمان وهذا الإصرار رغم تبدل الظروف وقسوة الظروف هو الذي يسمح أخيراً بأن تظهر القيادة الفذة التي تستند إلى هذا الإيمان، إلى هذا الاطمئنان بأن وراءها حركة تاريخية لا بد أن تشق طريقها وتتابع مسيرتها رغم كل شيء، عندها ينطلق هؤلاء الأفراد مستندين إلى هذا الشعور والى هذا اليقين وتتحقق على أيديهم الإنجازات التي تأتي لتعوض عن كل فترات الجمود والتراجع التي أصابت الحزب في بعض الأوقات.. ولتظهر في يوم واحد جوهر هذا الحزب وما يكمن فيه وما ينطوي عليه من أصالة ومن إمكانات ومن تصور صادق لأبعاد المهمة الثورية الحضارية التي تقدم لحملها.

رأيت أيها الرفاق أن أبدأ بالبداية الصحيحة التي تؤهلنا لأن نفهم بوضوح ما تحقق في هذا الظرف الأخير وتؤهلنا لأن نستجلي الظروف المقبلة وكيف يمكن أن نواجهها ونتصرف في مواجهتها. البداية الصحيحة هي هذه، أن عملاً قوميا تاريخيا، لا يمكن أن يكون ابن ساعته، لا يمكن أن يكون مرتجل، لا يمكن أن يكون تكوينه سهلاً عادياً لا بد إذن أن يمر بطريق طويلة ومشقات كثيرة وأن يتمرس بالمصاعب حتى تقوى بنيته وتتعمق نفسيته وتتسع آماله وطموحه، كذلك الأمة أيها الرفاق والرفيقات، الأمة يمثلها الحزب بشكل مصغر ولكنها هي أيضا تتكون هذا التكون السليم الصحي من خلال التجارب، من خلال التكامل بين أجزائها المختلفة بين أدوارها ومراحلها المختلفة، النكسة تولد النصر، والنصر قد يبقى فيه أثر للأمراض السابقة فيستدعي مزيداً من التعمق، مزيداً من الدأب ومن الجدية ومن الشمول، فيتعثر النصر حتى يظهر مرة أخرى بشكل أكمل وأروع، هذا هو تاريخ الأمة في نهضتها الحديثة.

وإن أورع ما تحقق أيها الرفاق في الظرف الاخير كرد على التحدي الاستعماري الصهيوني هو كما تعرفون جميعاً وكما نشعر أعمق الشعور، هو هذا اللقاء بين سورية والعراق، هو الرد التاريخي لأنه سبق مخططات الأعداء، مخططات الامبريالية العالمية بكل تفوقها العلمي التآمري وسبق خبث الصهاينة وكيدهم بلحظات من اللقاء الأخوي كانت نتيجتها أن دخلنا ودخلت الجماهير العربية في الوطن الكبير الواسع في مرحلة استرداد الثقة بالنفس والاستبشار بالمستقبل والعزم والتصميم على مواصلة الكفاح بشعور بالقوة لا مثيل له وشعور بأن الأعداء مهما أوجدوا ومهما اخترعوا من أسباب التخريب والتآمر، فكل هذا سيكون على السطح عاجزاً خائباً لا يمس جوهر الأمة، لأن الأمة قادرة في الأوقات الحاسمة أن تبتكر وتصنع المعجزات مستندة إلى تراثها الحضاري، مستندة إلى معاناتها الصادقة في حاضرها. انتقلنا أيها الرفاق في لحظات من وضع التجزئة إلى رحاب الوحدة، من حصار التجزئة إلى رحاب الوحدة، الوحدة التي تمثل بالنسبة إلى كل عربي تجسيداً للحرية بأوسع معانيها وأعمقها. حرية العربي هي في وحدة أمته لأنه يشعر بأنه يسير على الطريق السليم، يسترد كامل شخصيته وكامل قدراته ويواجه مصيره بوعي واضح وإرادة حاسمة، وهل للحرية معنى أشمل وأعمق من أن يواجه الإنسان مصيره بالوعي والإرادة في أعلى درجاتهما؟ انتقالنا أيها الرفاق إلى جو الإيمان بأعمق معانيه، الإيمان الذي يمر على الماضي وعثراته وجراحه فيمسحها ويطهرها ويجعل منها قوى وحوافز للمستقبل..

هذا اللقاء الذي كان وسيبقى أمل الجماهير العربية في الوطن الكبير، هذا اللقاء صنعته الأصالة القومية والعقلية الثورية، صنعه البعث، والبعث هو هذا أيها الرفاق، أصالة عربية وعقل ثوري، صنعه البعث للأمة العربية كلها لأن المطلوب الآن هو جواب قومي ينقذ الأمة كلها، لأن الخطر يهدد مصيرها كلها، فإذن ليس لقاء سورية والعراق هو لقاء قطرين إنما هو لقاء الأمة العربية بذاتها، لقاء الجماهير العربية بنفسها بروحها النضالية بأملها في المستقبل بثقتها بالنصر والتغلب على مؤامرات الأعداء.

دبر العقل الاستعماري مكيدة، العقل الاستعماري والعقل الصهيوني دبرا مكيدة كبيرة للأمة العربية، عملا للوصول إليها زمنا طويلاً وإن بدت كأنها من صنع الأشهر الأخيرة، هذه المكيدة هي التآمر على وحدة الأمة العربية، على تماسكها العضوي بإخراج مصر من المعركة، ومن المصير العربي لو أمكنهم ذلك، فكان لابد أن يأتي الجواب بهذه القوة، بهذا الصدق، في تلبية نداء الأمة من أعماق الحاجة وأعماق الضرورة بأن نفتح من جديد طريق الوحدة العربية واسعاً مشرعاً وأن تعود الآمال فتنتعش في صدر كل عربي وأن يستهين عند ذلك بمؤامرات الأعداء ومكائدهم، لا ليغفو وينام بل يتجند ويجاهد لأن الوحدة وحدها تجعل النضال مثمرا ومضمون النجاح بالنصر، وعندما يكون الرد رداً وحدوياً بهذا المستوى فإن المؤامرة التي دبرت لمصر تفشل فشلاً كاملاً لأنها بنيت بالأصل على اليأس، على حالة اليأس، وحين تعيد الوحدة الأمل إلى الجماهير العربية، فإن مصر بجماهيرها المناضلة الأصلية تكون قادرة على كشف المؤامرة وعلى الرد عليها وهكذا نكون قد كسبنا الوحدة وكسبنا مصر في آن واحد.

لم نصدق في يوم من الأيام أن شعبنا في مصر يمكن أن ينفصل عن جسم الأمة العربية أو يرضى لنفسه مصيراً غير مصير أمته، ولكنها ظروف وقتية وخدع محبوكة استطاعت أن توجد وضعاً مفروضاً مزيفاً يتنافى استمراره مع طبيعة شعبنا العربي في مصر ومع تاريخه ومع حاضره المليء بالتضحيات من أجل المصير العربي. ولكن إذا كنا نريد لمرحلتنا الجديدة الصاعدة التي بدأت بهذا الإنجاز الوحدوي الرائع، وإذا كنا نريد للمرحلة الجديدة بأن تكون متقدمة نوعياً عن المراحل السابقة، فعلينا أن نستفيد حتى من مؤامرات الأعداء ومكائدهم وحتى من أعمال الحكام العملاء الذين رضوا لأنفسهم أن يكونوا أدوات مسخرة لأعداء أمتهم، فننظر بموضوعية وبتجرد إلى الثغرات التي استغلها الأعداء واستغلها العملاء لكي يشوشوا الوعي مؤقتاً عند قسم من الشعب، ولكي يستطيعوا أن يمرروا -لحين- هذه المؤامرات، فان شعبنا في مصر يدفع ثمن عروبته باهظاً من دماء عشرات الألوف من الشهداء، ويدفع من قوت يومه، ولكن التجزئة الراهنة جعلت هذا الشعب العظيم في أوضاع اقتصادية متردية بينما هناك أقطار ترتع في البحبوحة بعدد ضئيل من السكان.. هذه المفارقات في وضعنا القومي لو رضينا بالتجزئة وأحكامها لأوصلت إلى شرور وويلات كالتي نشاهدها في قطرنا العربي الكبير "مصر" وفي غير مصر من الأقطار إذا لم نتمرد على التجزئة، حتى ولو لم نستطع أن نحقق الوحدة الكاملة التي تتطلب زمناً وطريقها ما تزال طويلة، إنما علينا أن نبني المستقبل بالإرادة وبالوعي وبالرؤية الموضوعية، ننظر إلى هذه الفوارق بين الأقطار، وننظر إلى ما يمكن للاستعمار والصهيونية أن يستفيدوا وأن بينوا عليه من تلك الفوارق لكي نجعل النضال العربي أكثر استيعاباً لحاجات المجتمع العربي ولأمراض الواقع العربي، لكي نجد لها العلاجات الناجعة، لكي نسهل عملية الوحدة، لكي تكون الوحدة في الشعور وفي التجاوب الشعوري مع أبناء شعبنا وقومنا في أي قطر كان، قبل أن تصبح الوحدة وحدة سياسية، يجب أن تكون وحدة شعورية صادقة حتى تتحول إلى وحدة نضالية وحتى تثمر فيها ما بعد الوحدة السياسية.

 

أيها الرفاق

إن ما يستغله الاستعماريون والصهاينة من ثغرات في أوضاع شعبنا العربي في مصر-أوضاعه الاقتصادية- أيضاً يجدون ما يستغلونه في أوضاع شعبنا في فلسطين سواء الباقي في الأرض المحتلة الذي يعاني من مظالم الاحتلال أو الذي شرد من وطنه ويعاني أيضاً من نتائج هذا التشريد. فقد كان جواب الشعب العربي الفلسطيني ثورة فريدة في هذا العصر فرضت احترامها على العالم فإننا كعرب وحدويين لا يجوز أن نهمل بعض الحقائق فإن وراء العقلية الوسطية التي تتمثل في بعض القيادات الفلسطينية هذه العقلية التي تريد للنضال أن ينتهي في وقت، وللثورة أن تتحول إلى دولة ونظام بالتسويات من دون انتزاع ذلك بالثورة والنضال. هذه العقلية تستند للأسف إلى ثغرات في أوضاع الشعب الذي أُخرج من وطنه والشعب الذي يعاني من ويلات الاحتلال وهذا يوصلنا إلى عبرة ودرس بأن قضية فلسطين، إن لم تتحول إلى قضية كل قطر عربي، وإلى قضية كل مناضل عربي في نضاله اليومي، وإذا لم نمض في طريق العمل الوحدوي لكي نعطي البرهان الساطع على أن القضية القومية وحدة لا تتجزأ وأن الثورة الفلسطينية إذا لم تكن جزءاً عضوياً من الثورة العربية وإن لم تتفاعل معها ومع جماهيرها، فإننا معرضون لمثل ما نشاهده أحياناً من ركض أو سعي وراء التسويات التي تتنافى مع حقوق أمتنا في أرضها ومع أهداف ثورتنا العربية في التحرر الكامل.

هذا ما يرتب على سيرنا في المستقبل أن نكون أكثر استيعاباً لأوضاع أقطارنا وألا نرتاح في الأجزاء التي نعمل فيها متناسين ما يعاني منه شعبنا على الساحات الساخنة.

إن النضال العربي الذي يقوده حزبنا يجب أن يجسد الوحدة العربية تجسيداً حياً بأن نكون عرباً حاضرين في كل قطر ومع كل طبقة كادحة معانية مجاهدة، وأن نشعر بآلام شعبنا أينما وجد. هذه المرحلة التي ندخلها الآن تهيئ لنا سبلاً ووسائل أنجع في مكافحة المؤامرات الاستعمارية والصهيونية لكي لا ينشأ اختلاف أو تضعضع في الثورة والنضال ولكي نسترد الذين ضللوا زمنا وفي ظروف استثنائية..

 

أيها الرفاق

هذه الظروف الأخيرة أعطت تأكيداً لتصور الحزب بأن الأمة العربية تعيش مرحلة انبعاث وأنها في تنام وصعود رغم المظاهر التي قد تخدع بين الحين والآخر عن رؤية هذه الحقيقة.. هذا التصور هو أثمن ما يمكن المناضلين أن يتسلحوا به لأنه يضعهم دوماً في حركة التاريخ، في انسجام مع حركة التاريخ.. قد لا يجنبهم الأخطاء الصغيرة ولكنه بالتأكيد يضمن لهم الانتصارات المهمة وفي الظروف العصيبة الحاسمة مثلما حدث في هذا الظرف. فالامبريالية جهد ما تستطيعه أن توظف عملها واختراعاتها لإعاقة سير الأمة العربية نحو أهدافها، وظنت أنها وجدت أخيراً ما يضرب هذه النهضة العربية ويكسر موجتها وانطلاقتها عندما توفر لها عميل مثل السادات، استفاد كما قلنا من ظروف شاذة في أوضاع مصر الاقتصادية، ولكن عمل الامبريالية هو دوماً من الخارج بينه وبين العمل العربي النضالي فرق نوعي كبير. العمل العربي النضالي الواعي المستند إلى التصور التاريخي الذي يمثله حزب البعث، هو عمل من الداخل بناء للأمة تساهم فيه بكل أبناءها بكل إمكانياتها ومواهبها بأجيالها الغابرة، بتأريخها وتراثها وبإمكانياتها للمستقبل، عمل حي، عمل عضوي إيجابي بناء، بينما العمل الاستعماري والصهيوني هو للتخريب، للإعاقة، للتضليل وشتان بين العملين. هل التصور أيها الرفاق بأننا نبني بنضالنا للأمة العربية كلها وأن الأمة العربية في نهضتها وانبعاثها تبني للإنسانية كلها، هذا التصور، هذا الإيمان والدأب على متابعة السير لتحقيق هذه المثل والأهداف هي التي تضمن آخر الأمر وفي كل منعطف تاريخي مصيري تضمن لحركتنا أن تتفوق على التخريب الاستعماري مهما يكن بارعاً وتضمن بأن يعلن نضالنا عن انسجامه مع حركة التاريخ ومع سير الإنسانية نحو مثلها الخيرة، وتضمن بالتالي أن يكون الرأي العام العالمي إلى جانبنا كما تضمن أن تعزز ثقة العرب بأنفسهم وبمصيرهم وبرسالتهم في هذا العالم. فنحن على اختلاف أقطارنا واختلاف أوضاعنا الاجتماعية والحضارية لن ننسى مطلقاً بأننا أمة واحدة، وأن هذه الفوارق ليست جوهرية وأنه جسم واحد لا بد أن يزيد من تفاعله مع أعضائه، لا بد أن يقترب من نفسه، لا بد أن ننقل نضالنا ومبادئنا الي كل قطر مهما تكن المسافة بعيدة ومهما تكن الأوضاع الفكرية والمادية مختلفة، متباينة، يجب أن نحقق هذه الوحدة في تصورنا وفي اندفاعنا نحو الانتشار في وطننا الواسع وفي إيصال صوتنا ومبادئنا إلى أبناء قومنا في أبعد الأقطار.

إنها مرحلة جديدة تبدأ، والأمة لا تجد على امتداد الوطن الكبير أملاً يرتجى ومركزاً أو محوراً تلتف حوله جهود المخلصين، جهود الجماهير العربية التي تعاني وتكافح، تتلفت فلا تجد غير هذه الشعلة يمثلها ويحملها حزب البعث وهذا يرتب مسؤوليات ضخمة، يرتب أن نستوعب هذا التقدم الذي حققناه لكي تنقل إلى مرحلة أعلى، أن نضع الأسس العقلانية التي تكفل لهذا التقدم أن لا ينتكس ويتراجع بل أن يستمر في تقدمه الذي حققنا بالجهد الصبور والعمل الطويل مستوى أهّلنا لأن نرد على الأخطار المصيرية هذا الرد الكبير. ولن نحافظ على هذا المستوى ولن نطوره إلى أعلى إلا بنفس الفضائل التي أوصلتنا إليه، أي بالعمل الدءوب، بالتفكير العلمي العقلاني الذي لا يمكن أن يسكت فينا حماستنا وعاطفتنا واندفاعنا، فهذه متوفرة ولكن الصعوبة هي في أن نركز على العقلانية التي هي الطور الجدير بمرحلتنا الجديدة كلما وصلنا، كلما خرجنا من مآزق كثيرة ومصاعب كثيرة ظننا أنها ليس منها مخرج ولكن بهذه العقلانية، بهذا التوفر على النضال الواعي وصلنا إلى هذا الحد، فإننا نستطيع أن ننظر إلى المستقبل بأمل كبير وثقة بالنفس عميقة، فقد أعطتنا الظروف الجديدة مصداقية لأسلوبنا، لأسلوب عملنا ولصحة مسيرتنا ولصحة التصور التاريخي الذي بني حزبنا عليه..

والسلام.

 

26/تشرين الثاني/1978

 

(1) لقاء مع طلبة الدورة الثامنة عشرة الاعتيادية لمدرسة الإعداد الحزبي في 26/11/1978.

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الخامس