ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الخامس


الثورة العربية في طريق النضج

 

أيها الرفاق الأعزاء(1)

أتمنى أن يكون هذا اللقاء عبارة عن حوار وتبادل رأي وتجربة بيني وبينكم، وأن يأخذ طابع البساطة والانفتاح والاقتراب من حياتنا القومية وحياتنا الواقعية بهمومها ومشاكلها سواء في الحزب أو في شتى طبقات الشعب. وقد سرني كثيرا أن أرى أن حزبنا أصبح متغلغلاً في كل ناحية من نواحي حياتنا الوطنية والقومية وأن أي لقاء في هذه المدرسة يعطينا صورة عن مجمل فعاليات هذا القطر ونشاطات وإنجازات ثورة الحزب فيه لتنوع الاختصاصات والمراكز التي شغلها الرفاق الذين يؤمّون هذه المدرسة...

فهي فرصة ثمينة أن نكّون فكرة عن كيفية سير الأمور ومختلف النشاطات وفي الوقت نفسه أن نعرف ما هي الأمور التي تقلقنا بالنسبة إلى المستقبل ما هي الآمال التي تحفزنا، ما هي تطلعاتنا المستقبلية البعيدة سواء بالنسبة لقطرنا العراقي أو بالنسبة لوطننا العربي الكبير؟

فقبل أن أستمع إلى أسئلتكم والى انطباعاتكم أحب أن أؤكد في هذه المناسبة بأننا نستطيع أن نقرر رغم صعوبة المهام ورغم العوائق الكثيرة التي يضعها التخلف في طريق الثورة، ورغم حراجة الظروف الخارجية المحيطة بالأمة العربية والمتآمرة على نهضتها ورغم مظاهر سلبية كثيرة تنتشر في وطننا الكبير، نستطيع أن نشعر بالاطمئنان وبالثقة دون غرور ودون استرخاء، نستطيع أن نشعر شعور اليقين بأننا وصلنا إلى حد من نضج التجربة، من وضوح النظرة، من عمق الصلة بالشعب، من نضج الممارسة، وصلنا الى حد نستطيع معه أن نواجه المستقبل سواء في هذا القطر أو على النطاق العربي الواسع بثقة بالنفس لم نعرفها في يوم من الأيام في الماضي، وبشعور بالقدرة وبالكفاءة وبأننا ماضون في تحقيق رسالتنا القومية رغم كل الصعاب، وأن هذه الحركة أصبحت في ضمير الأمة العربية تحتل مكاناً شرعياً لا يناقش أو يجادل فيه، وأنها الأمل دون أن نغمط غيرنا حقه، دون أن يعني ذلك الاستئثار والانفراد، ولكن هذا تقرير واقع بأنها الحركة العربية القومية الأساسية التي تتطلع إليها الجماهير العربية وهذا ليس شيئا للتفاخر وإنما هو مسؤولية كبيرة، إذا أمعنا فيه النظر فإنه في نفس الوقت الذي يلهمنا الحماسة والاندفاع، يلهمنا في الوقت نفسه شعوراً عميقاً بالمسؤولية ويرتب علينا قدراً كبيراً من التجرد ومن الزهد ومن الانقطاع لمهامنا القومية التي هي أسمى ما يقدر للإنسان أن يعمله في حياته. والآن أيها الرفاق أرجو أن نبدأ بسماع ما يعتلج في نفوسكم وفي أذهانكم من تساؤلات ومن استيضاحات لكي نتبادل فيها الرأي ولكي يكون حديثنا حديثاً حياً من الواقع لا درساً من الدروس.

 

**********

*طالما شعرنا بالتفاؤل الواثق ونحن نسترشد بكتابات الرفيق القائد المؤسس وتوجيهاته، وهذا ما دفعنا إبان النضال السلبي، وشحذ عزائمنا لكي نحقق النصر ثلاث مرات -مرتين في العراق ومرة في سوريا- رغم الهجمات الشرسة التي كنا نجابه بها من قبل الحكومات الغاشمة التي كانت تسير من قبل الاستعمار.

ورغم الافتقار إلى الوضوح الكامل لبعض جوانب الحياة القومية إلا أني أرى أن ما يجري في الوطن العربي إن هو إلا تطويق لحركتنا التاريخية، أرجو التفضل بإعطاء فكرة حول كيفية كسر هذا الطوق والانطلاق من موقف الدفاع إلى الهجوم. وبماذا ينصح رفيقنا القائد المؤسس الشباب البعثي الذي اتسع وتغلغل بين طبقات الشعب ليبقى في الطليعة ويحقق رسالة الأمة؟.

 

-أيها الرفاق

لنعد بفكرنا إلى الأوليات، إلى دوافع نشوء حركتنا، كيف فكرت هذه الحركة بأنها تستطيع أن تحقق نهضة أصيلة لأمتنا، ولو أن ذلك يتطلب نضالاً طويلاً وزمناً طويلاً. كيف وثقت حركتنا من قدرتها على الاضطلاع بهذه المهمة رغم معرفتها بوجود الأعداء الأقوياء الذين يعملون بكل الوسائل للحيلولة دون هذه النهضة ودون نجاحها لأنهم يعرفون أن نهضة الأمة العربية تنهي استغلالهم، تنهي سيطرتهم وقد تنهي الاستغلال والاستعمار على نطاق أوسع من النطاق العربي؟؟

الفكرة المضيئة التي أنارت الطريق من البداية كانت بهذه البساطة بأننا نحن في وضع متخلف ومحكوم من قبل المستعمرين ومستغل ومجزأ. لأن القسم الأكبر من إمكانات شعبنا غير مستغلة، مخنوقة لا يسمح لها بأن تنطلق بأن تتحقق أو أن بعضها يستغل ضد مصلحة الأمة بدلاً من أن يكون في خدمة الأمة وفي خدمة نهضتها. فإذن ما هي مهمة الثورة أو الحركة الثورية؟ هي أن تسعى دوماً لكي تهيأ الظروف والشروط التي تمكن شعبنا العربي في كلّ أقطاره وجماهيرنا الواسعة من أن تحقق إمكاناتها، تنتج، تناضل، تفكر، تستخدم كل مواهبها كما هي الحال في كل شعب راق.. معيار الرقي الحقيقي هو عندما يكون مجموع الشعب أو على الأقل الأكثرية الكبيرة من الشعب في حالة انطلاق وإنتاج لا تحد من قدراته قيود مصطنعة، عراقيل مصطنعة، سواء نتيجة التخلف والعادات السقيمة والجهل وتحكم طبقات مستغلة ترى من مصلحتها بقاء الجهل وبقاء الجمود والانكماش، أو بفعل مؤثرات خارجية أجنبية، احتلال أجنبي أو ضغط أجنبي أو استغلال بأي شكل من الأشكال يأتي من الخارج من وضع هذه العوائق، هذه المعوقات والحدود والقيود المصطنعة ليبقى الشعب متخلفاً ضعيفاً وليبقى استعداده واستثمار ثروات أرضه واستغلال مواقع بلاده ليبقى محصورا بالقوى والدول الكبيرة.

فالفكرة الأساسية الهادية هي هذه دوماً.. هذه لا يطرأ عليها هرم أو قدم ولا تصلح لزمن ثم لا تعود صالحة لزمن آخر، هذه هي من صميم التفكير الثوري هو أن نعود دوماً إلى واقعنا ونرى، نبحث، نشاهد، إلى أي حد نجحنا في تحطيم القيود التي تعطل نشاط وإبداع جماهيرنا الشعبية، شعبنا بصورة عامة، هل هو وجد الشروط الملائمة والمساعدة على أن يعطي أقصى جهوده وأحسن ما يستطيعه وأحسن وأعلى قدراته أم أن كثيراً من هذه الإمكانات والقدرات يظل مخنوقا، يظل معطلاً بسبب ظروف المجتمع؟ ومهمة الثورة، مهمة الحركة الثورية أي الحزب، مهمة الحزب، دوما أن يعود إلى هذا المقياس، أن يرى ما هي الوسائل التي يستطيع بها أن يحقق أكبر قدر من الانطلاق بطاقات وإمكانات الشعب.

وعندما أقول ذلك يجب أن أكمل هذه الفكرة أو أن أزيدها وضوحاً بأن أقول بان الإنسان يختلف عن الآلة، الإنسان هو جسد وروح وعقل ومشاعر، فعندما نقول الحركة الثورية مطلوب منها بنضالها وبفكرها الثوري ونضالها الدؤوب أن تزيل من طريق الشعب المعوقات التي تمنع انطلاقة مواهب الشعب وقدرات الشعب، فمعنى ذلك أنه ليس فقط القدرات المتعلقة بما هو شبه آلي في الإنسان، أي أنه يستطيع أن يعمل بيده، أن ينتج، أن يمارس عملاً معينا، أن يتقن وظيفة ما أو فناً ما، كلا هذا لا يكفي، المطلوب هو ان نحقق الحرية والانطلاق والتفتح بإنسانية الإنسان العربي، لكل المواهب في شعبنا العربي لأن أهم قوة يستند إليها الشعب في محاربة الأعداء، في محاربة التخلف، في مسابقة الزمن من أجل تحقيق التقدم هو الدافع الذاتي. أهم قوة هي الدافع الذاتي، ليست القوة التي تطلب منه، أو تفرض عليه، ليست القدرة التي يمكن أن يعطيها بقدر ما هي الاندفاع الذاتي العميق نتيجة شعوره، بوجوده، شعوره بأنه إنسان، وإنسان عربي وموجود في هذه الحياة وليس وجوده عبثاً وأنه منتسب إلى شعب، إلى أمة لها تاريخ، ويجب أن يبقى لها حاضر ومستقبل، لها رسالة، لها مميزات مثل كل الأمم الراقية التي تركت آثاراً في تاريخ الإنسانية والتي تقرر مصير الإنسانية، فهذا الشعور، هذا الوعي العميق، يجب أن يكون رائدنا دوماً. إننا إذن في مواجهة هذه المؤامرة الواسعة، المؤامرة الاستعمارية الصهيونية والتي تجد في داخل المجتمع العربي والوطن العربي ركائزها وحلفاء وعملاء تستند إليهم لالتقاء المصالح بين القوى الاستعمارية والصهيونية وبين هذه الفئات والأنظمة المستغلة التي لا تزال في كثير من الأقطار العربية أو في نواحي المجتمع العربي.. كيف ترد هذه المؤامرات الواسعة الشرسة؟ إذن بإطلاق إمكانات شعبنا بكل نواحيها وبصورة خاصة بأن ننمي في الشعب الدافع الذاتي.. الشعور بالمسؤولية، الشعور بأنه حي وأن له حق الحياة وعندما يكون له حق الحياة تترتب عليه واجبات ومسؤوليات لأن الحياة بدون مسؤوليات لا معنى لها ولا طعم، لأن الحياة الحقيقية المفرحة السعيدة هي الحياة التي يتحمل فيها الإنسان ويتحمل فيها الشعب مسؤولية الغد... مسؤولية التقدم. مسؤولية التحرر، مسؤولية الأجيال القادمة وقد يصل عمق الشعور بالمسؤولية إلى حد أن الشعب يشعر بأنه مسئول عن الإنسانية لأنه جزء حي من هذه الإنسانية، فكيف يشعر بالاطمئنان ويشعر بالسعادة ما دام يسمع ويرى بأن الظلم قائم في أماكن أخرى، وأن شعوباً تستعبد وتظلم وتقتل وأن الكرامة تهدر، فهذه اليقظة التي نريدها لشعبنا وللمواطن العربي الجديد، لإنساننا العربي الجديد، هذه اليقظة، هذا الانطلاق في العمل وفي الإنتاج لا يقتصر على الإنتاج المحدد، وإنما يجب أن يذهب إلى أعماق النفس، إلى أعماق الشعور بمعنى وبجود إنسان، لماذا هو موجود على وجه البسيطة؟ لم يوجد عبثا، له رسالة، هناك معنى لوجود الإنسان ولوجود الشعوب وعندها تكون النهضة أصيلة، لأنها من جهة تضمن لنا هذا الانطلاق الشامل من جماهير شعبنا وتضمن لنا أن يضع الشعب في طريق النهضة كل إمكاناته المادية والروحية والفكرية، لأننا حركنا فيه كل إنسانيته.. حركنا فيه كل مواهبه وشعوره بانتمائه القومي وبانتمائه الإنساني وبمعنى وجوده في الحياة وبتطلعه الى الغد الأفضل بالنسبة لنفسه، لشعبه، وبالنسبة للإنسانية كلها. لذلك، المقياس للتقدم، للنجاح في عملنا، كحركة قومية ثورية يجب أن يكون دوماً إلى أي حد استطعنا أن نحرر الإنسان العربي، أن نحرر الجماهير الشعبية الواسعة، لأنها إذا انطلقت بكل قدراتها فنحن نؤمن بأنه ليس من قوة على الأرض تستطيع أن تمنع نهضة أمة مصممة على النهوض مهما تكالبت الأطماع والقوى الاستعمارية، مهما تفننت في أساليبها ومؤامراتها فإن الشعب الحي الواعي مالك الإرادة، الذي يملك إرادته. والإرادة هي الحرية هي وليدة الحرية، الذي ليس حراً لا يملك إرادته، فنحن أيها الرفاق كثورة عربية نمشي نحو النضج لأننا جربنا في العشرين سنة الأخيرة، جربنا انطلاقة الجماهير قبل عشرين أو خمسة وعشرين عاماً لم تأخذ كل مداها، لو أن انطلاقة الجماهير في الخمسينات تتابعت لكان تاريخ هذه البلاد قد تغير، ولكن الذي حصل أن انطلاقة الجماهير في الخمسينات استخدمت لكي تفرض على هذه الجماهير فيما بعد، قيود كبلتها وحددت دورها في الهياج العاطفي المنفعل في التصفيق والتأييد دون أن يكون لها مشاركة جدية عميقة في تقرير مصيرها وفي صنع حياتها وفي صنع مجتمعها الجديد، فكانت النكسة.. أعقب ذلك النكسة لأنه لم نستفد الاستفادة المطلوبة من حركة الجماهير، وإنما كان هناك عقلية غير واثقة كل الثقة بالجماهير الشعبية، فكان هناك خوف من انطلاقة الجماهير الانطلاقة الكاملة، ولذلك حصلت النكسات وكان الشعب على الهامش غير مشارك وعندها أخذت الثورة العربية درسا بليغاً، فنحن إذن في مرحلتنا الحاضرة نسير متذكرين ذلك الدرس ومتعظين به. ولذلك نعرف بأن القوة الحقيقية التي نواجه بها الاستعمار أو الرجعية المتحالفة معها، إنما هي قوة الجماهير الشعبية المندفعة ذاتياً، المندفعة نتيجة شعورها بالحرية وشعورها بأن هذا المجتمع هو لها وهي تبنيه وتصنعه بأيديها وإرادتها، وأن المستقبل لها، وعندها تضع كل طاقاتها في الإنتاج وتضع كل حياتها في النضال وهكذا نصل إلى القوة التي يجد الاستعمار نفسه أمامها عاجزاً وضعيفاً.

 

*ورد في أدبيات الحزب بأن جميع الأقليات الموجودة في الوطن العربي قوة مضافة الى الأمة فمن خلال النظرة الإنسانية للحزب كيف يكون التعامل مع هذه الأقليات باعتبارها تشكل نسبة غير قليلة في الوطن العربي لا سيما وأن هناك إيقاظاً قوميا لهذه الأقليات من قبل المستهدفين لهذه الأمة.؟

 

بالنسبة للأقليات القومية نحن استلهمنا الفكر الثوري القومي، كما استلهمنا تراثنا العربي ووضعنا هذه النظرة المتميزة التي لنا ثقة كبيرة بأنها إذا أحسن فهمها وطبقت بإخلاص وبكامل التطبيق فإنها كفيلة بأن تنهي مشكلة الأقليات أو أن تضع لها الحل السليم والذي سيكون نموذجاً لشعوب أخرى، سيكون نموذجاً إنسانياً.

نحن انطلقنا من الشعور القومي، من الوعي القومي، شعورنا القومي هدانا إلى الثورة لأننا شاهدنا واقعنا القومي المتخلف الضعيف الممزق فتأملنا وفكرنا في كيفية الخلاص إذا كنا نقدس هذا الشعور القومي فإننا نقدسه عند كل الشعوب الأخرى، فإذن ليس في تفكيرنا أي انغلاق أو تعصب قومي من شأنه أن يؤدي للضغط على أية أقلية قومية أو لإنكار حقها في أن تكون حرة، ولكننا أيضاً لم نأخذ المسألة بشكل نظري بعيد عن الواقع، ننظر إلى الواقع، ما هي هذه الأقليات؟ هناك أقليات واضحة.. أقليات قومية واضحة، ولكن عاشت ضمن المجتمع العربي مئات السنين دون أن يكون هناك مشكلة قائمة بينها وبين الشعب العربي كأقلية قومية. لم نعرف بأن في التاريخ هناك ثورة للأكراد مثلاً بل نعرف أن هذا الشعب كان يعيش مندمجاً ومتآخياً مع سائر العرب وكان مشاركاً في المصير يدافع عن الأرض العربية وعن القيم الحضارية العربية وعن المصير العربي سواءً تجاه الغزوات الصليبية أو التترية أو غيرها، متى ظهرت هذه النغمة؟.

معروف أنها ظهرت مع الاستعمار الغربي الحديث فهذا ما يجب أن يوضح دوما، هناك مصير مفتعل يفتعله الاستعمار، هذا الحد من الافتعال يجب أن يوضح للجميع.. للعرب وللأكراد وللعالم الخارجي وهكذا تبقى الأشياء الواقعية المشروعة التي لا خلاف عليها بأن هذه الأقلية لها حقوقها ولها حرمتها عند الأمة العربية ولها تاريخ طويل مشترك مع الشعب العربي، ولكن من غير الطبيعي وليس شيئاً سليماً وليس شيئاً بريئاً أن تفتعل الحركات والعصيانات عندما تكون الأمة العربية في معركة مصيرية ضد الاستعمار والصهيونية وفي ثورة شاملة هي ثورة هذا العصر، الأمة العربية لم تكن في الماضي وليست هي الآن ولن تكون في المستقبل أمة استعمارية، أمة مستعمِرة، أمة ظالمة لغيرها، مستبدة لغيرها، ولكنها لا تتجاهل أن الأعداء يلجأون إلى شتى الأساليب لكي يلغموا نهضتها، لكي يضعفوا نضالها، لكي يخلقوا لها المعارك الجانبية التي تلهيها عن معركتها الأساسية. هذا يجب أن يوضح دوماً لأنه ليس منطقياً ولا طبيعياً أن تقوم ثورة صغيرة تحررية ضد ثورة تحررية أوسع منها. الشيء الطبيعي هو الالتقاء وهو التعاون وهو الإخاء طالما أن خلال مئات السنين كان هذا الإخاء متحققاً، وكيف تشذ الآن عن القاعدة ويكون التحرر الصغير ضد التحرر الكبير، الثورة الصغيرة ضد الثورة الكبيرة التي هي الثورة الفعالة ثورة الأمة العربية في هذا العصر، هي الثورة التي ستؤمن وستضمن للعرب ولشعوب كثيرة الحرية والعدالة. عندما يكتمل التحرر العربي، عندما لا يبقى أثر للنفوذ الاستعماري على الأرض العربية، معنى ذلك أن هذه القوى قد ضعفت وتراجعت وبالتالي معناها أن شعوبا كثيرة ستتحرر نتيجة تحرر الأمة العربية. المستقبل هو الحياة المتآخية بيننا وبين هذه الأقليات التي كانت في الماضي في أخوة معنا ولم يحصل الآن ما يبرر فصم هذه الأخوة، لأن العدو مشترك.. لا يمكن أن نسمي ثورة، التمرد الذي يستعين بالقوى الاستعمارية والصهيونية ضد الثورة العربية، هذا هو عكس الثورة، هذه هي الثورة المضادة ولا نرضى لإخوتنا الأكراد أن يسيروا في طريق الضلال، وأعتقد بأن الجماهير الكردية عندها من هذا التراث المتراكم من العيش المشترك مع إخوتهم العرب وهذا التراث المشترك الروحي الذي يجمعهم أيضاً بالعرب ما يشكل الضمانة، ولا أعتقد بأن التضليل سينجح بعد الآن في حرف الجماهير الكردية عن الطريق السوي الذي هو التعاون والتحالف. تبعاً لهذا، يترتب علينا أن نسعى دوماً لتجسيد مبادئنا وأفكارنا القومية الثورية التجسيد الصادق في التعامل دون غفلة ودون أن نتجاهل خبث الأعداء وأساليبهم في الاستغلال وفي الاندساس والتآمر، ولكن بمقدار ما نمضي في تجسيد مبادئنا الإنسانية في تعاملنا مع الأقليات القومية الواضحة المعالم، نضمن تحقيق هذا المستقبل الذي لن يكون فيه فرق ولا تباعد بيننا وبينهم. وقلت بأن ليس كل الأقليات لها معالم واضحة وهذا صحيح فإن هناك افتعالاً من قبل الدول الاستعمارية هو افتعال واضح وصارخ لبعض الفئات غير المندمجة اندماجاً كاملا، ولكن هذا لا يكفي لكي يجعل منها قومية خاصة. القومية الخاصة، القومية المستقلة، لها شروط، يجب أن يكون لها تاريخ وحضارة وأرض وغير ذلك. فإذن نحن نمضي في طريقنا الثوري وفي الاستمساك بمبادئنا الإنسانية وفي الوقت نفسه نمضي في نضالنا ضد الاستعمار والقوى الاستعمارية والصهيونية وكل نجاح نحققه في نضالنا ضد القوى الأجنبية المعتدية سيخفف من هذه المشاكل المصطنعة والمفتعلة وسيظهرها على حقيقتها بأنها مفتعلة وليس لها أساس موضوعي، كما هي المسألة في لبنان أيها الرفاق، إذ صرنا نسمع بالعنصر الماروني وكأنها قومية أو عنصر متميز له تاريخ وله حضارة، وهم شعب عربي مثل باقي العرب، وإنما هي قيادات نفعية وذات أطماع سياسية وطبقية استندت الى تشويه ثقافي استمر ردحاً من الزمن، مدة قرن كامل والمدارس التبشيرية تنفث سمومها في تلك الأوساط، وتخلق وعياً منحرفاً وشعوراً منحرفاً بأنهم ليسوا عرباً وأنهم شيء آخر وبالتالي يمكن أن يتحالفوا مع أعداء العرب لكي يستقلوا ويتحرروا، هذه افتعالات ضد طبيعة الأشياء لن يكتب لها البقاء، لن تدوم طويلا، ونحن، الأمة العربية الكبيرة ذات الوزن العالمي وذات التاريخ العريق وذات الرسالة الإنسانية نستطيع أن ننظر بأفق واسع وبنظرة شاملة ومتفائلة إلى المستقبل، نستطيع أن نصبر ونتحمل بعض الشيء لكي نفلّ ونعطل الذي يفتعل هذه المشكلات في مجتمعنا والذي قد يصل إلى افتعال مشكلات أخرى مستفيدا من التخلف، مستفيداً من بعض الثغرات، من بعض النقص، من بعض الإهمال في التوجيه. يجب ألا نرتاع بل نتحصن دوماً بالنظرة البعيدة إلى المستقبل، بأن هذه الأشياء يجب أن نأخذها كتنبيه مفيد، تنبيه فيه كل الخير، هل نحن مقصرون في التوجيه؟ هل نحن مقصرون في توضيح فكرتنا، هل نحن مقصرون بعض التقصير في التعامل، وإذا وجدنا أي تقصير نتلافاه، وإذا كانت بعض أفكارنا غير واضحة وغير مفهومة ولم تصل إلى هذه الفئات التي ينفذ إليها الاستعمار وتنفذ إليها القوى الرجعية، يجب أن نذهب، وأن نذهب بأنفسنا كمناضلين إلى هذا الشعب، شعبنا، نذهب إليه متسلحين بالمحبة وبالانفتاح وبالشعور الواحد بأن آلامه هي آلامنا، نسمع منه ليسمع منا، وأعتقد بأننا قادرون على سد كل ثغرة من هذا النوع وعلى تمتين بنياننا القومي بشكل يصمد في المستقبل لكل المؤثرات والصدمات الخارجية.

 

* في حديثكم إلى مجلة "آفاق عربية" تكررت عبارة "الشعب اليهودي" أرجو توضيح الالتباس الحاصل في فهمنا حول هذا الموضوع سيما وأنه من الحقائق المعروفة لدينا أن اليهود ليسوا بشعب.. ولا يمتلكوا مقومات الشعب.

 

هو كان حديثاً عفوياً وبسيطاً مع رفيقين كنا نتحدث والرفيق شفيق يكتب بعض الأشياء، فعلى افتراض أن هذا ورد على لساني في حديث غير منظم، هو كان بقصد أن أشرح بعض الأفكار، فكان القصد هو الماضي وليس الحاضر كنت أنظر إلى ما كان في القديم أنه كان يوجد شعب يهودي والشعب العربي. أخذت صورتين للشعب العربي الذي برهن عن الاستعداد للانفتاح والاتساع، فتح صدره لشتى الشعوب، اندمجت فيه -وعن طريق الإسلام بالطبع-، وذلك الشعب المنكمش على نفسه الذي هو الشعب اليهودي انكماش مرضي، فعلى افتراض أن التعبير ورد فكان المقصود الماضي وليس في الحاضر. أما اليوم فليس العرب فقط ينكرون وجود شعب يهودي وإنما علماء التاريخ في العالم غير المتحيزين أيضا لا يعتبرون أن هناك شيئاً يصح أن يسمى شعباً يهودياً -هناك دين يهودي- مذهب يهودي، ولكن لا يوجد شعب يهودي، هذا مفروغ منه. إن الفكرة كانت عن الماضي وكيف أن فرعين من الشعوب السامية فرع عنده استعداد لأن يكون إنسانياً واتسع، وفرع آخر يفقد هذه الإمكانات فانكمش وتقلص.

 

* جاء في حديثكم عن حتمية انتصار حركة الثورة العربية ما عزز ثقتنا بقدرة الأمة على تجاوز معاناتها، يرجى إعطاء بعض المؤشرات والدلائل التي استمد منها القائد المؤسس هذا التفاؤل و الطموح، سيما وأن الأمة العربية تمر بأخطر مراحلها وأن القوى الرجعية بدأت تحتل مواقع جديدة كانت قد طردت منها.

 

أول مؤشر هو مسيرة الحزب وتجربة الحزب في هذا القطر، وهذا ما بدأت به حديثي بأنه عندما تصل حركة قومية بعد تجارب عديدة وبعد نكسات مرت بها إلى حد جيد، لا أقول بأنه مثالي، ولا أقول بأنه وصل إلى غاية الأماني، وإنما إلى حد جيد من التماسك، من وضوح الشخصية، من وضوح الملامح الفكرية، من الرسوخ بالاستناد إلى قاعدة شعبية قوية واسعة وإلى ثقة عربية خارج حدود القطر وموزعة على جميع الأقطار العربية وفي الأوساط الشعبية والثورية، أصبح هناك اعتراف أكيد بهذا القدر من الرسوخ الذي حققه الحزب، هذا شيء ليس بالقليل، هذا شيء جديد في حياة الأمة العربية والعصر الحديث، هذا شيء تتمناه قوى راقية أحيانا أن يكون لديها حركة بمثل هذه السعة وبمثل هذا الأساس الفكري، بمثل هذا الارتباط المصيري بالجماهير، فحركتنا هي العامل الأول في تفاؤلنا الواقعي.

ثم نحن نؤمن بشعبنا، نؤمن بأن الشعب العربي هو واحد في جوهره، في أصالته، في تجربته المعاصرة العميقة الجادة التي بلورت وعياً ثورياً عند هذا الشعب. فإذا كانت حركتنا كتنظيم لم تتسع كثيراً، ولكننا نحن نؤمن بأن الجماهير الشعبية في مختلف الأقطار العربية هي نفس هذه الجماهير التي نراها هنا في هذا القطر لا تختلف عنها لا من حيث الوعي ولا من حيث القدرات النضالية، وإن اختلفت الظروف أحياناً وشروط المعيشة. ونحن نرى بأن النكسة أحياناً هي سبيل إلى التقدم وإلى التصحيح وكذا النصر. تمر مصر بنكسة بالنسبة إلى العهد السابق، تراجع عن الاشتراكية، تراجع عن الوطنية، عن المبادئ الوطنية، تراجع عن القومية العربية بمبادئها وبتمسكها بحقوقها في وجه الاستعمار والصهيونية، كل هذا واضح في مصر، ولكن إذا نظرنا نظرة فاحصة نجد أن الانتقال الذي تحقق في عهد عبد الناصر في مصر من الإقليمية المصرية إلى القومية العربية لم يكن انتقالاً عميقاً لم يكن على صعيد القواعد وإنما كان تمهيداً فوقياً، والشعب لم يتفاعل مع هذه المبادئ التي أعلنها عبد الناصر إلا تفاعلاً سطحياً، وأصاب مصر ردة، هذه الردة يمثلها نظام ضعيف ليس له تلك القبضة الحديدية على البلد وعلى الشعب، وليس له هيبة ولا حرمة، هو نظام ضعيف مادياً ومعنوياً، الجماهير التي عاشت زمن عبد الناصر فترة من الزمن في حلم الانتصار وفترة أخرى في ألم النكسة، الآن تعود لتخدم هذه المبادئ التي كانت تفرض عليها دون أن تنبع من داخلها، الآن المبادئ القومية يعيشها الشعب في مصر لأنه من الضائقة الاقتصادية أخذ يفهم ماذا تعني القومية العربية، من هذا الإذلال الاستعماري لوطنه أخذ يفهم ماذا يعني المصير العربي المشترك، انه إذا انعزلت مصر فهي ضعيفة أمام الولايات المتحدة وأمام الكيان الصهيوني، أما إذا كانت مصر جزءاً من وطن عربي كبير فإنها تستطيع أن تصمد وأن تحفظ كرامتها. فعندنا إذن تفاؤل في المستقبل، لم يعد هناك خوف من نكسة أخرى في مصر، المنتظر هو على العكس الصعود، لأن النكسة حصلت بكامل حجمها والى آخر درجاتها، والصعود هو المنتظر.

بالنسبة للمغرب العربي -أقطار المغرب العربي نحن لا تصلنا أخبارها، يعني لا نطلع الإطلاع اليومي، إلا لمن يقدر له ان يذهب في وفد هذا يطلع- لكن الحقيقة هي أن أقطار المغرب العربي تعيش منذ نكسة حزيران وبصورة خاصة من حرب تشرين، يعني من عشر سنوات، ثم من أربع سنوات، منذ حرب تشرين أقطار المغرب كجماهير وكفئات واعية وموجهة للجماهير، تعيش في حالة مخاض عربي وحدوي، نكسة حزيران عام 1967 جسدت لجماهير المغرب العربي، جسدت لها عروبتها التي لم تكن تعرفها معرفة واضحة، لأن الأنظمة، فضلاً عن الاستعمار الذي حاول طمس شخصيتها العربية، الأنظمة القائمة كانت تحاول إبعادها عن العرب والعروبة. وأمام النكسة القومية حصل الانفجار العاطفي العفوي، ولا شك أنكم اطلعتم في ذلك الوقت على رد الفعل الذي حصل عند الجماهير في تونس وفي الجزائر وفي المغرب.

بعد حرب تشرين حصل شيء مختلف وإيجابي بأن هذا الوزن الذي احتله العرب دولياً بعد حرب تشرين، وكانت أقطار المغرب بعيدة وغير مشاركة في ذلك الانتصار الذي كشف عن قدرة الإنسان العربي، قدرة الجندي العربي وكفاءته وبأنه لا يعوقه عائق عن أن يكون في مستوى أرقى الشعوب في هذا العصر، ثم النفط وأهمية النفط وقطع النفط عن الدول الغربية تلك الفترة القصيرة وأثر ذلك على العالم، هذان العاملان فعلا فعلاً كبيراً خاصة في الطبقات المثقفة والتي بيدها التوجيه في أقطار المغرب.

فتفاؤلنا ليس سحرياً، ليس من قبيل الإيمان بالغيب ومن قبيل تشجيع النفس كلا، وإنما هو فعلاً قائم على حقائق موضوعية، وان في مجتمعنا ظروفاً تاريخية كثيرة أوجدت هذه التجزئة، ومهمتنا الأولى هي القضاء على هذه التجزئة وتحقيق الوحدة، ولكن الوحدة تصنع يوماً بعد يوم، هي في طور الصنع وإن كانت لا ترى في وضح النهار، هذه بعض الأشياء التي أحببت أن الفت إليها نظر الرفاق.

 

(1) لقاء حوار مع طلبة الدورة السابعة الخاصة في مدرسة الإعداد الحزبي بتاريخ 10/5/1977.

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الخامس