ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الخامس


تتحقق الوحدة العربية متى تحول الشعور بضرورتها إلى إرادة

 

أيها الر فاق(1)

بدأ حزبنا قبل أكثر من ثلاثين عاماً بين الطلاب وبقينا سنوات نتوق ونتحرق للوصول إلى صفوف الجماهير والجماهير الكادحة وكنا على يقين بأننا سنصل إليه. وكانت البداية مع طبقة الطلاب العرب بداية طبيعية وسليمة كما أعتقد، إذ لم يكن بد من طليعة قادرة أكثر من غيرها من طبقات الشعب على استيعاب فكرة الحزب ومهمته، وقادرة بحكم وضعها واعمار أفرادها وبعدهم عن المصالح الخاصة أن تنبري لحمل رسالة الحزب بحرارة واندفاع، وبعد سنين ومشقات وصل الحزب إلى الجماهير وأصبحت الجماهير ترى فيه المعبر عن مصالحها وعن إرادتها، ولكن المعيار لقابلية الحزب للاستمرار والتجدد ومواكبة التطور بقي هو مقدار ما يؤثر هذا الحزب في صفوف الطلبة العرب، ومقدار ما يجذب منهم إلى صفوفه. وهذا شيء أساسي أذكره في كل مناسبة ألتقي فيها بالطلاب البعثيين، وعندما أسمع عن تنظيم لنا في قطر من الأقطار العربية أسأل أول ما أسأل عن مدى تغلغل الحزب في صفوف الطلاب رغم معرفتنا وقناعتنا جميعاً بأن المادة الأساسية للحزب وللأمة هي الجماهير وأن الثورة العربية لا تقوم على طبقة المثقفين وإنما تقوم على الجماهير الكادحة، ولكن تفاعل الحزب مع الطلاب هو الدليل على صحة السير، على أن الحزب لم يتخلف، لم يطرأ عليه الجمود، لأن الطلاب يمثلون نبض الأمة، نبض المستقبل وهم متطلعون دوما إلى المستقبل، فإذا ابتعدوا عن الحزب فهذا دليل سيء، دليل على أن الحزب بحاجة إلى تجديد، إلى تطوير، إلى إعادة نظر.

 

أيها الرفاق،

في هذه الظروف المصيرية التي تجتازها أمتنا تنتظرون ولا شك كلمة فيها بعض التوضيح، فيها بعض الضوء لإنارة الطريق، ورغم أن ظروفنا العربية وظروفنا القومية معقدة جداً فنستطيع أن نتبين بعض الخطوط الأساسية، نستطيع أن نرى أن الأمة سجلت تقدماً ملحوظاً في الوعي وفي الممارسة، في الفكر وفي النضال. فالهزيمة التي أصابتنا عام 1967، رغم أن التآمر الاستعماري الصهيوني كان هو المسبب الرئيسي لها، هذا التآمر المستمر على يقظة الأمة العربية ونهضتها لكي تبقى مفككة مجزأة ضعيفة تنهب ثرواتها وتستغل أرضها، رغم ذلك كان في ضمير الأمة شعور بأن شيئاً في الهزيمة كان مفيداً وكان حقاً وعدلاً وكان لخير الأمة. بمعنى أن الأوضاع التي كانت تحظى بالتأييد الشعبي والتي كانت تصنف بأنها أوضاع وطنية وقومية وتقدمية، إن لم نقل ثورية، كان فيها نقص كبير، وكان فيها خلل وأمراض وكان يخشى أن يستمر ذلك أن تستمر تلك التغطية للحقيقة وأن يستمر ذلك التزوير وأن يؤثر في وعي الجماهير العربية فتكون ثورتها مختلة وغير سليمة وبالتالي تكون مقصرة عن بلوغ أهدافها الكبرى، جاءت الهزيمة لتكشف عن الأمراض، لتكشف عن التضليل، عن التزوير، عن التعمية والتغطية. صحيح أنها كانت مؤامرة استعمارية صهيونية خبيثة، ولكن كان فيها ناحية خير من أجل أن لا يستمر الغش، من أجل أن نصحح الأسس التي تبنى عليها الثورة العربية المعاصرة، وبالفعل هذا القدر من الوضوح الذي ولدته الهزيمة، فأدى إلى سقوط الحجب والستائر، هذا القدر من صحوة الفكر النقدي عند الجماهير العربية والأجيال العربية الشابة المثقفة، هذا التنبه هو الذي فعل فعله خلال سنوات قليلة محدودة وانفجر في الحرب الأخيرة، في حرب تشرين، بطولة وشجاعة وعلماً وكفاءة، وكان يمكن أن يصنع أضعاف ما صنعه لولا أن الحكام والأنظمة وضعت في وجهه العراقيل منذ بدايته الأولى لتبتره بتراً. ولكننا نؤمن رغم ذلك التشويه ورغم ذلك البتر بأن الوعي العربي قد انطلق ولن يقيَّد بعد الآن ولن يكبَّل، وأن تلك الأنظمة التي حاولت أن تظهر أنها صانعة النصر في حين كانت هي التي جمدت النصر في منتصف الطريق وهي التي شوهته وزيفته فيما بعد حتى كاد يتحول إلى هزيمة في المساومات المشبوهة حفاظاً على وجودها لا أكثر، نحن نؤمن بأن هذه الأنظمة عاجزة عن أن تطمس الحقائق، فهزيمة 67 هي فاصل تاريخي في حياة الأمة العربية، هي بمعنى من المعاني الحل الذي بلغت فيه الجماهير العربية سن الرشد وتخلت عن الخرافات والأساطير، تخلت عن أن تسلم قيادها وتتكل على زعيم أو مجموعة أشخاص أو أي شيء من هذا القبيل، وبلغت النضج لكي تستلم مقدراتها بيديها ونحن نرى ونلمس الآن، رغم استمرار تلك الأنظمة في أساليبها القديمة، في القمع، في المراقبة، في التوجيه، في الإعلام، في كل ذلك أن روحاً جديدة تختلج في قلوب وعقول الجماهير العربية والطلائع الشابة المثقفة بأنها لن تعتمد إلا على نفسها، إلا على الرؤية الواضحة.

ماذا نستخلص أيها الرفاق من هذه الأوضاع العربية؟ أبرز شيء يقفز إلى النظر والى الذهن هو مفارقة عجيبة قد تكون فريدة في تاريخ الشعوب هي أن وطننا العربي الكبير وأمتنا العربية المجيدة، هذا الوطن الكبير فيه من الثروات ومن الطاقات ما يستطيع أن يغير مجرى تاريخ العالم كله، والأمة العربية فيها، في تراثها وماضيها من القيم والاستعدادات، وفي حاضرها من القوى المتفجرة والكفاءات والنبوغ ما يكفي لبناء دولة عظمى ولبناء حضارة جديدة رائعة تسهم في إسعاد العالم، ورغم ذلك لا نرى إلا التخلف والبؤس والتفكك والتناحر والاستسلام أمام القوى. هذه المفارقة يجب أن ندخلها إلى وعي كل فرد من أبناء أمتنا، إلى عشرات الملايين من الجماهير العربية يجب أن ينظروا ويلمسوا هذه المفارقة ليعرفوا أن أي عذر يسقط، وأية حجة تبطل، لأي نظام إذا لم يتحرك من أجل القضاء على علة هذه المفارقة، على سبب وجودها، على علة الضعف والتخلف في الوجود العربي، على التجزئة العربية.

 

أيها الرفاق

مشاكل الأمة العربية كبيرة وصعبة ومعقدة، هناك وطن مترامي الأطراف مقسم إلى دول ودويلات، وهنالك تفاوت في مستويات التطور والرقي، هناك انقسامات على شتى الأصعدة، ولكن هناك شيئا لا تستطيع قوة أن تنكره أو تتجاهله، هو أن هذه الأمة تشعر وتعرف بأنها أمة واحدة، ومتى استطعنا أن نحول هذا الشعور وهذه المعرفة الأكيدين إلى إرادة تتحقق الوحدة العربية.

أمتنا أيها الرفاق لا تستطيع أن تهرب من نفسها، من طبيعتها من ماضيها من أصالتها. لها تكوين، لها روح، لها خصائص، فهي إما أن تكون أمة عظيمة أو تتردى على شكل هذا التناثر وهذا التخلف الذي نرى، إما أن تكون صانعة للحضارة، صانعة للتاريخ، أو أن تتمزق وتنقسم فيما بينها لأنها لا تستطيع أن تقبل بوضع لا يرقى إلى مستوى طموحها وطبيعتها الأصيلة. كيف تستطيع الأمة العربية أن تبلغ هذا المستوى؟ من يستطيع أن يوصل الأمة العربية إلى غايتها الأساسية؟ ليس غير الجماهير الواسعة، الجماهير الكادحة هي وحدها، ليس فقط في عددها الضخم، سواء في البناء أو في القتال، وهذا شيء أساسي، وإنما بما تتميز به من حيوية متجددة ومن تجرد واستعداد عميق وتام للتضحية وتحمل المشاق والنضال الطويل، هذه الطبقة طبقة الفلاحين والعمال الكادحين على صنوفهم المختلفة هي وحدها التي لا تتعب، هي وحدها التي تلتقي أهدافها بأهداف الأمة، إنها مؤهلة لأن تناضل وتناضل وتبني وتحارب حتى تبلغ الأمة أهدافها. أما الطبقات الأخرى ومنها طبقة المثقفين فإن نفسها قصير واستعداداتها العقلية والنفسية تغريها كثيرا باختصار طريق النضال والاخلاد الى الراحة والاستمتاع وبخلق شتى الأعذار والحجج، فليس بينها وبين الأمة ذلك التوافق التام، إنها تكتسب صفتها الثورية من انحيازها إلى الجماهير الكادحة، من اندماجها بقضية الجماهير، فاذا انفصلت عن تلك القضية لا تعود ثورية رغم كل نواياها الحسنة ورغم كل كفاءاتها. ومن يصنع الوحدة العربية غير الجماهير الكادحة؟ الوحدة العربية تبدو أمراً بديهيا ولكن دون تحقيقها الصعاب، وتكاد تبدو من ناحية أخرى وكأنها مستحيلة ولكن عندما تقوم الثورات على يد الجماهير الكادحة ذات النفس الطويل، والحيوية المتجددة والتفاؤل المميز لجماهير شعبنا، عندما تقوم الثورات على يد هذه الجماهير وتأخذ هذا الطابع الشعبي الجذري، الذي لا يقبل الالتباس، ثورة شعبية بالمعنى الصحيح، فإن مثل هذه الثورة تجتاز الحدود وتصبح كالنار في الهشيم، تنتقل عبر الحدود وتخلق التيار الشعبي التاريخي الجارف الذي يصنع الوحدة العربية.

 

أيها الرفاق

لقد قدر لحزبنا ان يحمل العبء الكبير، أن يضطلع برسالة الوحدة، وهو يسير على الطريق الصحيح. لقد ترسخ حزبنا في هذا القطر وضرب جذوره في أعماق تربته. هذا القطر الذي كان وحدوياً من قبل البعث، هذا القطر، العراق، عراق العرب، بطبيعته بتكوينه بمشاكله،كان مؤهلا لأن يحمل رسالة الوحدة. ولكن أوضاعه البائدة الفاسدة كانت تعطل فيه هذه الإرادة وتلك الإمكانات حتى جاء الحزب وترون بأنه يعمل عملا أصيلاً في هذا القطر وأنه ثورة متجددة لا تهدأ ولا تتعب ونحن كلنا ثقة بأن ثورة الحزب في العراق ستسير يوما بعد يوم لتأخذ الطابع الشعبي الجذري لتصبح ثورة الجماهير الكادحة بكل معنى الكلمة ولكي يكون العراق كما أهلّه التاريخ وكما أهلّه الحزب، محقق الوحدة وبانيها. والسلام عليكم.

 

28 تشرين الأول 1974

(1) حديث إلى الطلبة العرب في 28/10/1974

 

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الخامس