ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الخامس


دور الطبقة العاملة في بناء الثورة العربية

 

أيها الاخوان

إنها لفرصة طيبة أن اجتمع بممثلي الطبقة العاملة، في هذا القطر المناضل، وفي هذه الظروف العصيبة المصيرية، التي يجتازها وطننا الكبير، والتي تؤثر في مصيرنا كأمة، وفي مصير كل قطر من أقطارنا. ولا شك أن للطبقة العاملة في الوطن العربي عامة، وفي القطر العراقي بصورة خاصة، دورا كبيرا وأساسيا في هذه الظروف التاريخية وفي هذه المعركة المصيرية..

وكيف لا يكون ذلك، أيها الإخوة، والطبقة العاملة، والكادحون بصورة عامة، هم أكثرية الشعب الساحقة وهم الذين يعملون وينتجون ويبنون ويعمرون، وهم الذين يقاتلون ويقاومون ويضحون بدمائهم عندما تدق ساعة المعركة.

من تعبهم، من جهودهم ، من تضحياتهم، من بطولاتهم بنيت امتنا منذ القديم، ويبنى شعبنا، ويبنى حاضرنا ومستقبلنا من أكثرية الشعب الكادحة. هذا الدور الخطير للطبقة العاملة، للأكثرية الكادحة، هذا لم يكن معترفا به، ولذلك كانت بلادنا غارقة في النوم، في التخلف وخاضعة للاستعمار، وللاحتلال، ولأبشع أنواع الاستغلال والاستبداد، لان دور الكادحين لم يكن بعد اكتشف، ولم تسلط عليه الأنوار، ولم تعلن تلك الحقيقة إعلانا واضحا وصريحا، فكان ذلك عصر التخلف.

 

تباشير الثورة

ثم بدأت تباشير الثورة تطل على ارض العروبة منذ عشرات السنين، ونمت بذور الثورة الفكرية شيئا فشيئا حتى ظهرت الحركات المنظمة التي نادت بدور الشعب، ودور الطبقة العاملة، ودور الفلاحين، والمثقفين الثوريين ودور الجنود، أبناء الشعب. ومع هذا فان علينا أن نقول صراحة: بأن الثورة بقيت في منتصف طريقها، لم تجرؤ على المضي الى نهايته، وبقى المنطق الثوري مترددا، يخاف أن يخلص لنفسه كل الإخلاص ويصدق مع نفسه كل الصدق وان يطبق ما أعلنه وآمن به.

لذلك جاءت حصيلة السنين العشرين الأخيرة، حلولا وسطية ونتائج نصفية غير كاملة. وتجلى ذلك في المواجهة الحاسمة التي واجهت فيها الثورة العربية أعداءها الاستعماريين والصهيونيين. وظهر النقص الفادح والتقصير والتخلف وظهر بوضوح أن التقدم الذي سجلناه جميعا في جميع أقطارنا ومن قبل جميع فئاتنا وحركاتنا الثورية، هو جيد إذا قيس بالماضي ولكنه لم يكن كافيا، إذا قيس بالحاجات والمتطلبات الجديدة، وإذا قيس بما يتوفر لدى الأعداء من وسائل وعدد.

 

لكي تستحق الثورة اسمها

والثورة في الأصل والأساس لا تستحق هذه التسمية إلا إذا استطاعت ان توقظ وتستخرج وتبعث من أعماق الشعب، جميع القوى الكامنة، جميع الطاقات، التي تمكن الشعب والأمة من المواجهة المصيرية للأعداء، جميع الطاقات والإمكانيات التي تكفل النصر في تلك المواجهة. وإلا تكون الثورة ناقصة، وتكون معتلة ويكون فيها خلل يجب أن نبحث عن أسبابه، لنعالجه ونتلافاه.

فهل استطاعت الحركات والأنظمة التقدمية في البلاد العربية أن تطلق فعلا كل القوى الحية في شعبنا الكبير الواسع؟ هل استطاعت أن تهدم جميع الحواجز والعوائق في طريق انطلاقة هذا الشعب؟ هل استطاعت أن توجد النظام والتنظيم الملائم الذي ينسق جميع الفعاليات، وجميع الطاقات، لتعطي أحسن مردود ممكن؟.

ونحن لا نستطيع أن نقبل، بأي شكل من الأشكال، أن تكون النتائج التي وصلت اليها الحركات والأنظمة التقدمية في العشرين سنة الماضية، تعبيرا صادقا وكاملا عن إمكانيات امتنا وشعبنا، وإلا لكان معنى ذلك اليأس من أنفسنا ومن امتنا. واليأس مرفوض بلا شك . إذن لا بد أن نفتش عن الخلل، في الأفكار، وفي الأساليب، وفي الوسائل وفي التصرفات والأعمال التي عالجت قضية الثورة العربية، لنقضي على التخلف ونزيل العقبات من أمام الشعب ونستخرج أعمق ما لديه من نشاط وحيوية، ومن ذكاء وقدرة، ومن غيرة ووطنية وبطولة. ويمكن أن نفصّل في وصف النواقص والأمراض والتقصير ولكني أجمل كل ذلك وألخصه وأعطي أهم شيء يميز ذلك التقصير، فأقول: إن المرض الأساس الذي منع الثورة العربية من ان تؤتي كل ثمارها، وان تصل إلى كل أهدافها وغاياتها على أحسن وأكمل شكل، هو نقص في نظرتها إلى الشعب، ونقص في نظرتها إلى دور الطبقة الكادحة والطبقة العاملة. وهذا هو موطن الداء الذي يجب أن تسلط عليه الأضواء، لكي تكون معالجته منطلق تجديد وتصحيح لثورتنا في وطننا العربي كله.

 

النظرة الناقصة الى الشعب

النظرة الناقصة إلى الشعب والى دوره في الثورة، تلك هي المشكلة ، ولا أقول بان البرامج لم تعط الشعب حقه من الناحية النظرية، من ناحية الكلام. ولكن إذا لم يكن الكلام مقدمة إلى العمل فانه يكون نوعا من التلهي وأحيانا نوعا من الخداع والتضليل. في السنين الماضية لم تمكّن الطبقة العاملة والأكثرية الكادحة من أبناء الشعب، من ان تقوم بكل دورها في المجال القومي والاجتماعي، لأن الحركات والأنظمة التقدمية، والتي سميت ثورية، لم تكن تؤمن إيمانا عميقا بدور الشعب، وبدور هذه الطبقة. ولم تكن تثق بها كل الثقة، ولم تكن تطمئن إليها كل الاطمئنان. بل كان هناك نوع من الخوف، نوع من الحذر، نوع من الارتياب، ونوع من الاحتقار نحو أكثرية الشعب، إذ لم تستعمل المصارحة، ولم تعط الحرية لأبناء الشعب كي يمارسوا دورهم، ويبنوا أوطانهم، وينشئوا مجتمعاتهم، ويدافعوا عن قضيتهم وقضية آمتهم. بل أريدَ لهم أن يكونوا تحت الوصاية، وان يراقَبوا ويقيَّدوا، وان يُشك في نواياهم وتحركاتهم، وان يوجهوا بالإيحاء والتلقين والخداع والتهويل أو التضليل.

ولو كانت النظرة نظرة احترام، ونظرة تقدير، ونظرة ثقة ومحبة، ونظرة مشاركة عميقة، لما لجأ الحاكمون إلى أساليب الدعاية المضللة والى فرض القيود والمراقبة والقمع والإرهاب، إذ من هو أحق بأن يبني الوطن، وينهض المجتمع، ويدافع ويقاتل؟ من الشعب صاحب الوطن، وصاحب المصلحة الكبرى في بناء المجتمع، وفي بقاء الأمة وتقدمها..؟

 

كيف آلت القضية القومية

ايها الاخوان

لننظر قليلا كيف آلت قضيتنا القومية بعد عشرات السنين من النضال والتعب والجهد الذي يبذله شعبنا بكل سخاء؟

إن ما آلت اليه هذه القضية لا يطمئن ولا يسر. فنحن نواجه عدوانا وتآمرا استعماريا صهيونيا على وجود امتنا نستطيع أن نقول بكل بساطه، أنه فريد في التاريخ البشري، لم يعرف له مثيل في ظلمه وإجحافه. لم يعرف في التاريخ، لا في القديم ولا في الحديث، ظلم كالذي يقع على الأمة العربية والذي يتلخص في قضية فلسطين ، إذ يجلى شعب من أرضه ويشرد، لا بل يقتل بأفظع أنواع الإجرام والتقتيل، ثم يصور ذلك للعالم اجمع على عكس حقيقته، بان الصهيونية هي صاحبة الحق وان العرب ينكرون عليها هذا الحق ويعتدون عليها.

فهل هنالك ظلم أفدح من هذا الظلم، وهل هنالك تناقض أفظع من هذا التناقض، أن تعكس وتقلب الحقائق في عصر العلم وفي عصر الحضارة والإنسانية، وان يكون نصيب الأمة العربية في العالم المتحضر، هذا الفهم المعكوس لقضيتها الذي يغطي جرائم الاستعمار وجرائم الصهيونية والذي يحجب عن الكثيرين، الاستغلال الذي تقوم به الشركات الاستعمارية، والجيوش الاستعمارية، لنهب ثروات الأرض العربية والشعب العربي لإبقاء شعبنا في حالة الضعف والمرض، في حالة الجهل والتخلف لمنع وحدتنا وقوتنا، لإبقائنا مجزئين متباعدين ومتناحرين أيضا.

 

القطرية والتعالي

كيف عجزت الثورة العربية في السنين الماضية عن أن تعطي للعالم صورة صادقة عن قضيتنا، صورة مطابقة للواقع، تنادي بحقنا المشروع في الحياة الحرة، في الاستقلال، في أن تكون ثروتنا لأبناء شعبنا وان يكون لنا الحق في أن نتحد ونتوحد. لاشك أننا في هذا العصر قد ابتلينا بعدو خطير في وسائله وقدراته وفي تأثيره على الرأي العام العالمي فها هي الأخبار والإذاعات يخضع أكثرها للتأثير الصهيوني. ولا شك أن ابتلاءنا بهذا العدو ليس بالشيء اليسير، ولكننا ابتلينا أيضا في السنوات السابقة بنماذج للحكم ادعت الثورية ولكنها بقيت أسيرة لمرضين رئيسيين، هما مرض القطرية، ومرض التعالي على الشعب، أبقياها في منتصف الطريق الثوري وحولاها الى عقبة في طريق استمرار الثورة وإنضاجها.

بعض هذه الأنظمة بحكم منطلقها القطري لم تكن تأخذ بعين الاعتبار شروط وأوضاع الأمة العربية في جميع أقطارها وفي كامل أجزائها، بل كانت تتكلم في الظاهر لغة الوحدة والقومية العربية وتعني في الباطن أوضاع ومصالح قطر معين. كما ان هذه الأنظمة بحكم تركيبها البيروقراطي كانت في الظاهر تتكلم عن الشعب وعن طبقاته المحرومة، وتعبر في الواقع والباطن عن عقلية ومصلحة الطبقة البيروقراطية التي تنتمي إليها.

وإذن فلم يكن في مقدورها أن تطرح قضية الأمة العربية في هذا العصر في صراعها مع الظلم الاستعماري الصهيوني كأمة تصارع ظروف التخلف والتجزئة وكأمة تمارس حقها في النضال من اجل الوحدة والتقدم ودفع الظلم ومقاومة محاولات التحالف الاستعماري الصهيوني لتعطيل مسيرتها التاريخية. كما انه لم يكن في مقدورها أن تطرح الوجه الإنساني الاشتراكي للثورة العربية في نضالها من اجل تحرير الجماهير العربية من القيود التي تعطل طاقاتها الثورية.

وهذا ما يجب أن يحفزنا إلى أن ننتقل من مستوى نصف الحل ونصف الطريق، الى مستوى الثورة الكاملة والحلول الجذرية، وان نمضي إلى آخر الطريق دون تلكؤ او تردد.

 

أيها الإخوان

ليست هذه النتائج السلبية التي توصلنا إليها هي كلها من صنع الاستعمار والصهيونية، بل هي أيضا من أخطاء بدرت من داخل الأنظمة العربية التقدمية.

ولنقل بصراحة بأنه لو كانت النظرة إلى الشعب والى الأكثرية الكادحة من أبناء الشعب العربي نظرة صادقة ونظرة احترام، نظرة ثقة، بان المعوّل هو على هذه الأكثرية، وبالتالي الواجب يحتم مصارحتها بالحقائق كلها لتتحمل مسؤوليتها القومية والاجتماعية، لو كانت النظرة كذلك لما ظهرت في السنين الماضية تلك النماذج من الأنظمة التي جمعت الى مرض القطرية مرض النظرة المتعالية على الشعب، والتي أظهرت الشعب العربي وكأنه شعب غاز يريد أن يفتح ويدمر، والتي أسكرت الشعب بالغرور والأوهام في الوقت الذي كانت تكبل أيديه وتحبس قدراته، وتمنعه من التحرك والممارسة لمسؤولياته.

 

تصحيح نظرة العالم

إن الحكام لم يكونوا ينظرون إلى مصلحة الشعب والأمة بقدر ما كانوا ينظرون إلى مصلحة أشخاصهم وأنظمتهم وبقائهم في الحكم، بدلا من ان يعدوه للمعركة، فسهلوا بذلك مهمة العدو الصهيوني ومن ورائه الاستعمار، لكي يكسب الجولة بسهولة، ووجدنا أنفسنا شبه وحيدين، غير قادرين على تصحيح نظرة العالم إلينا إلا بعد هزيمتنا. والواقع أن الهزيمة قد أظهرت كذب الدعاية الصهيونية الاستعمارية والتي كانت تدعي بان العرب هم المهددون لسلامة إسرائيل، وان إسرائيل هي الدويلة الصغيرة التي تدافع عن وجودها، فقد عرف العالم بان إسرائيل لم تكن سوى الاستعمار، ولم تكن سوى قلعة للاستعمار، ولم تكن إلا إعدادا متواصلا بقصد التوسع، وبقصد تعطيل النهضة العربية وتعطيل الوحدة العربية.

ولا شك بان ما أحرزناه من عطف وتفهم الدول الاشتراكية والأحزاب الشيوعية في العالم بعد حرب حزيران، قد خطا خطوات جيدة في تصحيح المفاهيم وتصحيح الصورة المأخوذة عن القضية العربية.

ولكن علينا أن نبذل كل الجهود المساعدة على ان تخطو الدول الاشتراكية خطوة حاسمة في طريق هذا الفهم المشترك، وتنتقل من موقف استنكار العدوان إلى موقف استنكار الوجود الصهيوني المتمثل في دولة إسرائيل.

 

أيها الإخوة

لو أن الطبقة الشعبية كانت تقوم بدورها الكامل لوطنها لكانت تمكنت من أن تبني الثورة العربية الحديثة وان تكون في قيادتها، ولما أمكن للاستعمار والصهيونية أن يضللا العالم فترة طويلة من الزمن وان يظهرا الشعب العربي على عكس حقيقته. ترون إذن ما هو الدور الأساس في نهضتنا، وفي ثورتنا الحديثة، للطبقة الشعبية وللطبقة العاملة بصورة خاصة.

 

ان نكون اشتراكيين

أيها الإخوة..

إن هناك فرقا أساسيا بين نظرة النماذج نصف الثورية التي تقول: مادامت الطبقة العاملة والطبقات الكادحة متخلفة فيجب أن تبقى تحت الوصاية وليس من الحكمة أن تعطى من الحقوق اكثر مما تستطيع ممارسته، وبين النظرة الثورية الحقيقية التي تقول: ما دامت هذه الطبقة هي أكثرية الشعب، فيجب ان توفر لها جميع الوسائل لكي تصبح هذه الطبقة قادرة على ممارسة حقوقها وعلى ممارسة حريتها. ولا يمكن أن تصل الطبقة العاملة الى مستوى القدرة والكفاءة المطلوبة لها حتى تبني الثورة العربية، الا اذا مارست حقوقها بحرية، فقد تخطيء، ويجب أن تخطيء حتى تتعلم من الممارسة وحتى تصحح الأخطاء في الممارسة وحتى تدب في حياتها روح جديدة وحرارة جديدة هي حرارة الشعب العامل، فالشعب هو صاحب المصلحة في الاستقلال، وصاحب المصلحة في الحرية وفي السيادة، والوحدة، وصاحب المصلحة في التقدم وفي أن يرتفع مستوى الحياة ومستوى العيش في بلادنا.

لا يمكن أن نكون اشتراكيين، وان ندعي الاشتراكية، وان يبقى دور الطبقة العاملة محددا مراقبا وان ننظر إليها وكأننا لسنا منها وليست منا.

نحن جزء من الطبقة العاملة. فالاشتراكيون الصادقون يعتبرون أنفسهم جزءا من هذه الطبقة. الحكم الاشتراكي هو حكم منحاز الى الطبقة العاملة، ينظر الى إمكانياتها في المستقبل، أكثر مما ينظر الى نواقصها في الحاضر، وينظر إلى ما يمكن أن تعطيه وما يمكن أن تخلقه وتبدعه في حياة الأمة وفي معركة المصير، أكثر مما يمكن أن تقع فيه من أخطاء في الممارسة وفي الجزئيات والتفصيلات.

هذا هو التصحيح الحاسم الجذري الذي يطلب منه أن يطبع حياتنا وعملنا في السنوات العشر المقبلة، لتكون ثروتنا ثورة عميقة وصحيحة وقادرة أن تتكافأ مع وسائل الأعداء، ومع ما للأعداء من وسائل هائلة يضعونها كعوائق في طريق نهضتنا.

هذه القفزة هي ان تتغير النظرة إلى الطبقة العاملة والطبقات الكادحة، بان يُعترف بحقوقها أولا وتطالب بواجباتها ثانيا. والطبقة العاملة تدرك مسؤولياتها التاريخية فهي لا تطالب بمكتسبات من اجل الرفاه ومن اجل الاستمتاع ومن اجل العيش المادي فحسب، بل لأنها بغريزتها وبوعيها الجديد تدرك بأنها هي أساس هذا الوطن، هي أساس هذه الأمة وأنها هي التي ستنزل إلى الشارع، وهي التي ستذهب الى الجبهة في يوم الشدة ويوم الخطر، منها المحاربون منها المقاتلون، وهي في أوقات السلم تبني بعرقها وجهدها هذه الخطوات والمشاريع لتنمية البلاد وتصنيعها والانتقال بها من التخلف إلى الرقي والحضارة.

لا أقول هذا لكي يغتر العمال ويزدادوا تعنتا. كلا، ولا اصدق ان الغرور يعرف طريقا إلى طبقاتنا الشعبية . فالطبقات الشعبية هي الطبقات الحانية على هذا الوطن، المحبة لهذه الأرض، وهي التي تضحي بصمت، تؤمن بالقيم الوطنية والإنسانية، أكثر من إيمانها بلقمة الخبز التي تسعى وراءها، أنها في أعماقها تضحي حتى بهذه اللقمة عندما تجد وطنها مهددا، فهي ليست بحاجة إلى نصح ووعظ.. النصح والوعظ يجب ان يوجها إلى الطبقات التي لا تقدر في أي ظرف نحن، ولا تقدر بأننا مهددون في وجودنا كأمة ولا تقدر بالتالي بان الوقت وقت حرمان وتقشف، وإعداد للمعركة وتهيئة لجو المعركة وان ما يجب أن يوفر للطبقات الشعبية ليس ترف، وليس منحة، وإنما وسيلة لكي تستطيع ان تبني الوطن وتدافع عنه.

 

وعي الطبقة العاملة

الطبقة العاملة بحكم وضعها الاجتماعي، بحكم وعيها الثوري، وبحكم وعيها الاشتراكي، تدرك أكثر من غيرها متطلبات الظرف الجديد، وتعرف بأننا مقبلون على سنين عصيبة قاسية، سنُمتحن فيها في كفاءتنا على البقاء، في كفاءة الأمة العربية، هل تستطيع أن تدافع عن بقائها بالسلاح وبالذكاء، بالقتال وبالبناء، برفض التخلف بكل صوره وأشكاله والدخول دفعة واحدة إلى عالم النور والحضارة، إلى الحياة المنظمة، إلى الحياة المبدعة التي تطلق مواهب الإنسان بدلا من ان تقتل فيه حيويته ونوازع الخير والخلق فيه.

في مشاكلنا الداخلية، وفي علاقاتنا الخارجية، وفي روابطنا القومية تختلف الصورة تماما، بين ان يكون الدور الأساسي للطبقات الكادحة وفي طليعتها الطبقة العاملة وبين أن تكون هذه الطبقات معزولة عن القيادة، معزولة عن المشاركة. الطبقات الكادحة إنسانية بطبيعتها، بغريزتها، بتجربتها اليومية، مؤمنة بالتآخي بين الشعوب.

 

الوحدة المقاتلة

هذه هي الصورة التي يجب ان تعطى عن ثورتنا الى العالم الخارجي، الثورة التي يبنيها العمال والفلاحون في روابطنا القومية، في أعز هدف علينا، في هدف الوحدة العربية، في الهدف الذي ما زال يتعثر عشرات السنين، ننادي به، ونحنّ إلى تحقيقه، ثم يتلاشى كالسراب من امامنا لأن الوحدة العربية لا يبنيها إلا الكادحون. لان الوحدة العربية كانت وهي اليوم أكثر من أي وقت مضى، اكبر خطر على الاستعمار والصهيونية وعلى الرجعية العربية لأنها توفر لامتنا من القوة، من الوسائل، من التكامل الاقتصادي، من الحشد البشري النضالي، ما تتضاءل أمامه قوى الاستعمار والصهيونية وكل قوى الاستغلال والرجعية. ولذلك فهم يقاومون الوحدة العربية.

ولن تتحقق الوحدة العربية إلا إذا كانت وحدة مقاتلة يكون فيها الشعب بأكثريته الساحقة مسلحا يدافع عنها بالسلاح، والا اذا كانت وحدة من اجل تحرير أرضنا المغتصبة. ان الاستعمار والصهيونية لن يتركونا -24 ساعة- متوحدين. إذا ما حققنا بمعجزة من المعجزات وحدة بين قطرين أو أكثر فكل قوى البغي والاستعمار سيتنادون وينزلون بنا حمم الجحيم لمنع هذا الخطر. فالوحدة لن تكون الا وحدة مسلحة، وحدة مهاجمة، وحدة من اجل دخول المعركة.

والطبقة العاملة تدرك وتخلص للقضية الوطنية كل الإخلاص ولا مجال للشك في وعيها وإخلاصها في العمل السياسي، في العمل الاجتماعي، ولكن هل تستطيع فئة واحدة ان تواجه المهام والصعوبات والأخطار في هذه المرحلة الحاسمة في هذه المرحلة العصيبة؟. كلا.

 

لا انفراد ولا استئثار

ان من أمراض الفترة السابقة، السنين التي سبقت حرب حزيران ذلك الاستئثار والغرور، ذلك الضيق والتعصب الذي كان يوهم الأنظمة والأحزاب بأن واحدا منها يستطيع ان يدير الارض كلها ويحكم العالم وان يدبر ويقرر دون مشاركة احد، بل بمخاصمة الجميع، وجاءت الحرب، وجاءت النكسة، لتعطي الدرس البليغ بان العمل الثوري لا يعني الانفراد والاستئثار.

وفي هذه المرحلة بالذات، يجب أن نحقق درس التعاون ودرس الانفتاح على مختلف فئات الوطن، شريطة أن تكون مخلصة في وطنيتها، مخلصة في عدائها للاستعمار والصهيونية وان تكون مؤمنة بالأهداف التقدمية.

ولقد خطونا خطوات في هذا السبيل، خطوات جيدة، محمودة، ولكن لا بد أن نكملها بجرأة، وان يتم التعاون والتلاقي بين فئات هذا الشعب، بين عناصر هذا الوطن، وان يسود التآخي بين العرب والأكراد بصورة خاصة فلقد كانوا إخوة في تاريخ طويل، وليس من صنعهم ولا من صنع الوطن أن يختلفوا. لقد كان الاختلاف مدسوسا، ومصطنعا، مفتعلا من الاستعمار الأجنبي، ويجب ان نتغلب على هذه الافتعالات، أن يتحقق التآخي تحت شعار الوطنية والتقدمية والدفاع ضد الاستعمار والصهيونية.

 

طابع المرحلة المقبلة

ايها الاخوة

أقول بقناعة، بان طابع المرحلة المقبلة والمعيار لصحة سيرنا وسلامة نهجنا هي أن نرى الطبقة العاملة آخذة دورها التاريخي في الثورة العربية. لم يعد جائزا ان ننادي بالاشتراكية وننادي بالقومية وننادي بالتقدمية وان نكون أوصياء على الطبقة الكادحة العاملة، بل ينبغي على الفئات الثورية من المثقفين الذين اخلصوا لأهداف الثورة العربية ولمصلحة الطبقة العاملة والطبقات الكادحة، وتفهموا بوعي دور هذه الطبقة الأساس، أن يضعوا يدهم بيد الطبقة العاملة وان يشركوها إشراكا فعليا في المسؤولية وان تكون المرحلة الجديدة متميزة بهذا النفس الشعبي الطيب الصادق، المنبعث من أعماق أرضنا الطيبة، المنبعث من أعماق الآلام التي عاناها شعبنا طوال قرون، المنبعث من الأمل والتفاؤل الذي يشعر به، لأنه شعب كبير، وشعب حي قوي لا يستسلم لليأس ولا للهزيمة بل يريد الحياة وسيبرهن على جدارته بالحياة.

 

تشرين الثاني1969

(1) حديث في العمال والنقابيين في بغداد.

 

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الخامس