ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الخامس


مشاركة الجماهير دليل ارتقاء الأمة

 

 

 

ايها الرفيقات والرفاق (1)

 

كنت استمعت الى خلاصة عن نشاطاتكم في الزيارة السابقة، وكلها كانت تبعث على التفاؤل والثقة في مسيرة الحزب، وليس ثمة مجال للتوسع في هذه النواحي التفصيلية وانما يحسن بنا بين الحين والآخر ان نخرج من التفاصيل ومن الاختصاصات لنلقي نظرة اجمالية وشاملة على مسيرة الحزب.

 

صحيح ان مسيرة الحزب انما تتكون من هذه التفاصيل، من هذا النشاط اليومي المتراكم في شتى النواحي والاختصاصات ولكن الثورة، الحزب الثوري، لا يصح ان يكون مجرد دوائر تعمل دون ان ترى الغاية الكبرى التي تعمل من اجلها، ودون ان تكون الصورة الكلية ماثلة امامها بين الحين والآخر. لان هذا يعطي دفعاً وحرارة للعمل وتصحيحاً للخطأ. اذ يظهر اذا كان ثمة تناسق بين مختلف النشاطات، كما يظهر اذا كانت وتيرة السير والعمل هي الوتيرة الثورية التي ستختصر الزمن وستحقق الاهداف وتحقق القوة الذاتية التي تستطيع ان تسبق القوة التي يصنعها اعداء الامة العربية واعداء ثورتها في وجه هذه الثورة وتقدمها. اذ لا يكفي ان نتقدم بل يجب ان نتقدم بسرعة معينة تجعل من المستحيل، من المتعذر على الاعداء ان يتمكنوا من ايقافنا، من ارجاعنا الى الوراء.

 

ايها الرفاق

 

لا حاجة الى ان أكرر بان اهم مقياس للنجاح في نظرة حزبنا هو ان نرجع الى الجماهير، الى جماهير شعبنا بين الحين والآخر. نحن نعيش مع هذه الجماهير، ضمنها، في داخلها ونتعاون معها، ولكن بين الحين والآخر علينا ان نوقظ حس النقد والمراقبة فيها لنرى الى اي حد هي راضية؟ الى اي حد متفاعلة قلبا وقالبا مع مسيرة الحزب؟ الى اي حد تقدم وعيها، الى اي حد نمت كفاءاتها بنتيجة الممارسة والمشاركة؟ هل تتلقى الخدمات من الثورة وتشكر، ام انها تشارك في صنع هذه الخدمات وهذا الانتاج وهذا التقدم؟ هل تشعر بان الحزب شيء اعلى منها يعطيها، ام تشعر بانها هي الحزب بانها لا تأخذ من احد، وانما هي تنتج، وهي تعطي للامة؟.

 

دور الحزب، ايها الرفاق، ليس هو على مستوى او صعيد واحد وانما تتعدد الاصعدة ويمكن القول بان هناك الصعيد الاساسي هذا الذي اشرت اليه الان وهو مشاركة الجماهير لان الجماهير هي الاساس هي الاصل هي القوة الحقيقية الثابتة والدائمة، فعندما نطمئن الى ان الجماهير تشارك وتزداد مشاركتها يوما بعد يوم وسنة بعد سنة وبالتالي ان الامة ترتقي.. ترجمة ذلك: عندما تتقدم الجماهير في المشاركة والممارسة معنى ذلك ان الامة العربية ترتقي. وهناك صعيد آخر اساسي

بلا شك ولكنه يأتي بالدرجة الثاية هو الانجاز النوعي عند المتفوقين من ابناء الشعب هذا يطلب له اهتمام خاص. ان تكون هناك ادمغة وعقول ملتزمة بمصير الامة ومصير ثورتها مؤمنة بالامة والثورة عقول متفوقة تعمل وتفكر وتجرب يوميا. من اجل اعطاء الثورة العربية المادة والوسائل لتسابق الزمن لتسابق الحضارة العالمية لتسابق القوى الكبرى ولتتحصن ضد الانتكاس ضد الهزيمة ضد التخلف وهذا طبعا هو اعلى معنى واعلى صيغة للقيادة الثورية.

 

ايها الرفاق

 

وضع امتنا العربية ومبادئ حزبنا التي استمدت من واقع امتنا لكي تعالج هذا الواقع وتحدث فيه الانقلاب العميق، وضع امتنا المجزأ، ومبدأ الوحدة وأهمية الوحدة في حزبنا يعطي لحزبنا الصيغة الثورية الجادة المركزة المكثفة. هناك جدلية، كما تعبر الاصطلاحات الاشتراكية والفلسفية، هناك جدلية في صميم تفكير البعث وفي صميم الواقع العربي، جدلية بين التقدم وبين الوحدة.. كلما ظننا اننا سجلنا تقدما كبيرا ترفع الوحدة صوتها معترضة بان هناك مجالا واسعا جدا في الوطن العربي لم يدخله التقدم ولم يحقق ما حققتموه ولا تنهض الامة الا اذا كان التقدم عاما وشاملا اجزاءها، عندما نحسب اننا حققنا استقلالا خاليا من الشوائب يرتفع صوت الوحدة ليذكرنا بفلسطين وبالكيان الصهيوني المزروع في قلب وطننا وباخطاره الحاضرة والمقبلة فنتذكرحدود استقلالنا وان استقلالنا نسبي، وان امننا نسبي ايضا، واننا لا يجوز ان نطمئن ولا يجوز ان نهدأ لأن المهمة اوسع والدرب اطول.

 

ايها الرفاق

 

لم اكتم فرحتي في كل مرة زرتكم فيها في خلال سنوات الثورة. من اول مرة الى هذه المرة. لقائي مع الحزب هو بالنسبة لي سعادة وفرح وتفاؤل كبير بالمستقبل وانا لا أبني فرحي وتفاؤلي على الوهم وعندما زرتكم اول مرة في عام 1969 يمكن ان تراجعوا بعض هذه الاحاديث التي نشرت لتروا بانني كنت عارفا واثقا بان الحزب قد بدأ يمشي على الطريق الصحيح لان اساسه اصبح راسخا ومتينا وانه لا خوف عليه بعد اليوم وان كان سيواجه صعوبات ومشاكل قد تكون احيانا في منتهى الخطورة. بنيت قناعتي هذه على معرفة سابقة بحزبنا في العراق ومعرفة بالاشخاص وبنيته على معرفة بالآلام التي تحملها هذا الحزب في هذا القطر. على تلك التجربة العصيبة النادرة التي مر بها الحزب بعد 18 تشرين الثاني 1963 الى 17 تموز 1968 هذه التجربة لا تذهب سدى في حزب اصيل في حزب مناضلين جديين، هذه التجربة وحدها تشكل ان لم اقل الضمانة الكافية ولكن اكبر ضمانة بين الضمانات... هذه التجربة ضمانة اساسية، الحزب الذي يجتاز هذه التجربة بنجاح بصمود بعزم متجدد يمكن  ان نتوقع له كل النجاحات ان نتوقع له الصمود والاستمرار والنجاح المستمر.

 

اذن بعد تجارب عديدة في سورية وغيرها وفي العراق اخيرا وصل الحزب في هذا القطر الى حد من النضج الثوري من امتلاك الصفات النضالية الاساسية مستفيدا من تجربته في القطر ومن تجارب الحزب في الاقطار الأخرى حتى بلغ تلك الدرجة تلك الحالة التي توحي بانه بعد اليوم لن يكون معرضا لاية هزة لن يكون تحت رحمة القدر هذا حزب مكتوب له ان يستمر. تأصل في تربة الوطن دخل الى قلب الشعب، امتلك نفسه ووعيه وارادته وانضباطه وعرف اين طريقه.

 

هذه هي المزايا وهي الشروط الأساسية التي بلغها حزبنا في العرا ق والتي هي خير وبركة للحزب وللامة العربية.

 

لقد قلت امس في لقاء في فرع الحزب في كركوك باني مستبشر بان ارى مسيرة الحزب لا تزال فيها حرارة البدايات وان الثورة لم تتعب ولم تترهل. بالفعل اشعردوما واغتبط بهذا الشعور وان كنت اشعر ان من  واجبي ان احذر - اني اقول لكم سعادتي بما اشاهده وبما تحققونه ولكن من واجبي ان احذر - من التعب ومن الترهل ومن القنوع والاكتفاء بحد معين. دون هذه المحاسبة للنفس ودون ان نرجع الى جدلية الوحدة ان ننظر الى باقي الوطن العربي وان ما نحققه هنا ليس الا جزءا يسيرا وان واجبنا اكبر وحتى ضمن القطر يفترض فينا ان نحاسب النفس بصرامة وان نعتبر ان المطلوب اكثر واكثر مما نحققه - امراض الثورات معروفة ولن ازيدكم علما بذلك وانتم تقرأون الكثير وتمارسون وتعرفون بالتجربة والممارسة ولكن يجدر بنا دوما ان نبقي هذه الشعلة في داخلنا ان نحافظ على القلق الداخلي الذي لايرضى بالقليل، الذي لايفتر. هذه هي الثورية الصحيحة بعد الاطمئنان الى الخطوط العريضة الى الاساس الى صواب الطريق وهذا حصل.. ونحن مطمئنون منذ بداية هذه الثورة الى ان الحزب على الطريق الصحيح وانه يمتلك تجربة غنية وانه خرج منها بالنضج الذي يؤهله للانجازات الكبيرة. بعد هذا الاطمئنان بعد الثقة بالنفس لانها هي الشرط الاساسي - مطلوب القلق والتساؤل والمحاسبة عندها لا يكون القلق مدمرا طالما انطلقنا من الثقة بالنفس ومن الاطمئنان الى اننا على الطريق الصحيح، القلق هذا يكون من اجل منع الانحراف تحاشي الراحة والاسترخاء، منع الشطط.

 

الواقع بانني لا اريد ان اقول اكثر مما قلت من تذكير بملاحظات ومقاييس نشأ عليها حزبنا منذ البداية، هي في صلب تفكيره وفي صلب تجربته ولعل لها نصيبا كبيرا في ضمان استمرار هذا الحزب لأنه لا يهدأ من محاسبة نفسه وانه لا يقنع بحد وانه يتطلع الى الاهداف الأخيرة الى الاهداف الكبرى الى الوحدة العربية والى الحضارة العربية. الوحدة في المكان الاول هذا شيء اساسي وهي الثورة الحقيقية، والحضارة العربية هي المحتوى لهذه الوحدة اي التقدم الذي نصنعه التي تصنعه

اجيالنا هذا الذي سيخلق حضارة جديدة لامتنا.

 

27 تشرين الاول 1974

 

(1)   حديث مع قيادة فرع بغداد

 

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الخامس