ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الخامس


تميز البعث بشموليته القومية وأخلاقيته

 

 

 

 

أيها الرفيقات والرفاق (1)

 

إنها لمناسبة عزيزة علي أن أتحدث إليكم عبر هذه الرسالة عن الزيارة التي قمت بها مؤخراً الى قطرنا العراقي الحبيب، وعن نتائجها المرجوة وحول ضرورة تماسك حزبنا وتمتين وحدته في هذه المرحلة بالذات لتعزيز تجربة الحزب في العراق، ولتمكينه من تطوير هذه التجربة التي تدعو الى الإعتزاز والأمل صعوداً الى الإنطلاق لأداء واجب الحزب وتحمل مسؤولياته التاريخية على الصعيد القومي.

 

أريدكم أيها الرفاق أن تعلموا انني كنت دوماً أكن عاطفة الحب والإعجاب لحزبنا في العراق واعقد عليه أكبر الآمال واني لم ابتعد في وجداني وعقلي يوماً واحداً عنه.

 

وفي السنوات الأخيرة كنت أعبّر باستمرار لكل الرفاق الذين كانوا يزورونني عن تقديري الخاص لكفاءة قيادة الحزب في العراق والمواقف التاريخية المشهودة التي وقفتها هذه القيادة سواء في معركة النفط والصمود في وجه الشركات الإحتكارية الامبريالية وبالتالي الإقدام على وضع الشعار الذي رفعه الحزب (نفط العرب للعرب)  موضع التنفيذ أو في المبادرة السريعة الى المشاركة الهامة في حرب تشرين التي أنقذت شرف الأمة العربية وأكدت دور حزبنا وقطرنا العراقي في تحمل المسؤولية التاريخية تجاه معركة المصير، او في تحقيق الحكم الذاتي للاكراد الذي جلا الوجه الإنساني للقومية العربية كما آمن بها البعث. او في تحقيق الجبهة الوطنية القومية التقدمية والإنجازات الهامة الأخرى التي وضعت الحزب على طريق تحقيق اهدافه الأساسية السامية.

 

ولقد شكلت هذه الإنجازات والمواقف تحدياً للامبريالية والصهيونية والرجعية العميلة وخطراً على مصالحها مما جعل الحكم الثوري في العراق هدفاً لتآمر جميع هذه القوى. ومن هنا كان الواجب القومي والحزبي يدعو الى إعطاء الدعم الكامل لرفاقنا ليزدادوا قدرة على الصمود في وجه مؤامرات الاستعمار والصهيونية والدول والحركات التي ترتبط بهما وخاصة الاطماع الايرانية في الخليج، وذلك التمرد المشبوه الذي افتعله البرزاني في شمال العراق لتهديد وحدة التراب العراقي،  واشغال حكم العراق وجيشه عن مهماته الاساسية في ظروف مصيرية تتعرض فيها الامة العربية لأدهى مؤامرة استعمارية صهيونية عرفتها في هذا القرن. وهذا الدعم لرفاقنا في تصديهم لفتنة البرزاني يشكل في الوقت نفسه تأييداً لمصالح الشعب الكردي الشقيق الذي تفرض عليه روابط الاخوة التاريخية والمصلحة المشتركة وطبيعة نضاله الوطني ان يبقى منسجماً مع الثورة العربية وان يقاوم محاولات استخدامه كأداة في يد الاستعمار والصهونية لضرب حركة التحرر العربي في المنطقة العربية.

 

وكنت على يقين من ان اللقاء المباشر بيني وبين قيادة الحزب في العراق سوف يضع حداً نهائياً وبصورة حاسمة لكل التباس أو سوء تفاهم ولكل استغلال حصل او يمكن ان يحصل في خارج القطر وداخله لاحتمالات او تفسيرات بوجود خلاف بين قيادات الحزب. فتنجلي في هذه الظروف المصيرية صورة حزبنا، المصقولة بالتجارب، المضاءة بنور العقل، الممهورة بالتصميم التاريخي، على اقوى واروع شكل.

 

لقد كانت سعادتي بلقاء الرفاق في بغداد غامرة عظيمة. كما كنت مرتاحاً أشد الإرتياح لما أكدته هذه الزيارة من انطلاق الحزب لتحقيق الطموح البعثي الكبير.

 

لقد عززت هذه الزيارة يقيني بان الحزب في العراق يبني تجربة جدية فذة أجرت حتى الآن تغييرات هامة في المجتمع العراقي، وادخلت عليه تحسينات نوعية بارزة، الأمر الذي يبشر ويؤكد بان تجربة الحزب في العراق سوف تحقق في المستقبل ما هو أهم وأعمق على مختلف الاصعدة. وبالطبع فان هذا المستوى من الانجاز لا يكون ممكنا لولا ان الحزب بكامل قياداته وقواعده واجهزته هو الذي يبني هذ التجربة بتعاون وتفاعل مستمرين ومتناميين مع الجماهير. كذلك فان هذه التجربة الضاربة الجذور في الارض العراقية ليست قطرية منغلقة وانما هي تبنى وتتكامل ضمن الافق القومي.

 

وهكذا فان اصالة حزبنا في العراق تتجلى في تعلقه العميق بأهم صفتين تميزان حزب البعث منذ نشوئه الا وهما: شموليته القومية، التي تقيم تفاعلا خلاقا بين عمله الاقليمي وآفاقه الوحدوية والتي تعبّر عن نفسها بوجه خاص في فهم مركزية القضية الفلسطينية في الثورة العربية والنضال الدائب من اجل استمرار العمل لتحرير فلسطين. واخلاقيته التي تميزه عن كثير من ثورات هذا العصر، فتشده دوماً الى الصدق والعمق وقول الحق، وترده باستمرار الى الانسان، مقياس الثورة وغايتها، والى حرية الانسان وكرامته، وتقيم توازناً حياً وحواراً خصباً بين الحرية والتنظيم، بين الفرد والمجموع، بين الجماهير والسلطة والثورية.

 

أيها الرفاق

 

ان مجمل ما لمسته من النضج المتمثل في استيعاب غنى التجربة القومية الطويلة ودروس هذ التجربة بمختلف وجوهها، وما تحقق من بناء ثوري وتفاعل قوي مع الجماهير، وما تكشف لي من وحدة فكرية ونضالية عميقة تربط بين مناضلي الحزب ومنظماته وفروعه المختلفة. ان هذا كله يؤكد ان الحزب بات مؤهلا للانطلاق ولتحمل مسؤولياته القومية الكبرى ليحقق الطموح القومي بما ينسجم ويتكافأ مع خطورة المرحلة ومع الفرصة الثورية التاريخية المتاحة. ان تصميمنا التاريخي في هذه الظروف القومية المصيرية على بدء انطلاقة جديدة للاضطلاع بمسؤوليات الثورة العربية في حيوية متجددة وايمان راسخ بالنصر القريب يفرض على جميع الرفاق مضاعفة الجهود في تبني تجربة حزبنا في العراق واسنادها ورفدها والتفاعل معها والمشاركة فى تعزيزها واغنائها، بكل الوسائل والامكانيات علاوة عى مضاعفة الجهود النضالية في الاقطار والفروع الاخرى. وهذا ما يؤدي الى تفاعلات إيجابية خلاقة للحزب القومي بكامله تضعه في حالة نفسية وفكرية سوية، مفعمة بالأمل والثقة، يفسح فيها المجال لتفاعل خصب وانفتاح صميمي ما بين القيادات والقواعد، ما بين الحزب في القطر والمنظمات القومية. وهذه الوحدة الداخلية الحقيقية تتيح للحزب ان يركز كل جهوده للانطلاق كالجسم الواحد سواء في معارك البناء وتحقيق البرامج والمشاريع او في معارك المواجهة مع اعداء الامة ودفع الاخطار عن البلاد.

 

أيها الرفاق

 

إن لحزبنا عمقاً روحياً، اخلاقياً وانسانياً، بقي في اكثر الأحيان كامناً لا يظهر، دفيناً لا يستثمر، وان كان يشكل في الحقيقة اساساً لأصالة هذا الحزب ومناعته. انه العمق المتصل بتراث أمتنا، والمتجاوب مع حاجات نهضتنا الحديثة، والذي يعطي لمسيرتنا النضالية الطويلة الشاقة سمات الحركة التاريخية. وقد تجلت هذه السمات في الفترة الاخيرة في هذه المحبة الرائعة التي شملت الحزب كله. ولقد كان حبنا لامتنا هو دافعنا الاول الى العمل والنضال، ويبقى الحب ملهمنا الأخير. وسوف تبقى المحبة في حزبنا قيمة ثورية عليا، لأنها تتويج للمقاييس الثورية لا نفي لها، ولأنها مشبعة بالوعي والارادة والرؤية الواضحة.

 

أيها الرفاق

 

لقد اخترت لتوجيه رسالتي اليكم مناسبة الذكرى السادسة لثورة 17 تموز المجيدة تدليلاً على تعلقنا جميعا بحزبنا المناضل في العراق وعلى اعتزازنا بثورته وحرصنا على استمرارها ونجاحها، ولكي ابعث بهذه المناسبة الى جميع الرفاق في جميع منظمات الحزب وبخاصة الى قيادة الحزب وقواعده وجماهيره في القطر العراقي بتهنئتي القلبية راجياً لثورة الحزب المجيدة المزيد من التقدم والصمود والنجاح في وقت تتطلع الأمة العربية كلها الى حزب البعث العربي الاشتراكي وتعقد

عليه الآمال.

والسلام عليكم..

 

17 تموز 1974

(1) رسالة الأمين العام لحزب البعث العربي الإشتراكي في الذكرى السادسة لثورة 17 تموز.

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الخامس