ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الخامس


القدرة العربية المتنامية على مجابهة الأعداء

 

 

ايها الرفاق (1)

 

ان سعادتي بلقائكم ولقاء الحزب في هذا القطر سعادة عميقة، وهي مزدوجة بمعنى ان سببها اولا ان ألمس هذا التقدم الجدي الذي حققه الحزب وثورته في العراق. تقدم يبعث على الأمل والتفاؤل.. تقدم هو للقضية الكبرى كلها، هوللامة العربية كلها.

 

في أقل الإحتمالات ايها الرفاق عندما يكون قطر بوزن العراق ناهضا متقدما مطرد النمو والتقدم على كل المستويات فذلك كسب للامة العربية، فكيف اذا كان هذا التقدم موجها من قبل حزب البعث العربي الاشتراكي المؤمن بوحدة القضية ووحدة الامة ووحدة الثورة.

 

والسبب الثاني لسعادتي بلقائكم ولقاء الحزب في العراق هو أن هذا اللقاء جاء في ظرف مصيري، في ظرف له وجه قاتم هو وجه التآمر الاستعماري الصهيوني الرجعي، وجه الاخطار التي لا يجوز ان نستخف بها ولكن له وجها آخرمشرقا هو ان امتنا في هذه الآونة وبعد الحرب القصيرة التي خاضتها في تشرين والتي تآمرت قوى الاستعمار والصهيونية والرجعية على خنقها قبل ان تأخذ مداها، أقول ان امتنا خرجت منها أشد ثقة بنفسها من اي وقت مضى، فلئن كانت الأخطاركبيرة فان القوة العربية تتزايد وتتنامى بعمق من الداخل، من الاعماق بشكل لايستطيع الاستعمار مهما أتقن حيله وأساليبه ان يؤخر هذا النمو. اذ لوكان للاستعمار مثل هذه القدرة لوجب ان يظفر بأمتنا عندما نزلت بها تلك الهزيمة غير العادية في حزيران 1967 وما تلاها من سنوات اليأس والتردي. كانت الظروف ملائمة جدا لقوى الاعداء ولمخططات الاعداء لكي تجهز على الامة العربية لو انها أمة يمكن ان تُغلب. ولو انها لا تستند الى معين لاينضب من القوة العميقة تستمدها من حاضرها ومن ماضيها، من حاضرها المليء بالآلام والعبر، ومن ماضيها المليء بالشواهد والادلة على طاقاتها الخارقة، على قدراتها، على صمودها. فاذا كانت هزيمة حزيران لم تقتلنا فهل يستطيع الاعداء ان ينالوا منا وقد كدنا نحقق انتصارا كاملا لولا تخاذل القيادات، بعض القيادات التي تعرفونها، ولولا ارتباطاتها المشبوهة ولولا عجزها عن فهم وتقدير امكانيات الجماهير العربية التي لاتنضب.

 

فاذا اردنا ان نرسم صورة للمستقبل، للعمل في المستقبل فلا بد ان نضع هذه الحقيقة في رأس خطتنا وهي أنه لم يعد من مبرر لليأس، لم يعد من مبرر للهروب،لم نيأس في أحلك الظروف فجدير بنا عندما برهنت الجماهير العربية على اصالتها وعلى شجاعتها وعلى قدرتها اللامتناهية في البذل والتضحية، جدير بنا ان نعمل بنفس طويل وبأمل كبير وان نجمع بين الرصانة والحماسة، بين النضج وبين حرارة الثورة والنضال. لم يعد يليق بالمناضلين ان يتصرفوا تصرف النزق والغضب، تصرف اليأس. ان القوة العربية الجديدة التي كشفت عنها الحرب الأخيرة ليست قوة مادية فحسب، هي قوة أخلاقية، هي بطولة وهي استيعاب لقدر الامة، بمعنى وجودها منذ الماضي البعيد والى المستقبل البعيد. هي تجربة اخلاقية وهي ايضا كفاءة علمية ونضج علمي ما كان يمكن ان تتحقق تلك النتائج لولا ذلك المستوى الجديد الذي بلغته الجماهير العربية والامة العربية عامة من النضج العقلي ومن الكفاءة العلمية التي وصلت اليها بسرعة غير عادية تيجة الوطأة الثقيلة لهزيمة حزيران على النفس العربية. لقد كانت حافزا ومحرضا نقلت النفوس والارادات من مستوى الى مستوى آخر، فكانت تلك الثمرة الطيبة.

 

ايها الرفاق

 

ان واقع التجزئة ليس بالواقع السهل وليس بالواقع السطحي، وما اظن ان الحزب استخف بهذا الواقع يوما من الايام فاذا كنا نقول سوريا والعراق ومصر فلأن هذه الكيانات تمثل واقعا جديا لابد ان ندخله في حسابنا، في التخطيط لكل نضال قومي. وان فهمنا لواقع التجزئة ولواقع الكيانات القطرية هو الذي يساعدنا على تخطيها في المستقبل، هو الذي يسهل عملية الوحدة العربية في المستقبل وليس تجاهل هذا الواقع هو الذي يسهل الوحدة العربية، فاذن هناك واقع، هناك شيء إسمه سوريا، وقد كان لسوريا دور رئيسي في النهضة العربية الحديثة، في الحركة القومية منذ بداية القرن. وليس نشوء حزب البعث العربي الاشتراكي في سوريا من قبيل الصدف فكيف لا يركز الأعداء كل اسلحهم التآمرية على هذا القطر الذي كان مصدر اشعاع للوعي القومي، وقد ازدادت اهميته بقيام الدولة الغاصبة الدخيلة.. اسرائيل، وقد بلغت أهمية سوريا الذروة عندما قامت الوحدة بينها وبين مصرعام 1958، وانتم ابناء القطر السوري تعرفون بان سوريا كان لها الدور الاكبر في تحقيق تلك الوحدة بقيادة الحزب بلا شك، ولكن جماهير سوريا المشبعة بفكرة الوحدة وبحب العروبة وبآمال الوحدة هي التي ظلت تناضل وتضغط وتملاء الجو العربي بالنداءات والشعارات والمعارك النضالية حتى مهدت وخلقت عوامل الجذب لمصر وللقيادة المصرية في ذلك الحين لكي تقدم على خطوة كانت تعتبر اقرب الى المستحيل، وتعرفون ماذا كانت تعني هذه الوحدة بين سوريا ومصر المحيطتين باسرائيل من الشمال والجنوب، مصر بوزنها البشري الحضاري الكبير وسوريا بوزنها المعنوي الكبير جدا في تمثيلها لأعلى مستوى من الوعي القومي الثوري، قد يكون الاستعمار والصهيونية قد فوجئا بقيام تلك الوحدة التي تمت فعلا في ايام، في مباحثات لم تتطلب اكثر من ايام وحسب عقلية الاستعمار وعقلية حتى الدول الصديقة ولكن التي يصعب عليها فهم النفسية العربية والظروف العربية، استطيع ان اقول ان الوحدة كانت مفاجأة للعدو والصديق على حد سواء. ولكن العدو بدا منذ اليوم الثاني للوحدة لتخريبها وللانقضاض عليها، وطبعا لايستطيع الاعداء ان يخربوا الا اذا وجدوا ثغرات وأخطاء داخلية ينفذون من خلالها، ولما نفذت جريمة الانفصال انكمشت مصر ولكن لم ينلها شيء كبير من هذا التخريب، فشعبها كما تعرفون متجانس وبعد الصدمة الاولى استطاعت القيادة في مصر ان تسترد الزمام، ولكن سوريا كانت بلا قيادة، وكانت في وضع داخلي مجزأ مفرق واستطاع الاستعمار واستطاعت الصهيونية ان يمعنا في التخريب من الداخل، ومنذ ذلك الحين فقدت سوريا الشيء الكثير من سيطرتها على نفسها وعلى مقدراتها وانكفأت الى مواقع الدفاع والانشغال بمشاكلها الداخلية بدلا من ان تكون في مواقع الهجوم، في مواقع الأشعاع على غيرها من الاقطار، بدلا من ان تتابع دورها القيادي الذي كان لها. في تلك الظروف حدثت الانقلابات التي نتج عنها اشتراك حزبنا في الحكم دون ان تكون له السيطرة الفعلية على الحكم فقد كان اسمه يُستغل، ورصيده يُستهلك اما القيادة فكانت لغيره وهكذا بقي الحزب يقاوم مقاومة يائسة حتى كانت الغلبة للمتآمرين وللمشبوهين، ولكننا اعتبرنا تلك النكسة ذات وجه ايجابي ثمين لانها انقذت الحزب من الالتباس، صحيح ان الحزب اصبح بعد 23 شباط مطاردا مقهورا كثير من مناضليه في السجون يتحملون ما لا يحتمل ولكن ميزة واحدة كان بامكانها ان تعادل كل تلك العذابات والسلبيات هي ان تبرىء صفحة الحزب امام الجماهير العربية في سوريا وفي سائر الاقطار وان تجلو وجه الحقيقة، لان الحكم في تلك السنوات لم يكن حكم حزب البعث، كان حزب البعث مشاركا بشكل من الاشكال كان يحاول ويكابر ويقاوم الفساد ويقاوم عملية التخريب والتمزيق والتزييف الواسعة للحزب، عملية لم يكن لها مثيل في سابق تاريخ الاحزاب. وقد كانت هناك التباسات كثيرة مسيئة لسمعة الحزب ولرصيده قضت على الشيء الكثير من الثقة التي كان يتمتع بها لدى الجماهير ولما حدثت النكسة ركز الحزب على الناحية الايجاية هذه ان يعيد صلته الايجاية بالجماهير، ان يبرهن للجماهير ان ذلك الحكم لم يكن حكمه وان هذا التلطيخ لوجه الحزب وسمعته لم يكن من عمله وانما كان مدسوسا بغية تخريب الحركة الوحدوية التي تخيف الاستعمار والصهيونية اكثر من أية حركة سياسية واكثر من اي زعيم او قائد مهما بلغ من النفوذ لان الزعيم يمكن ان يقضى عليه بشكل من الاشكال ولكن حزب الثورة العربية هذا الذي كان يخيف الاعداء لذلك كان تركيز الاعداء على سوريا من وزن رهيب لكي يقضوا على الحزب قضاء نهائيا بتسويد صفحته، بقلب مفاهيمه، بنزع ثقة الجماهير منه الى الابد وهكذا يكونون قد بلغوا غايتين في آن واحد ان يقضوا على الحزب وعلى القطر الذي له دور قيادي في المعركة القومية.

 

ايها الرفاق

 

لا أريد ان انسى نفسي، واخشى ان استرسل واطيل، ولنا لقاءات مقبلة نستطيع ان نتابع فيها هذه النظرة وحسبي ان اقول: بان فكرة الحزب هي من معدن هذه الامة العربية لا يسهل القضاء عليها، ليس من السهل ان تُجتث وان تُقتل، فاذا استطاعوا ان يقمعوها في قطر فانها تظهر في آخر وهكذا يأخذ نضال رفاقنا في العراق هذا المعنى لانه هو الثأر وهو المتابعة والاكمال لرسالة الحزب، الى ان يأتي اليوم الذي نستغني فيه عن التسميات القطرية ونرفع اسم الوحدة بين هذين القطرين اللذين يشكلان وحدة طبيعية بكل معنى الكلمة.

 

والسلام عليكم

23 حزيران 1974

 

(1)حديث مع الرفاق السورين في بغداد 23/6/1974. 

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الخامس