ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الخامس


العراق والبعث

 

 

ايها الرفاق (1)

 

من الصعب جدا عندما أوجد بينكم، اي بين حزبنا المناضل، من الصعب جدا ان لا أكون عاطفيا، لاني احببت هذا الحزب منذ خطواته الاولى. قدرت فيه مزايا نضالية، واخلاقية قلما وجدتها في فروع اخرى او اقطار اخرى وكنت وانا الذي بدأت النضال في القطر السوري، تربطني برفاقي في سوريا كل روابط النضال، اعتبر بأن حزبي هو في العراق، ان الحزب في الدرجة الأولى هو في العراق.

 

لذلك تستطيعون ان تقدروا فرحتي وانا قد بلغت هذه السن عندما أرى وألمس، هذا التقدم الذي يحققه الحزب في العراق.  إنني اشعركلما زرتكم -وحتى عندما اكون بعيدا شعوري واحد ولو انه يصبح اقوى عندما التقي بكم لقاء مباشرا- أشعر بتعويض عن كل الأتعاب والآلام التي مر بها المناضلون في هذا الحزب. فالمشقة والألم قانون الحياة وقانون النضال والثمن لكل شيء جدير بالاحترام. لا بد من دفع الثمن لكل شيء عظيم في هذه الحياة.

 

لماذا وضعت كل هذه الآمال وهذه الثقة وهذه العاطفة المحبة في حزبنا في العراق؟

 

قد يكون هناك عامل بسيط لا أريد ان  أبالغ فيه، هو ان التوجه القومي يدفع بشكل لا شعوري الى التطلع الى ابعد من القطر الذي يعمل فيه المناضل.. هذا عامل طبيعي وبسيط. عامل آخر، عندما أحلل أحيانا بيني وبين نفسي، هناك حب للعراق نشأنا عليه في سوريا من قبل نشوء الحزب جعلنا نتطلع الى العراق. كان الاستعمار الفرنسي ثقيل الوطأة على سوريا وكان الوضع في العراق أخف لاعتبارات كثيرة، وربما كنا نبالغ في تصور هذا الفارق لكي نقوي الأمل في انفسنا بان هناك قطرا عربيا أحسن حالا من سوريا أكثر تحررا ويمكن ان يكون هو المنقذ.

 

فاذا عمدنا الى اسلوب التحليل النفسي لكي ابحث في تربيتي ونشأتي عن اسباب هذا التعلق، اجد هذا العامل ايضا بانه ذو أهمية. كانت سوريا، كان الشباب المؤمن بعروبته وامته والمستنكر لوجود الأجنبي واحتلاله والمتطلع الى الاستقلال والى الوحدة العربية، كان ينظر الى العراق.

 

ولكن هناك عوامل اكثر وضوحا نشأت بعد نشوء فرع الحزب في العراق وبعد أن بدأت تتوثق الصلات بيني وبين شباب الحزب ومناضليه فالجدية التي لمستها، التي تجسدت في البعثيين العراقيين لم أجد لها مثيلا في فروع الحزب الأخرى. منذ البداية وجدت مستوى من الجدية والرجولة كنت دوما أحلم به وأعتبر أنه هو الشرط لكي يحقق الحزب أهدافه... أصبحت أجد أن شخصية الإنسان العربي في العراق لها مميزات. والحزب الذي نشأ على هذه الارض ومن هذا الشعب اكتسب هذه المميزات، ولا تستغربوا سماع هذه الاشياء مني. قومية العقيدة البعثية لا تعني بانه ليس للاقطار العربية مميزات مختلفة لأن هناك بعض صفات يختص بها قطر، ينما هناك صفات أخرى يختص بها قطر اخر وهكذا. على المدى البعيد والمستقبل البعيد نطمح الى تكوين أمة متجانسة ولكن التجانس الايجابي الذي يحافظ على المزايا القطرية في كل قطر مع العلم بان هذا المطمح أقرب الى الشيء النظري.. الى المطلب النظري، إذ من طبيعة الاشياء ان تبقى بعض الفوارق وبعض الخصائص، وهذا يغني الحياة القومية ولا يضيرها ولا يؤذيها عندما تتوحد الأمة في دولة واحدة. من عوامل إثراء نفسية الأمة وعبقريتها ان تكون الوحدة ضمن التنوع.

 

هذه الصفات اذكرها ليس فقط لأني متأثر عاطفيا بلقائكم، بل عن قناعة علمية بان في القطر العراقي مزايا تميز شخصية الانسان العربي، مزايا، اذا أحسن توجيهها فانها تستطيع ان تعمل الاعمال الكبيرة والاعمال الخارقة احيانا. وفي كل الاحوال كما قلت هي تمثل هذا المستوى من الجدية،  هذا المستوى الذي هو شرط أساس لكي يكون حزب البعث العربي الاشتراكي.. حزبا تاريخا.. اي ان يحقق انجازات كبيرة ويجري تحولات عميقة في حياة الامة العربية والمجتمع العربي، لا ان يبقى في عالم التمنيات والافكار المجردة.

 

ايها الرفاق

 

طبعا سررت كثيرا لهذا العرض الذي سمعته عن اعمالكم وعن تطور نضالكم وعن التقدم المطرد الذي تسجلونه. لم  افاجأ بهذه المعلومات فانا اعرف بانكم على الطريق الصحيح.. طريق الجد والدأب والعمل بين الجماهير وهذا هو الاساس ان لا تبتعدوا عن الجماهير. وأذكر أنني في عام 1969 عندما زرتكم اول مرة بعد الثورة، او ثاني زيارة ربما، قلت في حديث او في لقاء من لقاءاتي مع الحزبيين بان حزبنا في العراق اصبحت له جذور عميقة في هذه الارض ومع هذا الشعب وليس من قوة تستطيع ان تقتلع هذه الجذور بعد الآن..  

 

وبعد خمس سنوات من هذه الملاحظة أستطيع ان أؤكد هذه الحقيقة واقول بان هذه الجذور قد قويت وترسخت اكثر من ذي قبل والآن تمر بالامة العربية فترة من أصعب ما مر عليها في عشرات السنين الماضية ويجب ان يكون للجماهير العربية التي تتعرض في عدة اقطار، الاقطار القريبة من اسرائيل بصورة خاصة  - وسيشمل ذلك اقطارا اخرى- هذه الردة قد تتوسع رقعتها يجب ان يبقى للجماهيرالعربية مكان يشع منه الأمل تتطلع اليه لتقوى على متابعة النضال، لتقوى على صد الهجمة الشرسة التي تتعرض لها، يجب ان يكون هذا القطر هو الامل وهو قلعة الصمود وان يكون الحزب بتعاونه وتفاعله اليومي مع الجماهير وبتعاونه مع الفئات الوطنية الاخرى في هذا القطر وانفتاحه عليها يجب ان يهيأ العراق لهذا الدور وان يجعل اي احتمال مهما كان ضعيفا لاي تراجع او نكسة شيئاً مستحيلاً، ان يصبح الحزب مساويا للمواطنين العراقيين بكامل عددهم  ان يصبح العشرة ملايين عراقي عشرة ملايين مناضل مستعدين للدفاع بالسلاح وبجرأة النضال وايمان المناضلين عن هذه القلعة الصامدة. الصمود كمرحلة اولى يجب ان يعقبها تقدم لمساعدة المناضلين ولإسناد نضال الجماهير العربية في الاقطار الاخرى.

 

ايها الرفاق

 

قد نواجه اياما وشهورا صعبة فيها آلام كثيرة وتتطلب جهودا وتضحيات ولكنني مؤمن بان هذه الفترة لن تطول كثيرا، لأن هناك حقائق ظهرت في الآونة الأخيرة اي خلال حرب تشرين هي من القوة والوضوح واليقين لدرجة لاينفع فيها اي احتيال واي تزوير كما تحاول بعض الانظمة ان تفعل، فتصور الاستسلام بصورة النصر. الحقائق الجديدة التي ظهرت ليست حقائق وقتية عارضة سطحية وانما هي نتيجة تفاعل عميق في نفس الشعب العربي من اقصى الوطن العربي الى اقصاه كجواب على الهزيمة المصطنعة، الهزيمة التي الحقت به في حرب حزيران، هذا التفاعل، هذه اليقظة في الشخصية العربية لم تكن يقظة بسيطة، لقد عادت تستنجد بكل تاريخها من ايام ظهور العقيدة، من ايام ظهور الاسلام دين العرب، وايام الفتح العربي وايام اشراق الحضارة العربية. كل هذا التفاعل اختمر في النفس العربية في هذه السنوات المعدودة بين حزيران 67 وتشرين 73 وظهرت القوة الجديدة التي تآمروا عليها ليخنقوها في مهدها ولكنها ليست من الاشياء التي يمكن خنقها وانما هي ظاهرة تاريخية.. انها استرداد الأمة لوجودها، لشعورها بوجودها، لشعورها بمعنى وجودها، لرسالتها في الحياة.

 

لذلك تبدو الأخطار المتوقعة في المستقبل القريب تافهة وثانوية ولا يمكن ان تخيف شعبا يعيش دوما في الأفق التاريخي، ويعلم ان حياته ستكون دوما على طريق الصعود الشاق، الصعود البطولي.

 

اني اتمنى لكم كل توفيق واتمنى ان تتكرر لقاءاتنا وان اعوض عن الغياب الذي كان طويلا بيننا ولم أرده وانما ظروف عارضة فرضته، ولم أبتعد عنكم يوما واحدا. كنت معكم.. مع هذا الحزب في كل عملكم ونضالكم وسأبقى معكم انشاء الله، الى آخر لحظة من حياتي.

 

21 حزيران 1974

 

(1) حديث مع اعضاء قيادة فرع بغداد لحزب البعث العربي الإشتراكي في 21/6/1974.

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الخامس