ميشيل عفلق |
في سبيل البعث - الجزء الخامس |
العراق قدر بطولي
يا ابناء امتنا العربية المجيدة يا ابناء شعبنا العراقي العظيم تمر الذكرى الاربعون لتاسيس حزب البعث العربي الاشتراكي والعراق يضيف الى انتصاراته السابقة على امتداد سبع سنوات من الحرب، انتصارا جديدا هو خلاصة سنوات الحرب كله، يرى فيه الشعب العراقي تجسيدا حيا للدرجة العالية من الإقتدار التي استطاع ان يبلغها، والتي ضاعفت ثقته بنفسه اضعافا، وعمقت وعيه بالنقلة النوعية الحضارية التي حققها، ورسخت انتصاره بشكل قاطع حاسم امام نفسه وامام الامة العربية وامام العالم. وانه لتحول تاريخي في حياة العراق والامة العربية والمصير العربي، سوف يتأثر به العالم بنسبة ما للعراق وللأمة العربية من وزن واثر في الحاضر والمستقبل. لقد صمد العراق وانتصر في معارك شرق البصرة الاخيرة في قتال متواصل طوال اكثر من شهرين، وهي تعتبر من اكبر ما عرفه تاريخ الحروب من حيث عنفها وشراستها وضخامة الاعداد البشرية التي زجت فيها وانواع الاسلحة الفتاكة المتطورة التي زود بها العدو من قبل الولايات المتحدة والكيان الصهيوني بقصد حسم الحرب لصالحه. فكان هذا الانتصار العظيم الذي حققه العراق وحطم فيه آلة الحرب الايرانية ودمغها بالعجز النهائي، هو ايضا افشال للمخططات والمؤامرات الصهيونية والامبريالية، وايذان بدء عهد جديد للامة العربية، تسترجع فيه سيطرتها على مقدراتها، بعد ان دفع عنها العراق اخطارا جمة جسيمة، واعطاها القدوة البليغة في الصمود والاقتدار وفتح لها طريق المسقبل الصاعد بفضل تضحياته السخية، وشجاعته النادرة وبطولاته الخارقة. فالعراق اليوم امام ذاته وامام امته العربية وامام العالم والإنسانيه قدر بطولي تجسد في شعب وقائد وجيش.. لقد صان العراق بصموده البطولي الشرف العربي والكرامة العربية وحمى الامن القومي والسيادة القومية. ووصل انتصاره الى اسماع وقلوب العرب في كل مدينة وكل قرية من مدن وقرى الوطن الكبير. فالامة العربية استيقظت على نداء العراق وعلى روعة البطولات والمرؤآت التي جسدها. فكان صموده التاريخي الحد الفاصل بين ظروف العجز والشذوذ و الخيانة، وبين المرحلة الجديدة التي لم تعد تحمل الا الوقوف الواضح الصريح مع الحقيقة القومية الناصعة التي يمثلها العراق. فهي اذن لحظة تاريخية تلخص في آن معا تاريخ نضال الحزب وخلاصة سنوات الحرب، وتطل من خلالهما على المستقبل. وهي وقفة تاريخية لوعي الامة ولضميرها ولمن يقتربون من تمثيل هذا الوعي والتجاوب مع هذا الضمير.. وقفة تاريخية لقول الكلمة المسؤولة في امور وقضايا مصيرية امست في اجواء المرض والهزائم والتردي، موضع شك وانكار، وتلاعب وتآمر. وهي منطلق لتعليل القضايا الاساسية للامة من اجل الوصول الى قرار تاريخي يعبر عن خلاصة الوعي العربي النهضوي في هذا القرن، لكي يبدأ منذ الآن مستقبل عربى مختلف نوعيا عن الاوضاع المتردية التي سادت ربع القرن الاخير، والتي افرزتها الهزائم ومؤامرات اعداء الامة ومخططاتهم وما اصاب عناصر الثورة والنهضة في المجتمع العربي من ضعف وتراجع نتيجة لعدم اكتمال نضج هذه العناصر، وفشلها في توحيد صفوفها. فالمستقبل الذي تتطلع اليه الامة هو الذي يعبر عن جدارتها وجدارة عناصرها الطليعية المخلصة المناضلة، بالاسخلاص السليم والعميق، للدروس التي تضمنتها تجارب سنين النكسات والتردي، وهو المستقبل الذي يعبر بالتالي عن المصالح الحيوية للامة العربية وارادة البقاء والارتقاء والتقدم لدى ابنائها ويشكل بداية جديدة لاستجماع الامة لكامل وعيها وارادتها وسيطرتها على ظروفها..
يا ابناء شعبنا العربي ولقد عبرت الشعوب الاسلامية في اكثرمن مناسبة عن حاجتها الملحة الى ومجود الامة العربية بكامل مقوماتها، بل والى دورها الرائد لكي تقدر على حمل رسالة الاسلام، لانه قدرها الذي لا ينازعها فيه احد وقد جسد العراق في هذه الحرب هذه الافكار وهذه الحقائق، ومهرها باغلى التضحيات وازكى الدماء.. لقد تحمل اعباء الحرب دفاعا عن سيادته وعروبته وقومية الامة وشخصيتها وامنها، وبنفس القدرمن الحماسة وروح الفداء، دافع عن الاسلام وقيمه وتراثه ومقدساته وعن علاقته المصيرية بالعروبة. وجسد ذلك بصورة حية في المعارك اليومية على امتداد سنوات الحرب.. اذ يستلهم المقاتلون العراقيون القيم والنماذج البطولية الخالدة في تاريخهم العربي الاسلامي.. فارتباط العروبة بالاسلام ظل مئات السنين خلال التاريخ، عبارة عن الحياة التي يحياها العرب ويتنفسونها كالهواء، ولايحتاجون الى براهين وادلة عليه، وعلى كونه ارتباطا عضويا حيا ومصيريا، هو ناتج القرون والاجيال، ولكنه قبل كل شيء هو ارادة الهية طبعت الحياة العربية. وهو قد ظل ايضا بالنسبة الى الشعوب الاسلامية غير العربية، بمثابة الحقائق البدهية، اللهم الا اذا استثنينا هذه الشعوبية الظلامية الحاقدة على العروبة والاسلام.. والتي مثل الخميني ونظامه ذروة شرها وفسادها وطغيانها. ان خميني الذي يدعي التصميم على تدمير "اسرائيل "يتزود بالاسلحة منها في عدوانه على العراق. و"اسرئيل" تزود بالسلاح الجيش الذي يدعي بانه سوف يحرر القدس. فكان لابد لمحاولة الخميني التي افتعلت التناقض بين العروبة والاسلام، ان تفشل، وان ينتهي نظامه الى تلك الفضيحة، وان ينكشف معها دور الانظمة العربية المتعاونة مع ايران، والتي تعرف تفصيلات العلاقة التسليحة بين ايران و"اسرائيل" قبل ان تفتضح.. وكان لابد ان ينتصر العراق لانه يواجه العدوان بقوة المبادىء وبروح العروبة والاسلام، ولان حرب العراق هي حرب النهضة العربية والثورة العربية ونضال نصف قرن من تاريخ الحزب، فكل هذا الموروث الثوري التاريخي قد تجمع في حرب العراق: التاريخ العربي، مبادىء الرسالة وتاريخ نشرها ومعاركها.. كلها كانت حاضرة في هذه الحرب. كما كانت حاضرة كل تجارب النضال القومي: معارك النضال ضد الاستعمار، وتجربة عبد الناصر، وثورة الجزائر والنضال الفلسطيني، وحرب تدخلها كل هذه الروافد، وتلخص كل هذه المراحل والتجارب، تستلهمها وتستمد منها.. حرب من هذا النوع مؤهلة لان تكون بداية لمستقبل عربي حضاري انساني، وفيها ركائز لبناء هذا المستقبل. وكان لابد ان توصل الى كشف فضيحة التعاون والمؤامرة الصهيونية الايرانية الاميركية وان تصل من خلالها الى اسماع العالم قاطبة ليس كأخبار صحفية فحسب، وانما كقضية اخلاقية انسانية كبرى، هي قضية الامة العربية في صراعها التحرري وفي نضالها الوحدوي ضد اشرس ما عرف من قوى عاتية، متعددة الأطراف، يجمعها شيء واحد هو التآمر على وحدة الامة العربية ونهضتها، لما يشكله ذلك من خطر على السياسات والكيانات الاستعمارية والعدوانية التي تعمل بمنطق الغزو والاغتصاب والتوسع، واكثر من ذلك الخوف من تجديد الرسالة العربية بقيمها الاخلاقية وآفاقها الانسانية عندما تتمكن الامة العربية من مقدراتها وتوحد اجزاء وطنها.. فالولايات المتحدة تعلن الحياد في حرب الخليج، وتدعو الى انهائها في العلن، ثم يظهر انها ليست حيادية، وانها تعطي السلاح لمن يمارس الارهاب، وتريد للحرب ان تستمر تحقيقا لمصالحها ولمصالح الكيان الصهيوني. فأي عبرة تستخلص غير ضرورة اليقظة امام هول المؤامرة واخطارها والبحث عن التضامن باقوى واعمق معانيه....وعن الوحدة وتفجير الطاقات والغيرة القومية الى اقصاها؟ ممثلو العالم الغربي الاستعماري، هذا العالم الذي افرز الصهيونية، وزرع الكيان الصهيوني الغاصب، وشرد شعب فلسطين، ومازال يعمل منذ اكثر من قرن على قهر الشعب العربي، وتقطيع اوصال وطنه، واقطاره، وزرع الفتن بين فئاته كما هو شأنه في اماكن وقارات اخرى عانت وبعضها ما يزال يعاني من شرور الاستعمار الغربي.. دوائر واسعة من ممثلي هذا العالم الغربي وهذه الحضارة، مازالت تتجاهل ان العراق كان منذ اللحظة الاولى للحرب وحتى الان مدافعا بكل ما تعني الكلمة، وان هذه الحقيقة التي تحاول تلك الدوائر مع الصهيونية طمسها، هي من اهم عوامل صمود العراق وانتصاره على امتداد سبع سنوات في حرب طاحنة انكشف خلالها على الملأ: ان قوى عالمية ومحلية متعددة معادية للامة العربية تحارب فيها الى جانب ايران، لقهر العراق. وسر الصمود هو اقتناع الشعب العراقي بكامله بانه يصد عدوانا باغيا، وانه يدافع عن قيم وطنية وقومية وروحية، تستحق مثل هذا الدفاع البطولي الذي يقوم به بكل ما يتطلب من تضحيات.. والعراق يعرض السلام منذ بداية الحرب، وحتى الآن، لانه لم يدخل الحرب الا اضطرارا، ولانه لايطمع في ارض الاخرين، ولا ينوي تصدير ثورته اليهم. فهو جزء طليعي من الامة العربية التي ما زالت منذ اكثر من قرن وهي في حالة دفاع عن وجودها وعن قوميتها وعن ارضها ووحدة كيانها المجزأ الممزق.
ولئن أخذ على العالم الاسلامي انه لم يلق بكل ثقله
لايقاف هذه الحرب المدمرة، وأخذ على الموقف العربي انه لم
يكن موحدا مع العراق، ولم يكن فاعلا كما كان الواجب يقضي
فليست القوى الاستعمارية والصهيونية ومؤامراتها بغريبة عن هذا
الخلل البادي على الموقف العربي والاسلامي، لان الهيمنة
الغربية وامتداداتها الصهيونية، مسئولة
الى حد كبير
عن هذه
التناقضات، وعن العوائق التي تحول دون الاستجابة الطبيعية
لنداء التضامن والدفاع عن البقاء والمصير. كما ان
ودروس الفضيحة-المؤامرة، بالنسبة للعرب، ينبغي ان توجه نحو هدفين:- اولهما : البحث عن الوحدة والتضامن بدءا بالتضامن الصحي، الواضح الاسس والاهداف، المعروض على رقابة الجماهير الواسعة، والمبرأ من المرض والانحراف.. والهدف العاجل الثاني هو الديمقراطية. فالاخطار والظروف العصيبة تفرض هذا التوجه. فلو توافرت الظروف والشروط لممارسة ديمقراطية حقة في الأقطار العربية، لكان اول تعبير لجماهير الشعب العربي عن ارادتها الحرة ومطلبها الحيوي الأول هو الوحدة العربية، وان يكون للعراق والمقاومة الفلسطينية ومصر الدور الريادي فيها. فارادة الوحدة تعني في ضمير الشعب العربي ارادة الصمود والثقة بقدرة الامة الكامنة في حالة الوحدة او اي صيغة قريبة من الوحدة توفر لهذا الصمود جميع مستلزماته. والديمقراطية في هذه المرحلة العصيبة من حياة الامة، لا يجوز ان تطرح كمجرد امنية او مجرد متنفس للاوضاع الراهنة المتردية، بل يجب ان ننظر اليها في حقيقتها العميقة، وفي انها نضال شعبي له ثمنه الغالي وله افقه واهدافه الاساسية. فلا يمكن ان تشكل الديمقراطية مطلبا شعبيا قادرا على دفع الشعب والإستبسال، والبطولة، واسترخاص التضحيات مهما عظمت، اذا لم يوضع هذا المطلب في سياق الاهداف القومية الكبرى، اهداف النهضة العربية في التحرر والاستقلال والعدالة الاجتماعية والوحدة القومية.
نحن غير مسئولين عن ايران،
وكيف جاء الخميني وكيف استطاع ان يدفع بالكتل والموجات البشرية
بعشرات ومئات الالوف الى الموت بنيران الحرب،
ولكننا
معنيون بحال الانظمة التي تدعي العروبة، كيف
جاءت واستمرت واستطاعت ان تقوم بادوار للتخريب ما
عرف لها مثيل
حتى الان فالذي سمح بقيام واستمرار انظمة تخنق صوت الشعب وتسيء
اليه والى قضاياه
الاساسية، هو غياب الجماهير الشعبية
عن ساحة
العمل الوطني والقومي.. فعندما تغيب الجماهير
ويخنق صوتها،
تصبح كل الؤامرات والانحرافات ممكنة وسهلة، ويستطيع الحاكم ان
يسخر كل ما
يمثله القطر
الذي يحكمه من تاريخ ومن موقع وجوار وثروات.. لغرض
السياسات القطرية والشخصية والحسابات الضيقة التي تضحي بالمصالح
الوطنية والقومية الكبرى
وبمصير الامة في سبيل الاحتفاظ بكرسي الحكم وامتيازاته،
وبواقع
التجزئة
الراهنة. فمصالح
التجزئة هذه
تستطيع
في حالة غياب الجماهير او تغييبها، ان
تعطي قدرا من شرعية واقعية لتلك الانظمة المتواطئة مع العدو،
ومسوغا للتعامل معها،
وامدادها
باسباب القوة لحمايتها من السقوط، او الاطالة في اجلها من اجل
التوازنات الاقليمية
وهذه كلها نتيجة لفوضى التجزئة
-
الفوضى القطرية-
اذ لم يبق
ظل لرأي جماعي للدول العربية او حتى للمنظمات الشعبية، فبعد
هذا الانكشاف للموقف الشعوبي والتآمري لتلك الانظمة، لم يعد
ثمة مجال او حجة للاستمرار في الانخداع بها او في دعمها،
ولم
يعد جائزا ان تبقى حالة الإستنكار الصامت المفروضة
على جماهير
الامة العربية.. فالامل كل الامل اليوم في الجماهير المناضلة
المجاهدة لكي تتقدم لحسم هذه المأساة، واسترداد الكرامة والدور
القومي الذي عطل، والدور
التقدمي الذي
شوه،
والدور التاريخي الذي استلب.
وعندها تسد المنافذ في وجه الامبريالية والصهيونية وكل القوى العدوانية والتوسعية لتسخير قطر اسلامي باغرائه ببعض المكاسب لمعاكسة مسيرة واهداف النهضة العربية.. الامر الذي يؤدي الى تصحيح مسار العمل مع الطلائع الاسلامية التي تستوعب الظروف الاقليمية والدولية وتصل في وعيها الى فهم الضرورة التاريخة، وتجاوز كل عوامل الخلاف والاختلاف، وتنمية الروابط الايجابية، من اجل القيام بدورحضاري انساني يعبر عن تجربة الشعوب الاسلامية والامة العربية، ومعاناتها خلال قرون من التخلف وفقدان السيادة والخضوع للسيطرة الاجنبية، والاستغلال والقهر، وان يكون للامة العربية ولكل شعب من هذه لشعوب الاسلامية مساهمته الخاصة في المجال الانساني وفي الحوار والتعامل الحضاري.
وطبيعي ان يكون المدخل الى مثل هذه العلاقات الصحية مع
الجيران، هو المستقبل العربي الذي قدم العراق في حربه
العادلة المبدئية والطليعية، اكبرضريبة دم، وجهد بشري،
وصمود بطولي، كعناصر اساسية لبنائه وتشييده. فالمفروض ان
تخرج من هذه التضحيات والمعاناة الانسانية النادرة
في
التاريخ، صورة للمجتمع
العربي كله مبرأة ومطهرة من سائر
امراض التخلف والتفكك
والانقسامات والعصبيات المؤذية، والتي لاتليق بأمة لها رسالة
كالامة العربية، وان تتم عملية الصهر
من خلال النضال الموحد،
الصهر الواعي والمتجه نحو مشروع حضاري كبير، كما صهر الاسلام
خلافات المجتمع العربي الجاهلي وانقساماته، عندها شرف العرب
بمهمة نشر الرسالة. فالصهر الوحدوي للخلافات والاختلافات داخل
الاقطار وفيما بينها، هو
اهم هدف للواقع العربي الراهن الا ان الحاحنا على نواحي اليقظة
النفسية والروحية، وتحريك النزوع الحضاري والبطولي والرسالي،
لاينفي عن النهضة العربية ومشروعها المستقبلي، الصفة المكملة، والتي هي طابع المرحلة التاريخية، صفة البناء العقلاني
للنهضة الذي تمتحن فيه الجدارة العربية في القدرة على دخول
العصر، واحتلال المكانة اللائقة فيه..
ومعركة العراق، لها في المنظور التاريخي، هذا
المعنى الكبير، بانها لخصت مراحل تلمس النهضة العربية لطريقها
السوي، وانقذت المصير العربي من محاولات خبيثة ومشبوهة لوضع
الاسلام ضد العروبة، والتذرع بالاسلام للانقضاض على الامة
العربية بقصد التوسع على حسابها، والتواطؤ
مع اعدائها لتمزيق
كيانها وتفتيته، واطالة اجل الاغتصاب الصهيوني والاستغلال
والنهب الاستعماري، وتعويق نهوض العرب وقيامهم بدورهم
الانساني. فمعركة العراق معركة مبادىء تنطوي على معاني مستقبلية تتجاوز الحاضر.. انها معركة القومية العربية التي هي مشروع العرب المستقبلي، الذي يستطيع به العرب ان يقيموا مجتمعا تقدميا وانسانيا عادلا ومتوازنا، تأخذ فيه القيم الثورية الروحية والحضارية كل مداها في تربية الانسان العربي الجديد، لمواكبة التطور والتقدم الانساني، والمساهمة الخلاقة في صنع الحضارة.. هذه القومية التي تنشر السلام بين ابنائها قبل كل شيء، وتطمئن اعمق النزعات الخيرة في نفوسهم: تحترم حريتهم، وترفعهم الى صعيد ناهض ومبدع تنصهرفيه الخلافات والفروق السلبية، وتبرز الشخصية العربية الجديدة الموحدة المنسجمة مع نفسها ومع العالم، والتي يناديها الفراغ المبدئي والاخلاقي المتفشي في حضارة العصر، لكي تقدم اسهامها الحيوي الملخص لعراقتها التاريخية ولعمق معاناتها في الازمنة الحديثة.
ان الامة العربية في حالة دفاع منذ بدء نهضتها، تلك هي الحقيقة التي قام عليها منطلق البعث في التصور الثوري الحضاري للمرحلة التاريخية التي تَقدمَ لقيادتها وتوجيهها، وان قوى الاستعمار الغربي الطامعة في موقعها وثروات ارضها، جعلت من اهم وسائلها لتحقيق اغراضها في الوطن العربي خلق الانقسام والتناحر بكل الاشكال الممكنة، واثارة النعرات الطائفية والعشاثرية والعنصرية في الداخل، واثارة الاطماع عند دول المنطقة المجاورة للوطن العربي، وذلك باحياء الخلافات والعقد التاريخية.
فالآمة العربية ليست بحاجة الى التوسع، وليست بحاجة الى الاعتداء على الأخرين، فضلا عن ان مبادئها تحرم ذلك. ولكنها بحاجة الى التعاون، والانفتاح على الشعوب الاخرى وكل القوى الخيرة فيها، لكي يساعدها ذلك على استكمال تحررها، وتحرير اجزاء وطنها وتوحيد هذه الاجزاء وتطوير مجتمعها..
وكون الامة العربية في حالة دفاع، يعني انها تستطيع ان تتطابق مع مبادئها الانسانية، وان ترسم صورة لحياتها الجديدة، على اساس من هذه المبادىء، سواء في البناء الداخلي لمجتمعها، او في علاقاتها الدولية.
ان ضعف الوضع
العربي كان احد الاسباب والذرائع التي سهلت على السادات تورطه
وتفريطه في حق مصر
والامة العربية. ولكننا في الوقت نفسه نعرف
ان دور
مصر القومي يتطلب منها ان تنظر بتفاؤل الى الامكانات
العربية عندما تظهر
على حقيقتها
في المستقبل، الذي
يُطلب
من مصر
ان تكون لها المساهمة الكبرى في
صنعه، وإن دواعي التفاؤل والايمان،
وظواهر الصحة والبطولة
والصمود، موجودة وواضحة منذ الآن في الواقع العربي،
وتبشر
بتغلب عناصر الصحة على عوامل المرض.
واذا كان حزبنا : حزب البعث
العربي الاشتراكي من اوائل الذين تفاءلوا بقدرة
مصرعلى النهوض من كبوتها.. لثقتنا
العميقة بان ما
فعله السادات
لم يكن يعبر
في شيء عن ارادة مصر،
وارادة شعبها، ومصلحته، لانه تم في ظرف
غُيب
فيه الشعب
والارادة الشعبية تغييبا تاما.. واذا كان البعث ايضا اول من
دعا المناضلين العرب بعد زوال السادات الى ان يزدادوا تفاعلا
مع مصر دعما وتشجيعا لتغليب عوامل الصمود والنهوض امام
المؤامرة الامبريالية الصهيونية فان مصر
بأصالتها العربية
الاسلامية كانت هي ايضا، من اوائل
من تنبه من العرب لخطورة
العدوان الايراني على العراق، وما يجمعه بالمخطط الامبريالي
الصهيوني، الذي يستهدف الوطن
العربي
كله.. هذا التنبه الى خطر اغراض الخميني التوسعية في
العراق وفي سائر الارض العربية، كان في ذلك الحين، وما يزال
حتى الان، تعبيرا غير مباشر عن رفض مصر
للمؤامرة التي كبلتها
بها معاهدة كمب ديفيد، والتي تريد لها ان تنفك عن مصيرها
القومي، وعن علاقة التضامن المصيري
بينها
وبين بقية اجزاء
الوطن الكبير، وبينها وبين العراق بصورة خاصة.. فمصر عندما
تجاوبت مع العراق في موقفه، بمثل هذا الوعي الناضج، عبرت
بذلك عن ادراكها لما يمثله العراق في نهضته الحديثة، وقوته
الجديدة، وصموده البطولي، من رصيد لكل المعارك القومية
التحررية القادمة، ولمعركة مصر
بالذات، ولجهودها ونضالها من
اجل تحطيم القيود المفروضة عليها،
واسترجاعها لدورها القومي
الاساسي.. فهي بذلك تقوي نفسها، وتعبر عن ارادتها الصميمية، ونظرتها الى المستقبل، مستقبل الامة العربية، ووحدة
المصير.. فهذا التجاوب هو الاشتراك في روح النهوض، وفي معالم
طريق النهضة..
يا ابناء امتنا العربية المجيدة
لقد ادرك البعث منذ تأسيسه طبيعة الصراع مع العدو الصهيوني،
وانه صراع
مصيري وحضاري. واكد
منذ
البدء حتمية المواجهة معه، وان
النضال الشعبي هو السبيل الناجع للاعداد لهذه المواجهة
المصيرية، وانه وحده،
يستطيع ان يوصل الواقع العربي الى
مستوى التعبير
عن امكانات الامة وقداراتها الحقيقية..
ويبقى موقف الأتحاد السوفيتي
متميزا وينم عن الفارق النوعي بين دولة الثورة
الإشتراكية
وبين
دول الغرب المحترفه
للإستعمار والتوسع،
واذا كانت المقاومه
الفلسطينية
مطالبة دوما
بإبقاء القضية
حية
ومطروحة،
ومطالبة
بقيادة الصمود الفلسطيني وجعله قاعدة لدور تحريري جدي،
ومنبرا
نضاليا يذكر العرب وينبه شعوب العالم
الى مسؤولياتهم ازاء هذه القضية، فان معركة
العراق
هي معركة
بناء اداة التحرير، ومشروع النهضة، فكلا الموقفين تجمعهما
القضية المركزية للنضال العربي، ويجمعهما الفهم المشترك
لطبيعة التحدي المصيري الصهيوني، وللمؤامرة الامبريالية
الصهيونية الايرانية التي تستهدف تفتيت المجتمع العربي،
وضرب
روح النهضة فيه.
ان مؤامرة تصفية الشعب الفلسطيني في المخيمات، لاتنفصل عن الواقع الماساوي للبنان الذي اريد له ان يدمر، لكي تنشأ على انقاضه كيانات طائفية متنافرة محتربة، هو القطر الذي كان قد اصبح بعد النكسة القومية التي منيت بها الامة عام 1967، بفضل المناخ الديمقراطي والمقومات الثقافية والحضارية، منبرا للفكر العربي الحر وللضمير العربي الذي يطرح على نفسه الأسئلة المصيرية عن اسباب الهزيمة وعن كيفية النهوض من آثارها، وعن قضية فلسطين، والمستقبل العربي فلبنان الذي كان مهد من مهاد النهضة العربية المعاصرة، والذي اصبح في السبعينات يمثل ضرورة قومية بالنسبة للعرب ولمسيرة النهضة العربية، قد اعطى في جو الحرية والديمقراطية والتعددية، من الثمار الناضجة، والاضافات التي توسع افق النهضة العربية، وتزيد في نموها ونضجها، ما جعل منه ومن دوره القومي حقيقة اقوى من واقع سلبياته الطائفية وحساسياته الانعزالية المرضية، وبيئة خصبة للتفاعل الوطني الشعبي مع النضال الفلسطيني، اعطت انموذجا للحركة الشعبية العربية، قابلا ان يجد التجاوب والاقتداء في الاقطار العربية، وبخاصة اقطار المواجهة، مما دفع الكيان الصهيوني الى استباق هذا الخطر قبل ان يتفاقم، واحكمت المؤامرة الصهيونية على لبنان بمشاركة فئات لبنانية انعزالية، وعربية حاكمة: في مقدمتها نظام حافظ اسد. واكتملت حلقات المؤامرة بعد مجيء الخميني الي السلطة في ايران، وتصميمه على تصدير مشروعه الطائفي لتفتيت كيان الامة العربية. وكان الالتقاء بين مشروعه والمشروع الصهيوني امرا طبيعيا.
ان افشال هذه المؤامرة التي ارادت
للبنان ان يغرق في الفوضى والتناحر والاقتتال.. هذا ما يجب
ان
يكون هدف اي تخطيط قومي مستقبلي، لكي يعود لبنان الى
وحدته ودوره النهضوي، الذي لايمكن ان يحققه الانتماء الغريب
المصطنع القائم على التنكر
للعروبة، اوصل الى اطلاق الغرائز
الهمجية، والرجوع بلبنان الى الوراء والى العصور المظلمة.
فلبنان لايخرجه من
مأساته، ولايحقق شخصيته الا الانتماء
القومي العربي الذي يعتبر لبنان وتجربته جزءا اصيلا في
النهضة
العربية.
فالمجتمع الدولي، الذي شهد الفضيحة بكل تفصيلاتها، وشهد ايضا صمود العراق امام هذه القوى، اصبح مطالبا بان يخرج من حالة التفرج، اذا كانت هناك بقيةٌ لاحترامه للحياة البشرية، ولدور المؤسسات الدولية، بأن يضع حدا للحرب واراقة الدماء بدون مبرر.
والموقف العربي مطالب بعد
انكشاف الحقائق كلها،
بالتوصل الى تضامن فاعل ومؤثر
وغير
متسامح مع الذين يشذون عن
التضامن العربي.
ولئن تُرك العراق، نتيجة الاوضاع العربية الرسمية والتآمر الدولي، يدافع وحده عن مصيره والمصير القومي، فانه لم يعتبر ان الامة خذلته، بل انها تجمعت فيه، لان الاوضاع الاخرى ليست من الامة في شيء. فالامة موجودة في كل مكان يحمل فيه ابناؤها السلاح، دفاعا عن الحق، ومن اجل انتصار الحق. فهنيئا للقائد التاريخي الرفيق صدام حسين انتصاره المؤزر الخالد، الذي استحقه استحقاقا كاملا : هو وشعبه العظيم وجيشه البطل.
هنيئا له هذا الانتصار الذي كان حتميا، منذ البداية، لانه بناه على الاسس المتينة الباقية التي تبنى عليها المعارك الكبرى الفاصلة، والنهضات الاصيلة.
لقد قام البناء والرهان التاريخي منذ البدء على الاصيل الاصيل في تاريخ الامة وضمير ابنائها وعلى النزوع الشعبي الصادق الى الحياة الجديدة النظيفة المبدعة، المبرأة من الظلم والتعصب والانقسام.
لقد قام البناء والرهان التاريخي على وطنية العراقيين وعروبتهم، على شجاعتهم ونخوتهم، وعلى توقهم الشديد الى النهوض والتقدم. كما قام هذا البناء وهذا الرهان على ضمير الامة الذي لايخطىء، وعلى وعيها السائر نحو النضج والعمق، وعلى مميزات العقل العربي المطبوع على حب النور والوضوح، وعلى الضمير العربي الذي يرتاح الى الصدق وينفر من الغوغائية.
بناء ورهان على كل ما هو صحي معافى مليئ بالحياة، متحفز الى التقدم والخلق والابداع..
وهنيئا لجيش العراق المقدام الذي اعاد الى الحاضر امجاد الماضي الزاخر ببطولات حملة الرسالة الاول..
وهنيئا لشعب العراق
العظيم الذي
اعطى من نفسه ومن قدراته ومن دماء ابنائه بغيرحدود، لمعارك
الشرف والكرامة والسيادة، والذود عن كيان الامة ونهضتها
الحديثة.. فالمجد لبطولاته، والخلود لشهدائه صانعي الانتصار
العظيم.
ميشيل عفلق
(1) كلمة في السابع من نيسان عام 1987، لمناسبة الذكرى الاربعين لتأسيس حزب البعث العربى الاشتراكي.
|