ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الخامس


حزب الثورة العربية

 

 

 

 

ان مهمة اللجنة الاساسية(1)، في رأيي، هي تمكين الحزب، في المستقبل، ان يكون حزب الثورة العربية، لحد الآن حقق حزبنا هذا الشيء لحد ما، ولكن يجب على الحزب ان يصبح بالفعل وبدون منازع حزب الثورة العربية، ولكل الأمة العربية، فالمهمة الأساسية اذاً هي ضمان مستقبل الحزب. لقد قام الحزب منذ البدء على اساس هو: "الفكر اساس العمل" فعندما نضمن لحزبنا الاسس الفكرية، ونعمل على توضيحها وتعميقها وتطويرها حتى يقدر الحزب ان يستوعب حاجات المرحلة الجديدة في الثورة، في كل اقطار الوطن العربي او في المجتمع العربي الموحد الذي نسعى الى تحقيقه نكون ضمنّا استمرار التقدم المضطرد في الحزب.      

 

ان العمل الفكري في الحزب يجب ان ينطلق من المستقبل، وليس من الماضي او الحاضر مع الرجوع الى الماضي والحاضر، وهذا يتطلب تحديد معالم الثورة العربية بآفاقها القومية والعالمية كما يتطلب دراسة واقع المجتمع العربي دراسة علمية دقيقة بنواحيه الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والنفسية والعلمية والعسكرية.       

 

لماذا قلت حزبنا يجب ان يصبح حزب الثورة العربية؟.. لانه حتى الآن عجز عن ذلك ولكن يجب ان لا نستسلم، ان الحزب منتشر في الهلال الخصيب، اما انتشاره في المناطق الأخرى من الوطن العربي فضعيف. هناك ثغرة مخيفة لاتساعها واهميتها ودورها الثقافي والحضاري والمادي هي مصر، ان غياب حزب البعث عن مصر قد حكم على الوطن العربي بالتجزئة، حيث سيظل هناك قطبان: الحزب ومصر. هذه المسألة من أهم الاشياء التي يجب ان ينتبه اليها العمل الفكري في الحزب، ان المطلوب هو المعالجة الفكرية هذه المسألة وليس المطروح التفتيش عن تنظيم حزبي في مصر، المطلوب دراسة موضوعية عميقة للاسباب التي جعلت الحزب يعجز عن دخول مصر وللاسباب التي تجعل مصر متحفظة او سلبية من حزب البعث مهما تكن مزاياه، هناك الاسباب السطحية، ان الحزب لم يسع بصورة جدية، ولم تكن وسائله تسمح له بالتركيز على مصر.      

 

اما الاسباب الحقيقية فهي تكوين مصر الخاص، وهناك ايضا المغرب العربي الذي له طابعه الخاص ايضا، ان الحزب بحاجة الى دراسة واقع المغرب العربي.      

 

***

ان المرحلة الجديدة التي دخلتها الثورة العربية بعد حرب حزيران تتميز بميزات على الصعيد العالمي فهناك تبدلات عميقة تجري في الاسس الفكرية والعقائدية والاوضاع الاجتماعية والسياسية وفي موازين القوى في العالم.       

 

ان اول شرط لضمان مستقبل الثورة العربية ومستقبل الحزب الذي يقود الثورة هو ان نعرف وضعنا في العالم، اننا نشهد في السنوات الاخيرة تبدلات عميقة في المعسكر الشيوعي، هناك الانقسام داخل المعسكر، ووجود قطبين كبيرين فيه هما الصين والاتحاد السوفيتي واتساع الفوارق بينهما مع اختلاف في الاتجاه، ففي الصين اتجاه ثوري متطرف تتجاوب معه شعوب المجتمعات المتخلفة والمستعبدة والمهددة بالاستعمار بينما الاتحاد السوفيتي يخطو كل يوم خطوة نحو التقرب اكثر فاكثر الى الغرب ويبتعد عن واقع المجتمعات المتخلفة وهذا يعكس حقائق مهمة جدا بالنسبة لمستقبلنا، اين مصلحتنا؟ اين سنلاقي التجاوب ووحدة المصالح ؟..        

 

وفي الوقت الذي تتزعزع فيه الاسس  الفكرية التقليدية الشيوعية بشكل ينذر بان الشيء الذي سمي شيوعية منذ نصف قرن يصبح بعد 20 او 30 سنة شيئا من التاريخ، في هذا الوقت تظهر في الوطن العربي دعوات وبدع تحاول بعث الماركسية - اللينينية بحرفيتها وحذافيرها وكأنها كتاب منزل يحل لنا كل مشاكلنا.      

 

ان هذه الحقائق تعيدنا الى ماضي الحزب ومنطلقاته، فالحزب انطلق من منطلقات عميقة وناضجة، ولما لم  يتيسر لها العقول التي توضحها وتعمقها بقيت ادلة على الطريق. كان للحزب منذ بدايته نظرة ليست حدسية كما يقولون وانما ناتجة عن الدراسة والتتبع، وقد توصل الحزب الى ادراك "نسبية" الشيوعية كنظرية وبالتالي كتطبيق ونظام، اي ليست هي الشيء الذي ليس فيه خطأ، وانما كشيء نسبي وانها معرضة لان يتجاوزها الزمن، كان هذا واردا منذ السنوات الاولى للحزب، واحيانا كان هناك انفعال في التعبير عن هذه الحقائق لاننا كنا وجها لوجه مع احزاب شيوعية محلية كانت تجافي مصلحة البلاد وتتحدى فكان هناك انفعال، فلنطرح الانفعال جانبا، نجد هناك نظرة اعطيت حقها من الدراسة.      

 

والعالم الرأسمالي، هل هو الآن كما كان قبل نصف قرن ؟.. ما هي التطورات التي حدثت عليه؟.. عندما ندرس التطورات التي طرأت على الماركسية وندرس الاشياء التي اتت مخالفة لهذه النظرية، اي مخالفة للقوانين التي وضعتها، لا بد ان نكوّن فكرة عامة واضحة عن المجتمع الغربي في اوربا وامريكا، عن التقسيم الطبقي، والتطور العلمي والمراحل البعيدة التي وصلها والنتائج التي توصل اليها والتناقضات التي يعيش عليها.     

 

***

ان من اسباب نجاح الحزب في بدء الاربعينات وعند تأسيسه انه لم يعمل بأفق محلي ولم تقتصر نظرته على البلاد العربية، وانما كانت نظرة حضارية مستوعبة بشكل جيد الى حد ما اوضاع العالم ودرجة تطوره ونموه والقوى المختلفة التي تؤثر في العالم الحديث، كذلك يجب ان يكون مثل هذا الادراك اليوم في هذه المرحلة من الثورة العربية  مع المحافظة على السبق، فالحزب قد حقق سبقا قبل ربع قرن، وفي المرحلة الجديدة في العالم تتأكد استقلالية فكر الحزب، وهي الشيء الذي الح عليه منذ البداية، اي ان لا تتقيد بمذهب معين، وان تكون لنا نظرة مستقلة، وهذا اهم شيء في فكر الحزب، لقد اخذت الاستقلالية تعبيرها السياسي في نظرية الحياد الايجابي، ولكن الاستقلالية اعمق واشمل من نظرية الحياد، لانها الحرص على الموضوعية الذي لا يترك اي مجال للوقوع في اسر المذهبية. ان النظرية المتعصبة المغلقة التي تعطي قوة عملية في فترة من الزمن تحجب الكثير من الحقائق وتخل بعملية التفكير. .    

 

ان النظرية التنظيمية للحزب لم تستكمل بعد، انها موجودة بشكل موزع ومشتت في  كتابات الحزب ولكن لم تكن هناك دراسة جدية لها.      

 

ان النظرية التنظيمية من الامور الرئيسية في عمل اللجنة الفكرية لانها من الامور الرئيسية لضمان مستقبل الحزب.       

 

***

يتفرع عن النظرية التنظيمية موضوع التثقيف والتربية، ان الحزب الثوري هو الحزب الخلاق الذي يخلق شخصية جديدة لاعضائه، شخصية فكرية وعملية، يخلق منطقا جديدا في التفكير ومسلكا وقيما عملية. ان الاثر االذي احدثه الحزب في اعضائه وفي المجتمع العربي كان اثرا آنيا وليس نتيجة تخطيط وتصميم حيث لم توضع نظرية للتنظيم والتثقيف. ان ما كان يصل من افكار الحزب الى قواعده وانصاره ومؤيديه احدث بعض الاثر، هذا اثر بدون جهد وغير ارادي ولايسمى تثقيفا ثوريا او تربية ثورية لانه لم يدخلها عنصر الارادة والتخطيط، انني في هذا الحديث اعمم، لانه ربما كانت هناك محاولات اصابها الفشل او لم تستمر ولم تعط النتيجة المطلوبة لا بد ان نعتبر بان هذا الشيء كان مفقودا ويجب ان نحدثه وان نركز عليه الاهتمام.        

 

وفي حزبنا لا ترد المحاذير التي ترد في الاحزاب الشيوعية اذا نحن بقينا امناء لمنطلقاتنا فالتربية لا يدخلها الاصطناع وقولبة الشخصية بحيث يفقدها الحرية والابداع ولكنه ينقذها من التسيب والميوعة والضياع والفردية التي تشل الحرية الحزبية.      

 

***

عندما نكتب تاريخ الحزب فعلينا ان ندرك ان مهمتنا هي المستقبل، من هذه الزاوية يسد هذا النقص. ان حزبا بلا تاريخ غير مضمون الاستمرار. ان كتابة تاريخ الحزب ليس عملا اكاديميا انه عمل لضمان تقدم الحزب المضطرد نحو المستوى الذي طمحنا اليه كي يكون حركة تاريخية تقود الثورة العربية في احرج وادق مراحل نهضة الأمة العربية.      

 

اذا اردت ان اضيف شيئاً الى هذا التصور الذي يجب ان ينبعث دوما من الواقع العربي. اقول، ان العالم يشهد تطورات هي اقرب ان تكون ثورات فكرية، هذا التصدع في المعتقدات التي كانت تظهر قبل عشرين سنة او اقل بانها معتقدات أبدية وعلمية لا يتطرق اليها الشك، اصبحت اليوم تعاني من التصدع والتفكك، وهنا نشير الى ظهور الظاهرة القومية ضمن المعسكر الشيوعي وهذه تعطي لحزبنا تدعيما جديدا لاصالة تفكيره.       

 

اننا يجب ان نرى الطور الذي وصلناه في الوطن العربي وللتبسيط اقول انه يشبه زمن ظهور الحزب.      

 

ومثلما كنا في الاربعينات نرى نهاية الانظمة الاقطاعية البرجوازية قبل ان تنهار فاننا اليوم نرى اوضاعا مماثلة. ان الظروف الراهنة الناجمة عن نكسة حزيران تنذر بنهاية الانظمة التي كانت قائمة قبل النكسة والتي فقدت القدرة على تجديد ذاتها. وان طموح الحزب ودوره يجب ان يكونا على مستوى المرحلة الجديدة، وان يملأ الفراغ بعد سقوط الانظمة التي هي الآن في حكم الساقطة، وبالتالي فان الحزب يجب ان لايحدد نفسه وعمله واهدافه في مكان واحد وبمهمات قريبة، وانما يجب ان يظل الايمان بانه حزب الثورة العربية، ولكل الامة العربية.      

 

***

ان المستقبل هو المهم، واهمية الماضي تأتي من كونه تراثا، ان مهمتنا هي سد حاجات المستقبل دون التقيد الشديد بالماضي الا كروح وتراث. ماذا نستخلص من هذه القواعد؟      

 

تركيز الانتباه والاهتمام على حاجات المستقبل، وهي غير خافية وغير غامضة، من خلال هذه الحاجات هناك عودة طبيعية الى الماضي، ولكن تبقى في هذه الحدود، حدود الماضي باعتباره روحا وتراثا، لو سألنا انفسنا ما هي حاجات المستقبل التي يطرحها وجود الحزب واستمراره وتقدمه، الحاجات الفكرية او النظرية، ان الحزب مطالب بان يكون له موقف نظري من القضايا الاجتماعية والسياسية المطروحة في هذا العصر بالنسبه للعالم وبالنسبة  للامة العربية، وهو مطالب بتحديد موقف من الماركسية بعد دراسة جدية ونقدية وجديدة متحررة من النواقص ومن رواسب الماضي، وهو مطالب ايضا بتحديد موقف من نظريات اجتماعية جديدة غير الماركسية، قريبة منها مخالفة لها، بشكل يجعل الحزب قادرا على الرد على جميح التساؤلات والاعتراضات وان ينتقل من مرحلة الدفاع، من موقف الدفاع الى موقف التبشير من جديد، اي موقف الهجوم، علينا الا نطمئن الى تجديد الحزب الا عندما يبدأ بكسب عقول الشبيبة العربية على امتداد الوطن العربي. يجب ان يكون تجديد فكر الحزب بمستوى اعلى درجات الفكر والثقافة في الوطن العربي. ولابد ان نأخذ بعين الاعتبار في عملنا الفكري الجديد، ان المتطلبات الفكرية في قطر من اقطار المغرب العربي قد تكون اشد واصعب منها في بعض اقطار المشرق، وسبق ان اشرنا الى مصر، فهي مركز فكري وثقافي في غاية التقدم ولا يجوز ان نهمل في عملنا الفكري هذه الحقيقة.      

 

شيء اخذ يحتاج الى اهتمامنا الشديد، وهو التثقيف التربوي الذي يتناول خلق الشخصية البعثية المتكونة من فكر وسلوك، وهذا طبعا يفترض الاطلاع الواسع والدراسة العميقة للعلوم النفسية والتربوية والاجتماعية.       

 

ان الذي ذكرناه في الجلسة الاولى عن ضرورة الرجوع الى التاريخ العربي يظهر انه لا غنى عنه، حتى انه غير قابل للتأجيل، فبالاضافة الى ضرورة دراسة ماضي الحزب لا بد من دراسة ماضي الامة وقد يتم هذا دون اسهاب وضمن امكانيات اللجنة. وعلينا ان نطلع على التجارب الاشتراكية المعاصرة وان نتعمق في دراستها، وبخاصة دراسة اساليب التثقيف والتربية الحزبية في الاتحاد السوفيتي وفي الصين، ان هذه الاساليب في التربية اوصلت الى اعلى مردود عملي.      

 

ان العمل الثوري هو اختصار الزمن دون قلع الجذور، ان ابعد حد في اختصار الزمن مع ابقاء جو نفسي سوي للشخصية، لشخصية الفرد والامة، كما يفترض ايضا دراسة العناصر المكونة للشخصية في الجتمعات الغربية، الامريكية والاوربية.     

 

***

المفروض في الناحية التنظيمية ان تلتقي فيها النظرية الفكرية للحزب والنظرية التربوية فالتنظيم لا يكون في الفراغ وهو ليس غاية في حد ذاته. ولعلنا نستطيع تحديد ثلاثة اشياء اولية تقوم عليها النظرية التنظيمية .  

1- استقلالية شخصية المناضل البعثي.

2- وحدويته اي ان يكون التنظيم مندفعا باستمرار الى تجاوز الاطر القطرية والتفاعل مع المنظمات القومية بشكل يؤدي الى تحقيق نفسية وروحية الوحدة العربية في كل تنظيم للحزب.

3- الاتجاه العلمي.

 

أيار 1970

 (1) كلمة في الدورة الاولى من اجتماعات اللجنة الفكرية المنبثقة عن المؤتمر القومي العاشر في أيار 1970.

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الخامس