ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الخامس


إنسانية نضال الأمة

 

 

 الأمة العربية في مرحلة ثورية(1)، وقد قدر للطليعة بأن ترى هذه الحقيقة منذ سنين طويلة ثم تتالت الأحداث لتبرهن على هذه الحقيقة حتى وصلنا اليوم الى حد أن الأعداء أنفسهم يكادون يعترفون بها، أي أن الغرب الإستعماري وعلى الأقل بعض فئاته الشعبية أخذت تدرك ذلك فضلا عن الشعوب الأخرى في البلاد ذات النظم الإشتراكية والشعوب الآسيوية والافريقية المتحررة حديثاً من الاستعمار والمناضلة في سبيل التحرر.

  

فهناك إذن شروط اساسية تهيأت للأمة العربية قديماً وحديثاً لتخمير ثورة جديدة وعميقة وشاملة أصبح العالم اليوم، مثل العرب، استعجالاً لها واحتياجاُ اليها: يشعر بالحاجة اليها ويستعجلها لأنه يدرك بأنها لن تقتصر على حل مشاكل العرب بل ستسهم في حل مشاكل العالم. هذه الشروط يكفي ان نشير الى عناوينها. نحن  نستند الى تراث قومي أصيل، تجلى في نهضتنا الأولى في القديم  وبالرغم من كل ما طرأ عليه من جمود وتشويه ونسيان، فقد بقيت فيه عناصر حية تسري في حياتنا سريان الماء تحت الارض وتحيا في تقاليدنا الشعبية وقممنا الاخلاقية. ثم طرأت على  الأمة العربية ظروف قاسية جزأتها وأشاعت فيها الفوضى والفرقة والخلل في التوازن الإجتماعي وسمحت بدخول الأجانب الى أجزاء من أرضنا وحدثت مآسي كثيرة لا حد لها ولا حصي أطفأت أو كادت تطفىء شعلة العبقرية العربية فتخلينا مئات من السنين عن مهمة الإبداع والمساهمة في الحضارة وتحمل المسؤوليات الانساية اللائقة بأمة كريمة حرة،  ثم كان آخر المطاف، الإستعمار الغربي الذي جاءنا  بألوان من العدوان والإفساد والإرهاب لم يعرفها العالم من   قبل. وأخذت البلاد العربية تقع فريسة هذا الاستعمار، الواحدة تلو الاخرى من الجزائر الى تونس فالعراق فالجنوب العربي.. الخ

 

ويجب ان نعرف بان الإنحطاط الذي بدأ منذ مئات السنين والذي أدى اخيراً الى دخول الاستعمار الغربي  ببلادنا لا يجوز ان يفسره عاملان فقط:

 1- عامل خارجي.

2- عامل داخلي.

 

بل تفسيره الحق هو بوجود العاملين معاً. أولاً منا نحن  فنحن مسؤولون عنه. وثانياً بقوة خارجية معتدية استطاعت ان تدخل وتستغل الضعف الداخلي وان تضخمه وتستغله الى ابعد الحدود وهذا شأن الاستعمار الغربي فانه استخدم كل علمه الحديث ووسائله الحديثة لا ليقتصر على الاحتلال العسكري وفرض سلطته بالقوة والارهاب فحسب بل ليدخل كالسم في جسمنا القومي ويستفيد من الامراض الداخلية يضاعفها اضعافا وهكذا حاول ان يفرق اشد الفرقة بين ابناء الوطن الواحد ليس بين قطر وآخر فحسب بل بين الطوائف ومختلف الفئات وخلق نعرات وعصبيات ومفاسد لانحلال الأخلاق وتدهور القيم. فأمة يمر عليها كل هذا إما ان يقضى عليها نهائيا تحت الكابوس و تحت ثقل الوطأة الاستعمارية فتتلاشى. وإما ان يكون فيها من مقومات الحياة ومن مقومات البعث ما يسمح لها بأن تنتفض وتتغلب على كل هذا وتخرج بثورة جديدة تستفيد من كل هذه المصائب والآلام لتقدم الى الانسانية تجربة جديدة عميقة. والشيء الثاني هو الذي حدث. إذ أن أمتنا العربية لم تمت بل انتفضت وكانت هذه المآسي والمحن بمثابة الحافز لها والعامل المخصب.. أخصبت روحها وحركتها ودفعتها الى مزيد من التعمق والصدق فبدأت تحاسب نفسها في الوقت الذي بدأت فيه تحاسب اعداءها. كان واضحا قبل عشر او عشرين سنة بأن هذه الثورة لها ملامح الأصالة.. كان واضحا منذ ذلك الحين أن اهم الاشياء وأقدس الأمور بدأت تطرح على النفس العربية وتوضع موضع التساؤل فهذا إن عنى شيئاً فيعني الثورة الأصيلة. ثم فعل الوعي الجديد فعله في الشعب وبدأنا بالصعود بعد التدهور والإنحدار ودخل العرب مرحله  جديدة واصبح لهم شأن في العالم وما زالوا في بداية الطريق .

 

ايها الاخوان

 

تسمعون كثيراً ولعلكم انتم تقولون احياناً دون تمحيص للفكر والقول ولعلنا كلنا نتفوه بمثل هذه الاشياء المرتجلة غير الدقيقة فنقول بأننا بذلنا جهوداً ضخمة ولم نصل الى نتائج. كثير من العرب في العراق والبلاد العربية كانوا يستطيعون هذه الثورة وكانوا يتكلمون عن الجهود الكبيرة  التي تبذل بدون نتائج. وكنا ندرك ان هذا كلام عاطفي لا يستند الى الواقع  فالواقع هو اننا لم نبذل بعد ما يقتضي من جهود وان انتصاراتنا في السنوات الاخيرة هي اكثر مما نستحق بالنسبة الى ما بذلنا من جهد، لا بل بالنسبة الى ما نستحق  في الحقيقة ,عندما تظهر هذه الحقيقة كل الظهور. الواقع ان عوامل كثيرة خارجة عنا وعن جهدنا وارادتنا تساعدنا في هذه الانتصارات، العصر كله متجه نحو الحرية والتحرر وتصفية الاستعمار ونحن نمشي في تيار العصر وطليعة هذا التيار، وهنا يكمن الخطر بالنسبة لنهضتنا اذا نحن ظننا بأن هذه الانتصارات كلها من فعلنا وهذا يغرينا بالتكاسل والتواكل وبان نداري نفوسنا ونجاملها ونداري اوضاعنا ونجبن عن اعادة النظر فيها حتى الجذور. ان الواقع العربي يشير الى ان في شعبنا العربي امكانيات هائلة لم يستثمر منها بعد إلا الجزء اليسير وان نهضتنا لازالت مخضرمة بين القديم والحديث، بين التطور والثورة، وانها لم تتسم بعد بالثورية الكاملة ونحن لو استسلمنا لهذا الانخداع والوهم المريح باننا عملنا ما يجب واكثر مما يجب فسيأتي يوم يصفى فيه الاستعمار -وليس هذا ببعيد- ليس بفعلنا فحسب وانما بفعل شعوب الارض كلها وعندما يزول الاستعمار نخشى ان نفتح عيوننا على فراغ او ما يشبهه الفراغ، على لا شيء حققناه. ان التاريخ معنا والعصر والحق. فيجب ان نكون نحن مع الحق والتاريخ، أي ان نبذل اعمق الجهد والارادة وصدق النظر لنستحق ان يكون الحق في جانبنا.

 

فالثورة الاصيلة هي التي تتميز اولا بالايجابية، بثقة بالنفس ولا تكتفي برد الفعل بان نصوب انظارنا دوماً نحو الاعداء ونعدد مساوئهم وحقارتهم واثمهم. الثورة الاصيلة هي التي تنظر في آن واحد وأولاً الى نفسها باعتبار ان هذا هو الاساس والحقيقة الكبرى وان الاستعمار والاشياء الخارجية هي نتيجة لضعف الداخل.

 

هذه الثورة في اصالتها تشترط علينا ان نطبق على انفسنا نفس القيم والمقاييس التي ندين بها الظلم الخارجي، والاستعمار الخارجي، نفس القيم التي ندعو بها شعوب العالم لتساعدنا. يجب ان نستلهمها لكي تهدم ما يجب ان يهدم من واقعنا وفي رفع بناء جديد.

 

فالشبه بيننا وبين الغرب في الواقع ضعيف جداً او غير موجود. فالغرب لم يمر بما مررنا به من مآسي وآلام ومن خضوع للاستعمار والتجزئة.. الخ.. فالحركات القومية الغربية نشأت في ظروف مختلفة مصحوبة بالطموح واكتشاف ثروات جديدة واكتشاف العلم الحديث بقوانينه فاصيبت منذ ولادتها بأمراض التوسع والسيطرة. ولكن حركتنا القومية نشأت كأعمق جواب إنساني على ظلم الإنسان للإنسان.. على المصير الانساني بكامله. نشأت ثمرة ناضجة لكل هذه الآلام التي عانيناها بأنفسنا وكأننا عانيناها نيابة عن شعوب الارض كلها فالإحتمال ضعيف بأن ننتهي الى حيث انتهى الغرب.

 

وهكذا ترون أن لا شيء في حياة الأمم والبشر يمر دون ان تكون له نتائج... كل الظروف تترك آثاراً قريبة وبعيدة فيجب ان نحاسب أنفسنا عن كل شيء ونعتبر أنفسنا مسؤولين ليس عن حاضرنا بل عن مستقبل أجيالنا ومستقبل العالم.

 

هناك حقيقة إن اغفلناها فإننا لن ندرك معنى الثورة والثورية وهذه الحقيقة هي أن الحياة  شيء متصل، فالمستقبل يولد من الحاضر  ومستقبلنا القريب والبعيد ماثل تحت بصرنا وبين أيدينا نصنعه ونعجنه بأفعالنا وتصرفاتنا وتفكيرنا وانه كائن كالبلور وسينضج ويكتمل مع الزمن. فلننظر ملامح مستقبلنا  في حاضرنا.. ننظر الى أي مدى نخلص لمبادئنا الثورية ليس بالكلام والتصريحات والكتابة وانما في التطبيق والد ارسة. كيف نعامل الشعب وباعترافنا هو المبدأ والغاية والأساس والركيزة الوحيدة، له نعمل وبه نعمل لأنه هو الذي يناضل وهو الذي يبني. كيف نربي هذا الشعب ونحترمه ونحترم إرادته وحريته؟.. هل نعامله معاملة القاصر.. هل نجامله بالكلام ونحتقره في أعماق نفوسنا؟.. هل نتودد له بالظاهر ونخاف منه بالحقيقة ؟ كيف نربيه لكي يصبح مسؤولاً ولكي يحمي هذه الثورة لأنها ثورته.. والقيادات تتغير وتزول ولكن الشعب يبقى فإن لم تُستغل هذه القيم والمثل لخدمة واقع الشعب الثوري ولم تصبح جزءاً من دمه ولحمه وإذا لم تصبح شيئاً اصيلاً فيه  فلن يحمي ثورتنا شيء وسوف تفشل ويعود علينا الإستعمار الى أمد ما، لأننا لم نحرص على ثورتنا ولم نخلص لمبادئنا وأهملنا شعبنا الذي هو وسيلة الثورة وغايتها.  

 

تموز 1958  

 

(1) من أحاديث القائد المؤسس في زيارته الأولى لبغداد بعد ثورة 14 تموز 1958.

 

الصفحة الرئيسية للجزء الخامس