ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الخامس


  مغزى ثورة العشرين   

 

 

قد تكون الدول الاستعمارية(1) قد فوجئت بالحدث العظيم في العراق كما فوجيء عملاء الإستعمار والحكام الفاسدون المستهترون بقوة الشعب، ولكن الشعب نفسه، الشعب الأصيل الشعب المناضل في كل بقعة من بقاع وطننا العربي الكبير لم يفاجأ بالانتفاضة التاريخية التي حققها اخوته في العراق، لانه يؤمن ويعرف بالتجربة الحية التي يعيشها كل يوم، أن روحاً واحدة وتياراً تاريخياً واحداً يحرك الأمة العربية في كل قطر من اقطارها ويرفعها الى مستوى الآلام والمحن التي انزلها بها المستعمرون والطغمة الفاسدة الخائنة، ولقد جاءت انتفاضة شعب العراق على أرفع وأعمق مستوى لأنها وليدة التجارب القاسية والألم العميق، فنظر اليها العرب في كل مكان على أنها قفزة تاريخية جديدة حاسمة من قفزات تحررهم وبناء وحدتهم وتجديد مجتمعهم ونظام حياتهم من الاسس والجذور. إن البداية  العظيمة الرائعة لحركة العراق ترتب على شعب العراق مسؤوليات جديدة ثقيلة، فالشعب الذي يستطيع  مثل هذه البداية الثورية مطالب بأن يستمر في نفس المستوى وبنفس الروح والمنطق لا لكي يلتقي بأشقائه في الأقطار العربية المتحررة ويوحد حركته معها فحسب  بل لكي يلقي بوزن تجربته الثمينة ونضاله القومي الطويل ليغني بها التجربة العربية الكبرى المندفعة نحو التحرر والوحدة والعدالة الإجتماعية وبعمق معانيها ويكمل نواقصها ويصحح الأخطاء والإنحرافات التي تتعرض لها كل حركة تاريخية في بداية سيرها.

 

إن أكبر دليل على أصالة الإنبعاث العربي الحديث هو هذا المنطق القاهر الذي إذا ظهرت الثورة في جزء أو بضعة أجزاء من وطننا العربي ومالت الى الإستقرار والتبلور والإنغلاق، فاجأها في جزء آخر من  هذا الوطن ما يحول دون تحجرها وتجمدها وفتح لها باب التجديد على مصراعيه وطرح عليها من جديد قضية الأمة العربية بكل تعقيدها وعمقها واتساعها حتى لا تقنع أمتنا بحل لقضيتها دون الحل اللائق بأمة ذات رسالة إنسانية، هذا هو مغزى ثورة العراق.. ضمانة لما حققه العرب حتى الآن من إنتصارات وانقاذاً لها من التجمد والإنحراف وتعجيل في ولادة وإنضاج الإنتصارات المقبلة التي يزخر بها شعبنا العربي من الخليج  الى المحيط.

 

تموز 1958

 

(1) تصريح للإذاعة في بغداد  عقب  ثورة 14 تموز.

 

الصفحة الرئيسية للجزء الخامس