ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الرابع


البعث اشتراكية علمية زائدا روح

 

ايها الرفاق(1)

مع الأسف وصلنا الى حالة من التشويه اصبحت معها الاعمال الشرعية النظامية التي تتطلبها مصلحة الحزب، بل مصلحة البلاد والأمة، تستصرخ الضمائر لكي يظهر من ينقذ البلاد وينقذ الحزب من الكوارث والهاوية، اصبحنا نسمي الدعوات المشروعة تصرفات فردية، بعد الكارثة التي حلت بحزبنا وامتنا في العراق.. أليس من البديهي ان يتنادى اعضاء هذا الحزب الى الاجتماع ليروا لماذا حلت الكارثة؟.. ليدرسوا وليضعوا خطة ينهضون بها ويجنبون الحزب والبلاد كوارث جديدة اذا استمرت الاخطاء بدون محاسبة، وقد جاءت نكسة العراق بعد زمن قصير جدا من مؤتمر قومي عقد في هذه المدينة، ودامت اجتماعاته خمسة عشر يوما واكثر، وقيلت فيه كل الاشياء التي تحذر الحزب من عواقب سياسة واسلوب لا بد ان يوصلا الى ما اوصلا اليه، ولكن لم تنجح التحذيرات لأسباب من هذا القبيل وللتذرع بالشكليات. يضحّى بمقدرات الشعب بحجة شكليات النظام الداخلي، فليأت اذن اعضاء هذا الحزب بعد وقوع النكسة ولينظروا نظرة جديدة الى شكليات النظام، والى واقعهم، ولينظروا اذا كانوا يرضون لحزبهم ولشعبهم ان يستمرا في هذا الطريق. من يجادل في ضرورة اجتماع مؤتمر قومي بعد احداث كتلك الاحداث؟.. هذه بديهية، وقد حاولنا ان نخرج بقرار من القيادة القومية -وهنا اعضاء في القيادة القومية يشهدون على العراقيل التي وضعت لمدة خمس ساعات من المماحكة لتعطيل اتخاذ قرار-. وقيل ان المؤتمر القومي لا يجتمع بهذه السرعة، ولا بد من التحضير، ودراسة التجربة بكل تفصيل ودقة، وان تؤلف المؤلفات، ونحن نشعر انه اذا لم ندع المؤتمر القومي فليس من سلطة، لم يعد سلطة بالحزب. وقيل ايضا لماذا؟.. هذه القيادة القومية منسجمة، ولم لا تستمر في القيادة، ولم يعرف الحزب كفاءة مثل كفاءة هذه القيادة، هذا كلام قيل في الجلسة التاريخية (2) التي حاولوا بها تعطيل اتخاذ قرار ودعوة المؤتمر القومي، لأن فيها من كانوا يستلمون مسؤوليات، فعليهم ان يمثلوا أمام أعلى مؤتمر في الحزب.. وكيف، وبأي عرف، وبأي عقل، تبقى قيادة بلاد ومقدرات بلاد، مقدرات حزب، يوجد في عديد من الاقطار، وهو على رأس حكم في سوريا.. بأي عرف، وبأي شرع تستمر قيادة لم تستطع ان تجنب الحزب والبلاد النكسة التي وقعت؟ فيجب ان يعود الأمر الى الحزب، وفي قناعتي ان على أي عضو في هذا الحزب ان يبادر الى دعوة المؤتمر.. فكيف بالأمين العام، وهو لم يحدد أشخاصا معينين في دعوته، بل وضع قواعد موضوعية لمؤتمر يضم اكثر ما يكون من الحزبيين، فالمؤتمرات القطرية في الاقطار تجتمع، وقيادات الفروع والشعب التي هي على مستوى المؤتمر القطري تجتمع، وكلها منتخبة، وفي ظرف خطير مثل هذه الخطورة.. يجب ان يمثل الحزب أوسع تمثيل، لان الحق لا يضيع حينما يجتمع اكبر عدد. يمكن ان يلعب التكتل لعبه في نطاق ضيق، ولكن لا مجال لتأثير التكتل حينما يرسل الحزب من انتخبوا انتخابا شرعيا. قال الرفيق حمدي ان الدعوة غير شرعية، وانه سبق وان اقترح تشكيل لجنة تحقيق، وانه يحتج الآن على تشكيل قيادة قطرية في العراق..

 

ايها الرفاق

لا اريد ان استبق المؤتمر القومي، ولكن لابد من ان أوضح ما قاله الرفيق حمدي. كانت هناك أزمة قوية في العراق، ظهرت بوادرها من الاشهر الاولى.. والرفيق حمدي بالذات، وهو أقل المسؤولين مسؤولية عن هذه الأزمة، لأنه كان في سوريا بينما كانت اخطاء تتراكم في العراق، ولم يرجع الا بعد ان قطعت الأزمة شوطا بعيدا، هو أعرف برأيي وقناعتي وتحذيراتي، ومنذ البداية. قد كلفته مرة وضغطت عليه كي يسافر الى بغداد، وكنا في شهر أيار او قبل، ورجوته ان يذهب ويصحّي الاخوة هناك من عواقب الارتجال، فقد كان في ذلك الحين -اي بعد ثلاثة اشهر من الثورة- كان المعسكر الشرقي برمته يقف ضدنا، وأضاع الحزب إحدى مقومات سياسته التي ارتكز عليها دوما: الحياد الايجابي، فقلت له: اذهب وقل للرفاق ماذا بقي من سياسة الحياد الايجابي بعد السياسة التي تنتهجونها؟. وكذلك يعرف الرفيق حمدي بأنني كنت احذر دوما من سياسة التقتيل والتعذيب ضدا أي كان، لأن الخلاف بيننا وبين الشيوعية لا يمكن ان يجيز هذه الأساليب.. الثورة لها حق مشروع في الدفاع عن نفسها ضد من يحمل السلاح ضدها في الاشهر الأولى، ولكن بعد استمرارها -وفي الصحف لا يمضي شهرا وأسابيع حتى نقرأ ونسمع بتنفيذ اعدامات- فقلت له بان هذا يسيء جدا. وذهب الرفيق حمدي، وعاد دون ان يؤثر.. وقد يقال ان هذه السياسة كانت العناصر غير الحزبية في الحكم تشجع عليها، وهذا صحيح، ولكن كيف يتحمل حزب البعث مسؤولية الثورة والحكم في بلد عربي اذا كان من الخفة لدرجة ان تورطه العناصر اليمينية؟.. فكيف يكون في مستوى المسؤولية والحكم والثورة؟.. هل هذا جائز ان نترك العناصر غير الحزبية او الضعيفة الوعي، سواء التي كانت لها أغراض سياسية من تقتيل الشيوعيين لاسترضاء اليمينيين، او الذين كانت عقولهم وتربيتهم توحي اليهم بهذه السياسة ولا يعرفون مضارها وعواقبها على البلاد؟ الحزب في النهاية هو المسؤول وهو الذي يحاسَب أمام الرأي العام في الداخل والخارج.. ثم اطلعت من القيادة القومية السابقة للمؤتمر القومي على وجود ازمة بشكل واضح منذ اوائل شهر حزيران.. اذكر ان رئيس مجلس الوزراء العراقي الرفيق احمد حسن البكر طلب ان يجتمع بي في ذلك الوقت، ولاول مرة اسمع منه حديثا طويلا يعدد فيه الاخطاء في الحكم، وكيف انه يسير نحو العزلة، وكيف ان المشاكل تزداد في داخله، وفي داخل مجلس الثورة. كانت له آراء وملاحظات صائبة في طريقة التعامل مع الناس، في طريقة الادارة والتوظيف، في التغاضي عن اخطاء الحزبيين في الوظائف والحرس القومي، في الإهمال والارتجال، وفقدان الخطة، في التناحر الشخصي.. كل هذه الاشياء كانت واضحة وبارزة منذ اوائل حزيران لدرجة ان هذا الرفيق الذي يجمع الكل على احترامه، وان الرفيق البكر رجل مشهود له بالإخلاص، وبالأخلاق القويمة وبالتجربة والحكمة، وكان قد انتسب الى الحزب في عهد قاسم، ونسمع أخباره بأنه الرجل الأول بين الحزبيين العسكريين وبأنه مهيأ للقيادة نظرا لما يتمع به من اخلاص، هذا الرجل قال لي منذ حزيران: "إنني كنت المح علائم الحب في عيون الناس، اما الآن فإنني الجأ الى الطرق البعيدة عن البشر عندما اقصد مكتبي لكي اتحاشى انظار الناس لأني لم اعد أرى إلا الكره في عيونهم". وكانت تطرح هذه المشاكل في القيادة القومية، وأزيدكم علما بان القيادة القطرية العراقية التي حكمت العراق بعد 14 رمضان الى وقت النكسة لم تجتمع اكثرمن 3 - 4 اجتماعات في 10 اشهر، وبشكل أوضح لم تكن تجتمع الا عندما كانت القيادة القومية تذهب الى بغداد وتجمعها بالضغط، وبعد سفرها تنتهي القيادة القطرية كقيادة، ولا يعود هناك الا افراد بعضهم متجانس ويعمل بتفاهم، والآخر مشتت. ودرسنا مع القيادة القطرية في ذلك الوقت كيفية إصلاح الحال، فوجدنا ان السبب الرئيسي هو عدم وجود خطة للحزب وللحكم، وكان بعض الرفاق قد أعدوا مشروع خطة، وقُرئت في اجتماع قيادة قومية مع القيادة القطرية، ونوقشت وأقرت، وبقي على القيادة القطرية ان تطبقها، ولكن بعد رجوع القيادة القومية بيوم او يومين انتهت الاجتماعات، وانتهت الخطة، وقيل من قبل احد اعضاء القيادة القطرية لمنظمة حزبية، وكان هذا العضو مكلفا بان يشرح للمنظمة الخطة لكي تتبناها وتعمل على تطبيقها والدعاية لها بين الشعب، قال للمنظمة هذه خطة ولكنه غير قانع بها، وعندها انتهت ودفنت في اليوم الثاني لعرضها. وعاد كل واحد منهم الى ديدنه في التفرد والارتجال، وسمعت مرة من الرفيق حمدي يسمي دعوة المؤتمر القومي الى انقاذ الحزب والبلاد عملا فرديا، ولكني لم اسمعه يشجب تلك الأعمال، لم اسمعه يسمي تلك الأعمال فردية، وعلى الأصح سمعت ذلك بيني وبينه، ولكنه لم يواجه بها المؤتمرات.. هذه هي الشجاعة، لا ان نطمس الحقائق على افراد حزبنا وشعبنا ونحن نتصرف بمقدراته.. نعم غبنا شهرين، وعدنا وإذا الحال أسوأ من السابق، وفي المرة الثانية -اي بعد شهرين، في تموز وآب- سمعنا نغمة جديدة: نغمة يسار ويمين، بينما سمعنا في الاول انه لا خطة هناك. وبعد شهرين، فاذا بكتلتين في القيادة وعددها (9)، أضيفَ اليهم عضو خلافا للنظام، والمهم ان (2) من (9) كان لهم رأي وموقف عدا الآخرين، وكان هذا كافيا ليؤخذ مبررا لعدم الاجتماع، اجتماع قيادة طوال عشرة أشهر.. اثنان يخالفان سبعة، لماذا لا تجتمع القيادة، وتبت، وتأخذ قرارات بالأكثرية، وتفرض قراراتها؟. سيقال لكم ان المسألة ليست بهذه البساطة: هناك الحكم، والحزب لم يكن مسيطرا كل السيطرة، وبالتالي القرار الذي يتخذ بالأكثرية في القيادة لا ينفذ في الحكم، ويمكن بعد هذا الحل السليم لحل المشاكل كي نلف ونحتال ونتهرب فنتخذ قرارا ونقول للحكومة وللمجلس هذه سياسة الحزب.. طالما هناك اثنان يخالفان رأي الآخرين، فلا موجب لاجتماع القيادة. هذا مريح جدا كي لا تكون هناك قيادة وقرارات، بل كتلة افراد يجتمعون حسب أهوائهم. ومنظمة العراق، وهي أعلى مستوى تنظيمي، بقيت عدة اشهر بلا توجيه، بلا نشرة، بلا انتخابات، ففرضت القيادة نفسها بدون شرعية.. فأين الشرعية التي يتذرعون بها؟.. ولكن عندما اصبح الحزب حاكما لا تجري انتخابات، والقيادة لا تجتمع، بل الافراد كل واحد يعمل على هواه، فإنني ايها الرفاق، اقول لكم بأننا، وأنا شخصيا، كنت اشعر بالخوف والقلق والذعر على مصير الحزب في العراق. كنت اعتز بحزبنا في العراق قبل 14 رمضان اشد الاعتزاز، وهذا معروف لدى الجميع، وكنت اعتبره الحصن الحصين للحزب في جميع الاقطار. ولكن بعد 14 رمضان بدأت اشعر بالقلق للتصرفات الفردية الطائشة.. رأيت ان المستوى ليس مستوى قيادة بلد وشعب، بل كان متناسبا مع ظروف النضال السلبي، وكم مرة صارحت الرفيق حمدي خاصة بذلك، ولأنني اعرف رصانته، بمخاوفي هذه، ولذلك طلبت من القيادة القومية السابقة ان تسارع الى عقد مؤتمر قومي في 17 أيار. اتفقنا على ذلك -أي بعد 14 رمضان بثلاثة أشهر ونصف ولكنهم جاؤونا في 15 ايار ليقولوا انهم لم يستطيعوا إجراء انتخابات-  كانت هناك مشاكل أخذت بوادرها تظهر، وأخذت تشير الى ان هذا المستوى من القياديين لا يكفي لكي يحسن تسيير الثورة الى الشاطئ الأمين. ولأن هؤلاء الرفاق لم يعودوا يسمعون رأيا او نصيحة من احد، ولا من القيادة القومية، أعلى قيادة في الحزب. فكانوا بكل صراحة يقولون انهم في غنى عن أي رأي آخر، وكل رأي يقابل بالاستخفاف. قلت لهم: ان الرأي العام العالمي لا يُستخف به، وان الرأي العام العربي يجب ان نهتم به. كنا نسمع: وماذا يهم ذلك علينا في العراق؟.. ولكن كيف كان يساس العراق؟.. بالارتجال، بالاعمال الفردية، وبدون جد.. وأنا افهم من الثوار ومن الثورة ان يقضوا الخمس سنوات الاولى في سهر دائم، ان لا يأخذوا نفسا في السنوات الاولى، ان يناموا ويقوموا في مراكز عملهم، حتى لو لم تكن لهم الكفاءة والخبرة المطلوبتين، انما الغيرة الثورية اذا كانت جدية فتقتضي بهذا.. لم نشاهد شيئا من هذا بالعراق، بين اخواننا، فاغتروا بالنصر. ويجب ان نصارح بها انفسنا.. وطالما ان القيادة القومية لا يُسمع رأيها، والزمالة ليس لها حساب ايضا، فلم يبق الا العودة الى المؤتمر القومي. ضغطنا على إخواننا مرة ثانية وثالثة بان يجروا انتخابات حتى نعقد المؤتمر القومي، ووافقوا على ذلك، وأجريت الانتخابات وخرج منها مؤتمر قطري، ولأول مرة في تاريخ الحزب تبتدع بدعة بأن تجرى الانتخابات على دفعتين، فانتخب مؤتمر عام من (54) عضوا، وهذا بدوره انتخب سبعة وعشرين عضوا. أهذا أصولي ونظامي جدا؟ أما دعوة المؤتمر القومي في ظروف رهيبة فهو عمل فردي من قبل الأمين العام.. وأخيرا اجتمع المؤتمر القطري..

 

ايها الرفاق

هناك اعضاء القيادة القومية السابقة، بعضهم تواجدوا هنا في هذا الاجتماع، ويشهدون على القلق الشديد الذي كان يساورنا من استمرار هذه السياسة وهذا الاسلوب، وليسوا هم وحدهم، لا بل وجدت من واجبي ألاّ اترك القيادة في سوريا.. فالحزب واحد والمصير واحد، وما يصيب العراق يصيب سوريا بالدرجة الاولى، فدعوت بعض اعضاء المجلس الوطني الى اجتماعات، وهم حاضرون بينكم، وكنت احذرهم، واقول لهم باننا يجب ان نبادر الى تفادي النكسة قبل وقوعها، يجب ان ننصح اخواننا وان نردعهم، وان نعاونهم ونكمل ما في تجربتهم من نقص، لان استمرار هذه الاخطاء سيزيد في عزلة الحزب والحكم.

في المؤتمر القطري العراقي تكلمت، وحذرت، وكلمتي كتبها بعض الرفاق هناك.. حذرت من هذه الاخطاء، ولكن ربما قصرت ولم استعمل الكلمات القاسية الجارحة، ولم اصرخ بكل صوتي في البعثيين ان يتداركوا حزبهم وثورتهم وقضيتهم، كي لا تضيع.. قصرت، لم أتكلم بهذه الصراحة، وإنما أشرت الى الأخطاء، وقلت ان الحزبي الأصيل يستطيع ان يتغلب على هذه الاشياء ويتداركها، ولاحظنا في المؤتمر أسلوبا غير سليم، لا يدعو الى الاطمئنان. لم يكن مؤتمر حزب بعث، اذ لم اعرف مؤتمرات كهذا، بل كان برلمانا للمرافعة، لتسقط الهفوات اللفظية، للمحاسبة على شكلياتها، كما في المحاكم او البرلمانات، حيث التكتل والاحزاب المختلفة. ولم نر كلاما صريحا الا من القلائل جدا، ومن جهة واحدة.. لاحظنا بعض اعضاء القيادة القطرية او اثنين، حدثتكما عنهما بانهما كانا يخالفان السبعة الآخرين، وينتقدان هذه الأساليب والأعمال من أشهر. لاحظنا روحا تنذر بالخطر: إنهما يحرضان العسكريين على الحزب، ولذلك لم نسترسل في انتقاد الأخطاء وفي شرحها الشرح الكافي، لكي لا تستغل ضد الحزب، وقد حذرت هذين العضوين اثناء المؤتمر، ونبهت بعض الرفاق العسكريين، وخاصة الرفيق البكر، ذهبت الى مكتبه اثناء المؤتمر واجتمعت به بحضور رفيقين من القيادة القومية وكان كلامي في ساعة او اكثر ينصب على الفكرة التالية: الحزب اولا.. هذا الحزب لم يرتجل في يوم، ولم يصنع في يوم او سنة،.. هذه حركة تطلبت سنين وسنين حتى تأسست وفرضت نفسها من خلال الصبر والثبات والتضحيات وسقوط العديد من الشهداء، فليس كل يوم تصنع الأمة العربية حزبا بهذا المستوى، ولذلك يجب ان تنتبهوا، فلا يجوز الاستعانة بقوة من خارج الحزب على الحزب، بل يجب معالجتها ضمن الحزب.

 

أيها الإخوة

ورفاقنا يشهدون وسيقولون لكم ذلك،كنت اقول لهم اخطاء الرفاق هي افدح بكثير من تآمر الآخرين، لانها هي التي ستدفع الى التآمر، وتبرره. فالحزب اما ان يكون فعلا قد وصل الى الثورة وحققها عن جدارة، فعليه ان يحمي نفسه ضد كل المتآمرين، عليه ان لا يترك لهم ذريعة ليطعنوا به، والا فيكون وصوله غير طبيعي، وفي غير أوانه، لأنه لم يحقق المستوى القيادي اللازم لقيادة ثورة وشعب، وهي تختلف عن قيادة فِرَق وشُعَب.. كنت أقول لهم، هؤلاء الرفاق، كنت احدثهم عن نضالهم، وطالما سمعوا إعجابي بهؤلاء الرفاق، وبنضالهم السابق، ولكن ما العمل؟.. انهم لا يبرهنون عن جدارة في الحكم، وفي تحمل المسؤوليات في مرحلة البناء والثورة.. ليس عندهم الشروط لذلك، وانا اتمزق بين وفائي لهم ولماضيهم، وبين خوفي وقلقي من حاضر أعمالهم.. فعليكم انتم ان تساعدوني في الضغط عليهم، لكي يلتزموا ويتوقفوا عن هذا الاسلوب.. وفي المؤتمر القومي بقيت لنا فرصة أخيرة، وكنت اقرب الى التشاؤم في هذا المؤتمر، وقبل ان يبدأ، لأني لمست شيئا في اسلوب هؤلاء الرفاق تكرر و تكرر، فعرفت ان اسلوبهم هو التأزيم المتزايد.. التأزيم، اذا حققوا نصرا فيزدادون امعانا في الاخطاء نفسها، امعانا وغلوّا، بدلا من ان يستفيدوا من الدروس، وان يجعلوا هذا النصر للحزب. ولكنهم بدلا من ان يعتبروا ويبدأوا صفحة جديدة، ويحاولوا ان يروا نصيب الحقيقة في آراء خصومهم -لان كل معارض عنده نصيب من الحقيقة- بدلا من ان يضعوا الحزب فوق اشخاصهم، بدلا من ان يفتحوا صدورهم ليتغلبوا على عاداتهم، وليرعوا ذمة الحزب ومصير الحزب، وليغيروا من الأعمال المتطرفة التي اساءت وعزلت الحزب.. كل هذا لم يحدث، ولم يغير الرفاق شيئا من أسلوبهم بعد المؤتمر القطري، لان التصويت دل على عدم رضى كامل عن مثل هذه السياسة، ومثل هذه القيادة.. وكانت القيادة القومية بالقياس الى ما قبل الثورة تخص الحزب في العراق بنسبة كبيرة من التمثيل في المؤتمر القومي، بنسبة نضاله، وكان له رجحان وعدد كبير من الممثلين، واستمرت القيادة القومية على هذا المنوال، واعطت الحزب في العراق 25 ممثلا، بينما أخذت سوريا اقل من ذلك بسبعة مقاعد.. وتعرفون -ايها الرفاق- مرضا آخر من امراض العقلية الضيقة: هو ان هؤلاء الرفاق جعلوا العضوية في العراق بالحزب أشبه بالعضوية في الجمعيات السرية، فكان حزب البعث يضم الآلاف من شباب العرب في العراق من المناضلين الذين تعرضوا الى التجارب، ولكن هذه الآلاف حرمت من حق العضوية، وتحصر في مئات فقط.. وهؤلاء يحكمون الملايين في العراق، في حين انه لا يمكن ان تخرج إرادة صحيحة من هذه الفئة السرية. لا.. ليس هذا من روح نظام حزبنا.. ولكن هذا كان الواقع في المؤتمر القومي.. جاء رفاقنا بنسبتهم الكبيرة في التمثيل، ونعرف ايضا بان لهم في سوريا من هم متأثرون بهذا الاسلوب الى حد ما.. كان منتظرا اذن ان لا يؤدي المؤتمر القومي الى حل صحيح وجدي لأزمة الحزب، ومع ذلك بذلنا الجهود. وقد نبهت بعض الرفاق في الايام الاولى للمؤتمر الى ذلك، وطلبت منهم ان يتكلموا ويقولوا ما يعرفونه عن هذه الاخطاء كي يستطيع أعلى مؤتمر في الحزب ان يجد حلا. وتكلمت كثيرا في هذا المؤتمر، وحذرت كثيرا، وقد عدت لأقرأ الكلمات التي قلتها في المؤتمر القومي، الا انها كانت ضائعة، والتسجيلات التي سجلت في المؤتمر القومي لا اعرف ماذا حل بها.. قلت للمؤتمر القومي ان هؤلاء الرفاق ناضلوا وتعبوا، ولكني اشرت بوضوح الى اسلوب دخيل عن الحزب، او هذه هي قناعتي، سأقولها دائما، هذا أسلوب تكتل واحتراف لصنعة استغلال النظام الداخلي.. خذوها مني هذه الكلمة: صنعة وحرفة، بشكليات وفقهيات وبيزنطيات، لا يعقل ان يتحول البعثيون الى اشخاص من هذا النوع، وهم يستلمون مقدرات الملايين من أبناء امتنا، والأمة تنتظر تجربة البعث لكي ترى هل هي جديرة بالحياة؟.. ثم بعد اصابتنا بالنكسة تستمر هذه الشكليات بالمماحكة، كي ينفردوا بالسلطة، بالقيادة، لكي يطمس الرأي المعارض والمخالف، لكي تطمس الحقيقة.. ماذا حل بنا حتى نصل الى هذا المصير؟. أسلوب هجين غريب، فقد بدأ حزبنا بالصدق والبساطة ولا يستطيع ان يستغني عنهما هذا الحزب، هذه العقيدة البسيطة التي سمعت في الأشهر الأخيرة من التهكم عليها، ومن التعريض بها، ما يدمي القلب من كبار القياديين.. هذه العقيدة بفضلها وصلتم الى القيادة والحكم، لان الشعب العربي حينما أعطاكم الثقة، أعطاكم إياها بالنسبة للكلمات البسيطة التي عبرت عن عقيدة الحزب لا للتكتل والسرية. حذرت في المؤتمر القومي بكل محبة، وفي اعتقادي وضميري ان المحبة فوق كل قيمة. البعث هو اشتراكية علمية زائد روح.. لذلك راجعوا كلماتي في المؤتمر القومي. خاطبت هؤلاء الرفاق بكل محبة، ولم يُجدِ ذلك. كنت اقول لاعضاء المؤتمر القومي، بالحرف الواحد: إني وضعت عمري في هذا الحزب، ومن الطبيعي الا اطمح الا الى ان أرى الحزب ينمو وينجح، نجاحا صادقا، لذلك فاني اقلق وأحذر. اقول لهم عليكم ان تسألوني. وفي اليوم التالي قلت خلاصة تجربتي، وخلاصة تحذيراتي. ولما حان موعد انتخاب القيادة القومية الجديدة، ورُشحت، قمت واعتذرت.. وكان الكثيرون في المؤتمر القومي يعرفون من أيام انعقاد المؤتمر بأنني لن ارشح نفسي.. لأنني سأُستغَل كستار لا أكثر، لأنني لم ألمس أي تراجع عن الاسلوب، بل لمست الاسترسال والتمادي.. وانا اعرف بانهم سيرشحونني، وسينتخبونني بالإجماع لحاجتهم لي. ولماذا أساعد على إخفاء الحقائق عن الحزب؟.. واعتذرت، وحدث الضغط علي من كل جانب، ومنهم -من هؤلاء الرفاق انفسهم- من يعلم بان المؤتمر يفشل، وان الحزب ينقسم، وان.. لا اعلم ماذا يحدث؟ فأصغيت وسكت، وذهبت وبقيت يومين في حالة من التمزق، وأنا أرى الاخطار، فكيف أنبه الحزب؟.. استقالتي كانت واجبة، او اعتذاري عن الترشيح كان واجبا. ففكرت في الاستقالة واعتذرت يومين عن حضور الاجتماع، وتأخر الاجتماع، ثم ذهبت وبقيت ساعة او ساعتين، واعضاء القيادة ينتخبون وانا صامت ذاهل: أبقى او لا أبقى.. ومن ثم صارحتهم. قلت لهم ان هذه القيادة خرجت نتيجة تكتل، واذا كان هو الذي سيقود الحزب فسينهار، لان التكتل يغلب عليه العصبية وروح التكتل، اما اذا استطاعت هذه القيادة، رغم خروجها عن التكتل، ان ترتفع الى مستوى المسؤوليات، وان تنسى انها متكتلة، فأنا مستعد، والا فدعوني وشأني.. ويعرف بعض الرفاق أني فكرت في السفر بعيدا، كي يتساءل البعثيون في كل مكان عن سبب انسحابي وسفري.. قلت لهم: ليس من السهل ان يترك واحد مثلي حزبه. لذلك عندما أكدوا لي بان القيادة لن تعمل بروح تكتل بل بروح المسؤولية تابعت العمل... وفي جلسة تاريخية، قبل احداث العراق بأيام معدودة حضرها كل اعضاء القيادة عدا الرفيق البكر، اجتمعنا يومين، ساعات وساعات، ليلا ونهارا، وعالجنا مشكلة العراق.. وطرحت أسئلة على الرفاق، وقلت لهم، ان جوابكم عليها سيكون تاريخيا: هل هناك احتمال انقلاب ضد الحزب؟.. فكان الجواب: لا.. لا يوجد واحد على ألف من هذا الاحتمال.. لم يكن هناك اي شيء يخفى من تآمر عارف.. كل هذا كان معروفا او مفترضا، وهذا واجب القيادة ان تفترض ان المؤامرات لن تنتهي. فالجواب كان من البعض بالتردد، ومن الآخرين بالنفي، وهؤلاء الرفاق كلهم حاضرون..

 

ايها الرفاق

لن أذكر امام هذا العدد من البعثيين.. امام هذا العدد من المواطنين العرب -بصرف النظر عن كونهم بعثيين- فانهم مواطنون عرب، بشر، لن اذكر امامهم كل ما قيل بحقي من افتراءات واتهامات بعد نكسة العراق من رفاقي في الحزب، وفي القيادة القومية، وفي قيادة العراق، كانوا في المؤتمر القومي الأخير، وكانوا في السنين الماضية يقولون عني أشياء، وحتى في المؤتمر القومي الأخير قاموا وذكروا اشياء نسبوا الي الفضل فيها بدون ان أستحقها.. ولكن هذا الأسلوب، ليس المهم ان اجرح شخصيا، المهم هذه العقلية، والشريعة العجيبة التي تجيز مثل هذه الاحكام والتبدلات السريعة والمفاجئة، بالأحكام على الأشخاص.. التي تجيز في حزب يضم عربا ويضم أناسا أسوياء.. هذا الأسلوب الذي يجيز أن يتهم شخص بلغ الرابعة والخمسين من العمر، وقضى في هذا الحزب أربعا وعشرين سنة منذ اللحظة الأولى لتأسيسه، واستعد سنين قبلها للقيام بهذا العمل، ان يقال بحقه من الافتراءات ما لا يقال، وذلك فقط، لأني كنت دائما ومنذ أشهر عديدة أنبه بمحبة، وبدون ان أجرح أحدا، واقسى كلمة قلتها: " الطيش، الارتجال"، كنت اقولها لتألمي على هذا الحزب.. لا أعلم ماذا سيقول الشعب البسيط عندما يجد ان حصيلة أربع وعشرين سنة في هذا الحزب المنظم هي هذه الطعون والتهم والمكافآت الرائعة التي تقدم لشخص يعرف -قبل اي انسان آخر- انه بسيط متواضع.. بل عربي وبسيط أراد ان يتحدى كثيرا من الاشياء في هذا الوطن. كل ما قلته اقتنعت به، وصلت ثقافتي الى هذا الحد، ووقفت عند هذا الحد.. وأقولها صادقا: إني اعرف نفسي وحدود إمكاناتي، ولكن أعرف نفسي أني صادق.. وقلت للشبيبة التي وجدت في الصدق ان لدي ايضا نواقص كثيرة ومواطن ضعف، ولولا إيماني بالله.. إني أؤمن به، وذكرت ذلك في كتاباتي.. الايمان بالله.. بالأمة العربية.. بالشباب العربي.. الذي أعطاني الثقة وأكثر مما استحق.. تغلبت ولم أيأس، بل تابعت الطريق الى هذه السن.. هذا، بكل بساطة، ما اريد ان يُعرف عني اذا عاش هذا الحزب، وسوف يعيش لانه صادق، وفيه بذرة صدق تكفي لإنقاذ امة.. اعرف كل شيء.. اعرف الظروف القاسية وما طرأ على الحزب من تشويه.. اعرف، ولا أحب ان استرسل أكثر من ذلك، ولكني أقول ان الذي يعيش بين عشرات ومئات وألوف من شباب العرب ربع قرن او اكثر -وكنت قبل تأسيس الحزب ومنذ صغري مؤمن بهذه المبادئ- وأبي قبلي كان وطنيا وتعلمت منه الوطنية، وهذه ولأول مرة أذكرها في حياتي.. أقول لكم، أيها الرفاق، من قضى العمر في خدمة العقيدة لا يخاف احدا ولا يهاب احدا.

2 شباط 1964

(1 ) كلمة أولى في المؤتمر القطري السوري الاستثنائي في 2 شباط 1964.

(2) عقد اجتماع القيادة القومية المقصود هنا مساء 10 كانون الثاني 1964، وحضره 9 أعضاء من أصل 13.

 

الصفحة الرئيسية للجزء الرابع