ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الرابع


كلمة في مهرجان نصرة احرار اليمن المحتل

 

ايها الاخوة العرب

عرفت عدن، هذا الجزء النائي العزيز من الوطن العربي، وهي القطر العربي المحتل من قبل الاستعمار البريطاني، عرفت حركة شعبية منظمة تمثل تجربة من أغنى التجارب الثورية العربية، فلقد نشأت فيها حركة عمالية مناضلة، لم تلبث أن توسعت وشملت الحركة الوطنية كلها واندمجت في هذه الحركة الأهداف الوطنية للشعب مع الأهداف الاجتماعية. ثم لم تلبث هذه الحركة أن تجاوبت مع الشعارات العربية الثورية في الأقطار العربية الأخرى. ومنذ سنة 1956 كانت الحركة الشعبية في عدن ترفع شعارات الوحدة والحرية والاشتراكية.

عرف هذا الجزء المناضل النائي من وطننا الكبير نفس المشاكل التي مرت بها الأقطار العربية الأخرى فوجد من شوه الحركة القومية في عدن والجنوب وأراد أن يجعل من حركة التحرر والاستقلال سبيلا إلى الانفصال وترسيخ التجزئة بدلا من أن تكون معركة الحرية جزءا لا يتجزأ من معركة الوحدة والحرية، ولكن ارتباط الحركة الشعبية بالشعارات الثورية في الأجزاء الأخرى من الوطن العربي قد حمى هذه الحركة ضد الانحراف ومنع هذا النضال الجبار من أن يتورط فيما أراد له الاستعمار من استمرار للتجزئة تحت ستار الاستقلال المحلي، فتهافتت دعوة القائلين بكيان الجنوب العربي، وتغلب الشعار الثوري الصحيح الذي يربط معركة الحرية في مناطق الجنوب بمعركة الاشتراكية ومعركة الوحدة، أي إعادة انضمام جنوب اليمن إلى شماله.

وقد عانت عدن في الآونة الأخيرة من القمع الاستعماري الوحشي ما لم تعرفه في كل تاريخها مع الاستعمار البريطاني وهذا مظهر من مظاهر النكسة التي شجعت الاستعمار والرجعية والشعوبية بأن ترفع رؤوسها من جديد في الأقطار العربية، لا بل في المنطقة كلها. و لا بد من اجل وعي الظروف العربية الجديدة، ومن اجل تهيئة الشروط للتغلب على ما فيها من ضعف ونكسات، لا بد من نظرة سريعة نحلل بها بوادر وأسباب هذه النكسة. فقد بدأت النذر الأولى من النكسة في الأردن لما تجرأ الملك حسين وقام بحملة اعتقالات ضد حزب البعث العربي الاشتراكي يشجعه في ذلك مهادنة العناصر القومية الأخرى له. فقد رافق اعتقاله للبعثيين إفراجه عن الذين كانوا يشكلون مع البعث العربي الاشتراكي صفا واحدا في الماضي من قوميين عرب ومن جماعة الحزب الوطني الاشتراكي، فاعتمد الملك في هذه الضربة على تفرّق الصف العربي الثوري. وتبع هذه الظاهرة حوادث القمع والإرهاب في المغرب فبطش الملك الحسن بمناضلي الاتحاد الوطني للقوى الشعبية والذين يمثلون وحدهم في المغرب، في وسط النزعات والاتجاهات الرجعية والإقليمية والشعوبية، فكرة العروبة الثورية ويربطون بين نضال الشعب العربي في المغرب ونضاله في الشرق، ويربطون بين الأهداف القومية الكبرى في الوحدة والحرية والاشتراكية، كذلك فقد استغلت الرجعية المدعومة من الاستعمار الثغرات التي ظهرت في الصف العربي فافتعلت حرب الحدود مع الجزائر في بقعة تمركزت فيها مصالح الشركات الاحتكارية الاستعمارية، وبعد ذلك بقليل تمكنت العناصر اليمينية ومن يحتمي ورائها من مصالح رأسمالية وطنية وأجنبية وبمساعدة وبتشجيع من أجهزة القاهرة، من أن تضرب الحكم الوحدوي الاشتراكي الذي كان يمثله حزب البعث في العراق، مستغلة أخطاء وانحرافات قياديي الحزب الذين أصابهم الغرور بعد الانتصار التاريخي الذي حققه حزب البعث في ثورة الرابع عشر من رمضان، فاستسلموا للأهواء الشخصية والتصرفات الفردية، فقاموا بأعمال طائشة أو شاذة وسكتوا عن مثل هذه الأعمال التي قام بها غيرهم، أو تركوا العناصر الدكتاتورية واليمينية تورطهم فيها دون أن يقدّروا خطر ذلك. وهكذا شملت النكسة العراق بعد أن كان على أبواب وحدة عربية سليمة الأسس تحمي عروبته من خطر الشعوبية وتآمر الرجعية ومآسي العهود الفردية الدكتاتورية.

لقد شبه الكثيرون أحداث الثامن عشر من تشرين الثاني 1963 بحدث الانفصال في الثامن والعشرين من أيلول عام 1961، ولئن حاول المسئولون عن انتكاسة الوحدة في ذلك الحين أن يتنصلوا من المسئولية، ويلقوها كلها على الذين قاموا بمؤامرة الانفصال، فإن حزب البعث العربي الاشتراكي وشعورا منه بأنه ملكا للشعب العربي بأسره وللأجيال العربية الصاعدة وبأنه لا يمثل مصلحة إقليم معين أو زعامة لأفراد، وبأنه بعيد عن الاعتبارات التي تقيد غيره وتمنعهم من مصارحة الشعب ومن ذكر الحقائق، فالحزب بكل شجاعة يصارح الشعب العربي بالأخطاء ونواحي الضعف التي وقعت فيها قيادة الحزب في العراق وتعذرت معالجتها ووضع حد لها قبل أن تؤدي إلى النكسة، أعني الغرور والفردية وإخفاء الحقائق عن قاعدة الحزب وعن مؤتمراته العليا، فالحزب يدينها ويدين تصرفاته الغريبة عن عقيدته ونضاله، ويعتبر ذلك شرطا أساسيا للمحافظة على سلامة تكوينه ليبقى دوما جديرا بحمل رسالته التاريخية.

إن هذه المظاهر المتعددة للنكسة العامة التي أصابت النضال العربي والتي كانت حوادث القمع الاستعماري الغاشم في عدن آخر مظاهرها حتى الآن، إنما تعود بالدرجة الأولى إلى ذلك الانقسام الهدام المفتعل الذي فرضه نظام الحكم في القاهرة على الثورات العربية بدافع الاستئثار والتعصب والنظرة الفردية والإقليمية التي لا ترى للثورة العربية إلا صورة واحدة ضيقة جامدة لا يمكن أن تتسع لما تتفجر به الأقطار العربية من تجارب ثورية غنية، ولكن لها مظاهر متعددة تنبع من التجارب الصادقة الأصيلة التي يولدها نضال الشعب العربي وانطلاقته التاريخية ضد الاستعمار والاستغلال وضد التجزئة، وضد كل مظاهر التخلف والتعصب والعبودية في الداخل والخارج، وليست هي شيئا يفرض من فوق بواسطة السلطة والحكم. فلقد أدت هذه النظرة الفردية الإقليمية الضيقة إلى تبديد القوى والطاقات الثورية والى تضييع ثمرات نضال طويل وتضحيات جسيمة قدمها الشعب العربي وطلائعه المنظمة في مختلف الأقطار.. وكان الحس الشعبي الصادق والمنطق القومي السليم يتوقعان ويتطلبان أن تلتقي القوى المناضلة وتتجمع وان تلتقي التجارب الثورية وتتفاعل، وألا يقوم أي عائق في وجه هذا التلاقي وهذا التجمع والتضامن والتوحيد مهما تكن العقبات والصعوبات، ومهما يقدم من ذرائع وأعذار.. ولكن الذي حدث أن السياسة التي اتبعتها البيروقراطية الإقليمية اللاعقائدية والتي تحكم القاهرة كانت مع الأسف سياسة إقليمية توسعية قصيرة النظر تخطط وتعمل لإضعاف الأقطار العربية الأخرى لتبقى هي المتفوقة والمسيطرة، فلا تقوم ثورة إلا وعملت هذه الأجهزة على ضربها وانتكاسها متجاهلة أن ضعف الأقطار العربية الأخرى ينعكس عليها ويضعفها، ومتناسية أن الأعداء الذين يتربصون بالأمة العربية ويتآمرون لإجهاض نهضتها وقتل مستقبلها ما زالوا أقوياء، لم ييأسوا ولم يلقوا السلاح.. فلا الحس الشعبي الصادق يتقبل، ولا المنطق الثوري يجيز أن تتحالف ثورة عربية مع النظم الملكية العميلة ضد ثورة عربية أخرى ولا أن تتحالف مع الشعوبيين والعصاة والانفصاليين ضد ثورة تؤمن بالوحدة والحرية والاشتراكية، ولا احد يصدق أن القطر الصغير المتواضع الإمكانيات هو الذي أراد أن يسيطر ويتحكم وهو الذي فرض الانقسام والفرقة وهو الذي أرسل الدعايات المسمومة والافتراءات والأضاليل تملا الجو العربي من الخليج إلى المحيط حقدا وكراهية وانقساما، في الوقت الذي يعرف العرب وقادتهم وحكامهم أن العام الجديد يخبئ لهم أخطر مؤامرة على وجودهم القومي منذ نكبة فلسطين قبل 15 عام، ألا وهي مؤامرة تحويل مجرى الأردن.

 

26 كانون الاول 1963

 

الصفحة الرئيسية للجزء الرابع