ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الرابع


البعث تعبير عن فكار الجيل العربي الجديد

 

في الواقع لم يبق لي ما أقوله بعد كلام الرفاق الا القليل(1) لأني وجدت أفكاري وخواطري متمثلة في ما ورد في هذه الجلسة من كلمات، وهذا في نظري وبالنسبة اليَ شيء مطمئن ومريح يؤكد شعورا ليس بالجديد عندي وهو انني استطيع ان اطمئن الى مستقبل الحزب، والى دوره الطليعي المستمر.

المهم ايها الرفاق هو ان نكون في مستوى الظرف التاريخي الذي يعيشه حزبنا وتعيشه امتنا الآن.. ان ننظر بصفاء وموضوعية الى الحاضر والمستقبل. المهم ان نعترف بمشروعية الحاجة العميقة الملحة في حزبنا، وعند شعبنا الى التجديد، والى تجديد هذا الحزب بالذات، في فكره وتنظيمه ونضاله، لانه ملك للأمة العربية وللمستقبل العربي، وليس ملكا لفرد او افراد ولا حتى ملكا لأعضائه المنتمين اليه. هو تعبير عن مصلحة شعب، وعن مستقبل امة وحضارتها وعن مصلحة الانسانية اذا جاز القول. لاننا جزء اصيل واساسي من الانسانية، شرط ان نحرص علي المستقبل -فالمستقبل هو الاساس- وان الماضي جزء من هذا المستقبل وصلته به وثيقة، وان نحن في ظرف تاريخي خطير يجابه حزبنا بتحدّ ليس كالتحديات، يخوض معركة ضد اعداء كثيرين ليس اقلهم شأنا ووزنا وخطرا، ذلك الاتجاه المشوه الثورية، والذي غدا مزيّفا للثورة والثورية. وعلى حزب البعث العربي الاشتراكي ان يصمد في هذه المعركة، ولا يصمد الا بالعمل الايجابي، الا بالبناء، الا بتحقيق الثورة، وبالسير دوما الى الامام. فمن هذه الزاوية وعلى هذا المستوى، وفي هذا الجو، كل تجديد يحظى، او يجب ان يحظى بالتأييد. فالثورة لا تستطيع ان تنتظر ولا ان تتجمد، والخطأ جائز ويمكن ان يُصلح، ولكن الجمود هو الخطر الكبير الذي يجب ان نتحاشاه.

 

ايها الرفاق

في هذا البحث الفكري العقائدي، ومن خلال اقوالكم، ظهرت ملاحظات وانطباعات وتقديرات، هي صحيحة وعميقة وواقعية، اذا جمعت بعضها الى بعض وتكاملت. فالحزب بحاجة الى تجديد، ولكن للحزب اسماً وماضياً وتاريخاً، ولا يمكن ولا يجوز ان يُبتر وان يُنسى. كما ان لهذا الشعب الذي وُجد الحزب من اجله، اسماً وماضياً وتاريخاً. واذا ظهرت في أقوال بعضكم بعض المخاوف فهي ايضا مشروعة، ويجب ان ننظر اليها في تروٌ وبجدية ودون استخفاف. فبعض المنطلقات الفكرية قد تؤثر على شخصية الأمة نفسها، على وجود الأمة، وعلى وجود الشعب نفسه وعلى قوميته اذا لم ندقق ونتروَ في صحة ودقة هذه المنطلقات.

كذلك في بعض المنطلقات الفكرية، او بالأصح كل منطلق فكري له نتائج عملية، اخلاقية، بالاضافة الى النتائج الاجتماعية والسياسية، وانه ينعكس على أسلوب العمل وعلى اخلاقية العمل. فالشيوعية لها اخلاقها الخاصة بها والذين تثقفوا بالماركسية لهم نظرتهم وسلوكهم المتأثر بهذه النظرية وهذه الفلسفة.. ولشتى الانظمة أساليب في العمل والاخلاق خاصة بكل منها. وامامنا نظام عبد الناصر الذي لم يعط في اعماله وممارساته، وفي علاقاته بالقوى التقدمية الثورية، ومن خلال اجهزة اعلامه، صورة صادقة ونموذجا محببا للأمة العربية وللمستقبل العربي.

كذلك ايها الرفاق لا تنسوا ان حزبنا عندما تأسس قبل ثلاث وعشرين سنة لم يظهر في الصحراء ولم يظهر من العدم وانما وُجد في ظروف تاريخية، ووُجد في بلاد معينة وفي زمن معين، تنمو فيه حركات واحزاب عالمية، تصطرع فيها المذاهب الاجتماعية. وكان الذين بدأوا هذه الحركة، هذا الحزب، يتفاعلون مع معطيات تلك المرحلة، وهنا لا بد ان اقول ما كنت دوما أكرره طوال تاريخ الحزب بان هذه الحركة -حركة البعث- ليست من عمل فرد او افراد، هي صنع جيل عربي، حتى في الفكر نفسه كان التفاعل مستمرا بين اعضاء هذا الحزب منذ بدايته. والفكر الذي سجل في الاحاديث الحزبية وبعض الكتابات الحزبية لم يكن في الواقع اجتهادا شخصيا، بقدر ما كان ترجمة لافكار هذا الجيل. ولعلكم تلاحظون في الكتابات -في كتاباتي انا شخصيا- بأني ما استعملت قط ضمير المتكلم المفرد، وكل الكتابات تتكلم باسم الجيل العربي الثائر، وهذه حقيقة ظاهرة.

كنت اقول بأن هذا الحزب ظهر في زمن معين، في مكان معين، وظهرفي وقت كانت فيه الشيوعية ترشح نفسها كحركة ثورية وحيدة في العالم، وفي البلاد العربية ايضا. ومن البديهي ان أمة تعيش في مرحلة ثورية لا يمكن ان تنحاز او تتبع الحركات الوطنية التقليدية التي كانت قائمة اذ ذاك، او الحركات الدينية او الحركات الاقليمية المصطنعة.. وكل ذلك التفكير السقيم المتخلف الذي كان سائدا في ذلك الوقت والذي كان ينكر المشكلة الاجتماعية ويتجاهلها عمدا وتآمرا منه على مستقبل الأمة.. فكان من الطبيعي اذن ان تلقى الشيوعية التأييد، وان تعتبر المنقذ، ما لم تظهر من اعماق الأمة العربية ومن صميم روحها ومصلحة شعبها والطبقات المحرومة منها، ما لم تظهر الفكرة، العقيدة، الحركة التي تعبر عن الحاجات الثورية الجديدة وتواجه الحركة الشيوعية بما يحفظ للأمة العربية شخصيتها وتوازنها ومستقبلها الحضاري، اذ لا حضارة مع التقليد والتبعية.

هذا ما حققته حركة البعث العربي او ما استهدفت تحقيقه بظهورها، مدفوعة ومحمولة على سواعد الشباب العربي المناضل، كان ظهور الحزب اذن، بحد ذاته تحديد موقف من الشيوعية، موقف رفض، دون ان يكون هذا الموقف رفضا اعمى او رفضا كليا او رفضا سلبيا، لان الذين وضعوا الاسس الاولى لهذا الحزب كانوا ممن درسوا الفكر الماركسي وأعجبوا ببعض نواحيه وبكثير من نواحيه، وكانوا في الوقت نفسه ابناء زمنهم وابناء بلدهم وأمتهم، فلم يتجمدوا عند الصيغة الاولى للماركسية بل اطلَعوا وشاهدوا أكثر الاعتراضات التي وجهت الى الماركسية سواء من ضمنها او من الاخرين وشاهدوا واطلعوا على الردود والتكذيبات العملية التي أتت بها الاحداث كدليل على خطأ او نقص في التفكير الماركسي.

وكل ذلك ما كان يبدو كافيا، لو لم يكن لهؤلاء الاشخاص صلة صادقة بأرضهم وبشعبهم ساعدتهم كثيرا على ان يتحرروا من التفكير النظري ويستلهموا الواقع الحي، فاهتدوا ببساطة وبعمق الى تلك الصيغة، وهي صيغة تاريخية، كما اعتقد وأؤمن، الصيغة التي مثلت عقيدة البعث العربي، اي ذلك الترابط بين الثورة القومية والثورة الاشتراكية. ذلك الاكتشاف الجديد لحقيقة القومية. فالقومية التي كانت رائجة وسائدة في ذلك الجو، لم تكن ايجابية في شيء، ولا جذابة في شيء، وفي هذا يكمن الخطر.. لان الشباب العربي كان مهددا ان يكفر بها، وان ينصرف الى الشيوعية تخلصا من ذلك الجمود ومن تلك المفاهيم البالية.

وكان من اهم أسباب ودوافع رفضنا للشيوعية، بالاضافة الى تجاهلها للعامل القومي، كان رفضنا لها بدافع النفور العميق، النفور العضوي، لأساليبها التطبيقية.

 

ايها الرفاق

قلت قبلاً بان كثيراً مما كنت أريد قوله، سمعته منكم في هذه الجلسة. سمعت رفيقا يسأل اين كان الشيوعيون في البلاد العربية وحتى في البلاد المتخلفة والمناضلة ضد الاستعمار والتخلف في اسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية؟؟ اين كان الشيوعيون والماركسيون انفسهم عندما دعت الحاجة التاريخية الى التحرر من هذه الامراض وهذه العقبات، عقبات الاستعمار والرأسمالية.. الخ؟؟ لم يقم الشيوعيون بدور تاريخي في هذه البلدان. وفي الوطن العربي بصورة خاصة برهن الشيوعيون وبرهن الماركسيون على فشل في فهم الواقع، وهذه ليست حقيقة بسيطة نمر بها. صحيح اننا لا نستطيع ان نتجمد عندها ونكتفي باجترارها والاعتداد بها الى الأبد. ولكن من الصحيح ايضا انه لا يجوز ان نغفلها لانها بداية تدل على شيء كثير، تدل على حقيقة ساطعة. ولا يعقل ان تفشل الشيوعية والماركسية في فهم الواقع من سنة 1940الى 1960 او 1963، ثم فجأة تصبح قادرة على فهم هذا الواقع.. وعندها نوليها ثقتنا التامة. كما وان تفكير البعث يكون صالحا لفهم هذا الواقع مدة عشرين سنة، ثم تفسد هذه الحاسة وهذه القدرة وتبطل. هذا شيء فيه تناقض.

وكما قال عديد من الرفاق، كان حزبنا منذ اليوم الاول لتأسيسه ولبدء عمله، الكثيرون من افراده -لا فرد ولا اثنان ولا ثلاثة وربما الكثيرون- الذين انضموا اليه، كانوا مطلعين على الافكار الماركسية وكانوا ينظرون اليها بحرية تامة وبدون اية عقدة وبدون اي تحرج، ولكنهم كانوا يعرفون مواقفها ايضا ويتجنبون ما فيها من خطأ.

من اهم مميزات هذا الحزب، ان فكره كان دوما فكرا حرا، فكرا منفتحا وواقعيا، ومن الظلم وعدم الفهم اتهام الحزب بالمثالية الفكرية وبالخيالية وبالغيبيات وغير ذلك. في اللجنة العقائدية شعرت بهذا التجني على فكر الحزب وعلى تاريخ الحزب، فاعترضت دون ان أغمط واضعي التقرير حقهم فيه وجهدهم المشكور. ولكني استوضحت منهم اين وجدوا الافكار المثالية والغيبية والقدرية وغير ذلك؟؟.. اين وجدوا ان الحزب كان يتجنب الصراع الطبقي؟ اين وجدوا ان افكار الحزب فيها ما يوصل الى جعله وسيطا بين الطبقات كما جاء في الصيغة الأولى للتقرير؟.. اين وجدوا في افكار الحزب ما ينفي التطور العلمي لمفهوم الأمة واشياء من هذا القبيل؟.. لقد أشرت الى ان صيغة التقرير وضعت بتسرع وبخفة، وربما بدوافع هذا الاستسهال، للطعن بماضي الحزب وبنضاله والذي، كما يبدو، قد أصبح مركبا سهلا يتجرأ عليه وينال منه اي كان.

قلت للاخوان في اللجنة العقائدية، ان هذه الافكار التي جاءت في التقرير، فيها الكثير من الصحة وفيها الكثير من النفع للحزب، وفيها ايضا تجاهل لتراث الحزب وبتر لبعض جوانبه الايجابية، وفيها بعض الغربة عن جو الحزب وجو نشأته الاولى. ان يكون واضع او واضعي التقرير العقائدي بعيدين نسبيا عن الحزب، هذا نقص، الا انهم في الوقت نفسه يمكن أن يبدوا ملاحظات قيمة قد لا يراها الذين يعيشون باستمرار في جو الحزب ويصعب عليهم ان يروا فيه أي نقص واي خلل. فالنظرة من بعيد لها حسنات وهذا ما قدرته في التقرير. ولكن النقص ايضا يجب ان نشير اليه. لا اعلم اذا كان الحزب عاجزا عن ان يضع هذه الدراسة من خلال تجربته الكاملة، وان يضعها وان يشترك فيها الذين عاشوا هذه التجربة..؟

وعلى اية حال، انه لخطأ القفز الفجائي الى افكار ومبادئ وقيم دون التمهيد لها، ودون التوقف والتوسع بالمنطلق الاول للحزب، وفي المميزات التي تميز بها حزبنا والتي كانت عاملا اساسيا من عوامل بقائه واستمراره طوال هذه السنين، ونجاحه في جميع المعارك النضالية التي خاضها، لأنني لا أعرف ان حزبنا قد فشل في معركة من المعارك. واذا ما ذكرت وحدة 1958 وذكر حل الحزب كشيء سلبي في تاريخ حزبنا وخطأ كبير، فأنا قد اوافق على انه خطأ، ولكني في الوقت نفسه اقول ان هذا الخطأ كان اعظم وأمجد من كل الاعمال الصائبة التي قام بها الحزب، وانه لم يكن خطأ بسيطا ولم يكن مجرد خطأ. اذ أن حزب البعث العربي الاشتراكي هو حزب للوطن العربي كله، وكان منتشرا في أقطار عديدة... والموافقة على حله اضطراراً في سورية او في الجمهورية العربية المتحدة آنذاك، لم يكن يعني بشكل من الاشكال ان حزب البعث قد حُل وانتهى وجوده، بل كان ذلك اعتمادا على وجوده في الاقطار الأخرى. وانه بالتالي لا يمكن ان يحل حزب البعث طالما انه موجود في العراق وفي الأردن وفي لبنان وفي شتى اقطار الوطن العربي، وهذا كفيل بإرجاعه الى الجمهورية العربية المتحدة نفسها. لقد كان حل الحزب في ج.ع. م. مجرد تسهيل لتحقيق عمل تاريخي، هو اقامة الوحدة بين قطري مصر وسورية آنذاك، واذا كان الحزب جديرا بالحياة، وجديرا بفكرته ورسالته فلن يعجز عن اعادة تنظيمه.

ان بقاء حزبنا حتى هذا اليوم واجتماعنا في هذا المؤتمر ونجاح الثورة في العراق وفي سورية لدليل على ان ذلك الخطأ في عام 1958 كان يتضمن ايضا، الى جانب الخطأ، رؤية واسعة ثاقبة عميقة، رؤية تاريخية. وان المستوى الذي ساهم حزبنا، عندما حقق وحدة 1958، في نقل النضال العربي اليه، قد عاد بالنفع على الحزب نفسه. وقد برهنت الاحداث على صحة ذلك. فالحزب الذي يقدّر الضرورة التاريخية لتحقيق بداية للوحدة العربية، لا يمكن ان يستكين للانفصال.. لقد وقف المواقف المشرفة وناضل النضال الاصيل، حتى قضى على الانفصال وحتى حقق الثورات واستلم الان مسؤوليات تاريخية تجاه الشعب العربي كله.

 

ايها الرفاق

عندما نذكّر بماضي الحزب وبنشأة الحزب لا نعني ان حزبنا في فكره وفي تنظيمه وحتى في نضاله، نضاله الصادق العنيد الدؤوب، لا نعني انه بلغ الكمال، بل بالعكس، انا أكثر الناس شعورا بالفارق الكبير بين ما تمنيناه وبين ما تحقق. كنا وما نزال نتمنى مصيرا اعلى واعظم لحزبنا. ومن ناحية الفكر اقول: بان الفكر البعثي أصيل، ولكنه بحاجة الى توسيع والى تفصيل والى صياغة علمية تنقله من هذا الشكل العفوي الذي ظهر فيه -واسباب ظهوره بهذا الشكل معروفة- فنشأة الحزب الطبيعية الصادقة جعلته مختلفا عن الاحزاب التي تنشأ بعد مؤتمرات ونتيجة مقررات وتبادل آراء. او تنشأ بعد كتابات تكتب في الغرف ووراء المكاتب. ان كل شيء كتب او قيل في هذا الحزب كتب وقيل اثناء النضال، ولم نعرف في حزبنا كاتبا لم يكن مساهما في النضال، لم نعرف مفكرا الا كان في الوقت نفسه واحدا من المناضلين الذين دفعوا من راحتهم وراحة ذويهم ثمن كل كلمة قالوها او كتبوها.

يجب ان نتذكر دوما ما هي الميزات الروحية والخلقية التي ساهمت في دعم نضال الحزب وصموده واستمراره. منذ بداية عملنا قبل عشرين سنة، ومن الأحاديث التي قيلت في بداية تأسيس الحزب والتي كانت في منتهى البساطة، لا صناعة فيها ولا براعة، حديث عن التفكير المجرد.. لعلكم تذكرونه.. كان هذا مستمدا من واقعنا ولم يكن ترفا فكريا وإنما كان يعبر عن واقع، ويعبر عن حاجة، ويعبر عن خطر، وعن مرض كان متفشيا. تعرضنا فيه للثقافة المجردة، وقصدنا الثقافة الماركسية، بصورة خاصة، والثقافة الغربية بصورة عامة. منذ ذلك الحين كنا نصطدم بنوع من الثقافة غير المتفاعلة مع واقع بلادنا وشعبنا.. تبدو انها مضبوطة، صحيحة، موضوعية، علمية، دقيقة.. الخ. ولكنها في المحك وفي التجربة تبدو انها مغلوطة وفيها نقص خطير. في ذلك الحديث تحذير من الثقافة المجردة، والمثقفين المجردين الذين كانوا يجهلون كل شيء عن بلادهم وعن شعبهم وعن تاريخهم وتاريخ أمتهم، عن تقاليد شعبهم، عن جو الشعب.. ثم يؤسرون اسراً لنظريات غريبة يمكن ان يكون فيها فائدة عظمى لقضيتنا وقضية شعبنا اذا تناولها اناس مرتبطون بهذه الارض وبمصلحة هذا الشعب. وتصبح هذه النظريات خطرا كبيرا اذا تسلمها اشخاص فاقدون لهذه الصلة الحية بالارض والشعب.

وهذا ايضا جدير بان نتذكره اليوم خاصة واننا نشعر فعلا بحاجتنا الى مزيد من الاستفادة، من الماركسية وغير الماركسية. والى جانب ذلك يجب ان نتذكر الشروط الاساسية التي تقينا الوقوع في خطر التفكير المجرد، وخاصة ان بيدنا مسؤوليات ضخمة، فالخطأ البسيط في مثل هذه الظروف قد تكون له نتائج سلبية مؤذية.

ليس من الامور الكمالية، ليس من الامور الثانوية ان نطلب من الذين يتسلمون مقدرات شعب وبلد ان يكونوا متصلين ومنغمسين بروح شعبهم وبتاريخه ولغته وآدابه، لان في هذا ثروة نفسية روحية اخلاقية تعصم من كثير من المزالق وتدفع الى كثير من المواقف المشرفة والبطولية والاعمال المجيدة. اما التفكير الذي لا دم فيه ولا لحم ولا روح فهو تفكير خطر، تفكير لا انساني. وميزة هذا الحزب انه لم يأخذ القشرة السطحية من قضية الشعب، من قضية الأمة العربية، لم يأخذ فقط الناحية السياسية والناحية السياسية والناحية الاقتصادية والوحدة العربية وغير ذلك، وانما تناول الانسان العربي، لان الانسان العربي هو الاساس وهو البنّاء والمحقق لكل هذه الأهداف... الانسان العربي له روح وعاطفة وأخلاق وذاكرة وأواصر، وبالتالي كان الحزب على تواضع إنتاجه الفكري -وهذا مؤسف- لا يقتصر على تناول النواحي السياسية والاجتماعية، وانما كان يتعرض، ولو بغير اسهاب، لمشاكل الفرد العربي، الانسان العربي: تعرض للدين وتعرض للاخلاق وتعرض للثقافة وللفن، وهذا مطلوب الآن أكثر من اي وقت مضى.

وهنا اريد ان أصحّح قولا سمعته ولم اقتنع به، قول أحد الرفاق، بان الغموض الفكري في حزبنا كان سببا للانشقاقات التي حصلت فيه! فما قول الرفيق في الانشقاقات التي لا نهاية لها التي حصلت وتحصل في الاحزاب الشيوعية والماركسية؟ فهل هذا نتيجة غموض فكري في الماركسية، ام ان هناك اسبابا وعوامل أخرى؟؟

 

ايها الرفاق

في اللجنة العقائدية حاول احد الرفاق ان ينسب لي شيئا من الادعاء عندما ذكر عن لساني اني قلت: انا الذي وضعت افكار الحزب أو عقيدة الحزب. والذي حصل، ايها الرفاق، اننا في اللجنة العقائدية، بعد ان قرأنا التقرير ورأينا بعض الافكار التي اشرت اليها الآن، اي اننا رأينا تزويرا وتحريفا وابتعادا عن الانصاف، قلت: اين توجد هذه الافكار في الحزب؟.. اين هي الكتابات التي تستوجب مثل هذه الاحكام؟ لنأت بشواهد.. لنأت بأدلة. انا اعرف ما كتبت واعرف ايضا بان الرفاق الحزبيين في استفاداتهم العقائدية انما يستندون الى كتاباتي، من كتابات الاربعينات وما قبلها، الى الكتابات الاخيرة، وذكرت لكم امثلة وشواهد: عناوين مقالات وبالتحديد عبارات في هذه المقالات ليس فيها ما يدل على تفكير مثالي وابتعاد عن النظرة العلمية وانكار للتطور. بل على العكس، من المقالات الاولى هذه في سنة 1941 مقال معروف: القومية العربية ليست لفظا مجرداً بل هي حقيقة حية، وفيه تحطيم لكل تفكير مثالي او إنكار وتنصل من كل تفكير مثالي. فبهذا المعرض ذكرت القول، وعندها سمعت احد الرفاق يقول بان المقصود هو الدستور، الذي عبر عن فكر الحزب والذي وردت فيه بعض الاحكام الغيبية. وعندها اجبت ان الدستور هو العمل الوحيد الجماعي في الحزب، من الناحية الفكرية طبعا، وان عدة أطراف ونزعات قد أثّرت وسجلت افكارها في هذا الدستور.

وختاما، ايها الاخوة، اقول بان الخط العقائدي أمر خطير لا يجوز الاستخفاف به. هناك حاجة ماسّة في الحزب الى بعض المنطلقات الفكرية وبعض التسهيلات التي تساعد الحزب على العمل، ولا يجوز ان نتجاهل هذه الحاجة، ولا يجوز ان نتأخر في تلبيتها، ولكن لا يجوز ان نتسرع في بعض الافكار الاساسية التي قد تهدد قوميتنا بوجودها او تهدد اخلاقية الحزب.

12 تشرين الاول 1963

(1) كلمة في الجلسة الثانية في جلسات المؤتمر القومي السادس (مناقشة مقدمة التقرير العقائدي)

 

الصفحة الرئيسية للجزء الرابع