ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الرابع


ألاعيب الرجعية ويقظة الشعب

 

كان تكليف احد زعماء اليمين بتشكيل الوزارة (1)، وما يعنيه من تكتل رجعي ومن إعادة الاعتبار للرجعية وقيمها وأشخاصها تمهيداً لإنزال ضربة في الحركة الشعبية، كان هذا محاولة فاشلة، ولكنها نذير خطر وتنبيه عنيف للعناصر التقدمية التي لم يكتمل وعيها الثوري الصلب، والتي تحسن الظن من حين إلى حين فتنم بذلك عن ميول غير

تقدمية تغريها بالاستقرار والانتفاع والاستراحة من النضال. وما يشجع على حسن الظن في هذا الظرف هو مسايرة الحكومات في سورية في السنة الأخيرة للخطوات التحررية في السياسة الخارجية العربية، وكون العناصر الثورية لم توضح توضيحاً كافيا، ان تلك الخطوات التحررية قد فرضت على رجال الحكم فرضا، ولم تخرج من قناعتهم، ولو أننا وفينا هذا الأمر حقه من التوضيح لأظهرنا للشعب أن السياسة لا ترتجل إرتجالا، ولا سيما حين تكون في مثل مستواها اليوم، اي حين تمس مصالح ضخمة للاستعمار من جهة، وللشعب العربي من جهة أخرى، ذلك أن المسألة هي الآن: هل يستمر الاستعمار والرجعية في سيطرتهما، أم يفقدان ما لهما من مصالح؟ إن سياسة لها هذه الخطورة، لا ترتجل ولا تدخلها العاطفة. ويجب علينا، حين يتراجع الرجعيون ويلبسون زياً جديداً أن نعرف أسباب هذا التراجع وانحرافه. وان نربط دوما بين حاضرهم وبين ماضيهم، فندرك أنهم إذا تراجعوا خطوة إلى الوراء، فلكي يتحفزوا للوثوب عدة خطوات إلى الأمام، او لكي لا يضطروا إلى التراجع خطوات كثيرة.

إننا إذا استنرنا بهذا الوعي الانقلابي، واحتكمنا إليه ورجعنا إلى مقاييسه، رأينا انه من غير المعقول مطلقاً أن يحصل تراجع الى النقيض، وان يكون هذا التراجع طبيعياً مخلصاً لا يخبئ مؤامرات، ولا يبيت مكائد، لأن هذا المنطق يفرض علينا أن نربط بين المصالح الرجعية وبين ممثلي هذه المصالح من رجال الحكم الرسميين.

فإذا رجعنا إلى ما قبل عشر سنين لم يصعب علينا أن نتذكر ماذا كانت سياسة هؤلاء الأشخاص ومواقفهم والوسائل والتدابير التي لجأوا إليها للدفاع دفاع المستميت عن تلك السياسة باضطهاد الشعب وقمع حرياته وتزييف الحكم الدستوري.

إن تبدل موقف الأشخاص لا يفسر إلا بأحد شيئين: إما بتبدل في المصالح التي كانوا يمثلونها، وإما تبدل في نفسيتهم وتفكيرهم. أما المصالح الرجعية فلم تتبدل في أساسها، لأنه لم يحصل أي تغيير في النظام الاجتماعي القائم على الإقطاعية والرأسمالية. وأما تبدل النفسية والتفكير فلا بد ان يعبر عن نفسه بانفكاك الشخص عن طبقته وخروجه على مصالحه. ولكننا نرى أن الطبقة الرجعية هي التي أعادت هؤلاء إلى الحكم وهي التي لا تزال تضمن بقاءهم فيه. قد يتفق لشخص ينتمي إلى الطبقة الرجعية أن يبدل تفكيره ويستوعب مقتضيات التطور فيتبنى بإخلاص حداً معتدلاً من السياسة التحررية التقدمية، ويحاول الاستفادة من رصيده لدى الطبقة الرجعية من أجل استدراجها شيئاً فشيئاً إلى السياسة السليمة التي اهتدى إليه، فإذا تلكأت الرجعية في هذا السير أو قاومته وقع الاصطدام بينه وبينها، أو بينه وبين الشعب الذي ادعى هذا الشخص مسايرة مصالحه وتبني اتجاهه. ولكن الاصطدام الذي وقع أخيرا بمناسبة تكليف لطفي الحفار كان اصطداما مع الشعب وممثلي اتجاهه التحرري، كما انه لم يكن إصطداماً عارضاً عفوياً بل أمراً مبيتاً منذ أشهر، وظهر بشكل لا يدع مجالاً للشك أن التظاهر بالسياسة التحررية لم يكن سوى وسيلة لتخدير الشعب وإبعاد الظنون عما كان يعد في الخفاء لضرب الحركة الشعبية وهدم ما بناه الشعب بدمه ونضاله.

ما هي المصالح الرجعية، وما هي المصالح الشعبية، وما هي المناسبات التي يحصل فيها الاصطدام؟.

منذ عام وإلى اليوم، ثبت اتجاه عمل له حزبنا منذ سنين طويلة يتلخص في الانعتاق من طوق السياسة الاستعمارية والجرأة في رد هجماتها ومؤامراتها ومشروعاتها، وفضحها للشعب العربي، وبالتالي التعاون والاتصال مع دول أخرى تلتقي مصالحها ونزعتها مع مصالح الأمة العربية؛ ويتلخص أيضاً في السير العملي نحو الوحدة العربية من الناحية النضالية وناحية الخطوات الرسمية التي تحققها الدول العربية.

ومن البديهي ان هذا الاتجاه الذي ينصب في الظاهرة على السياسة الخارجية وعلى العلاقات بين الدول العربية هو في جوهره متصل أعمق الاتصال بالسياسة الداخلية لكل قطر عربي، مرتكز عليها ومدعوم بها، يستمد منها القوة.

وقد كان هذا منطق حزبنا باستمرار منذ البدء. وهذا ما تجلى عمليا في سياسة حكومة الثورة في مصر التي بدأت بالإصلاح الداخلي او على الأقل بشق طريقة وتهيئة الجو لتفتح إمكانياته، ثم انطلقت في السياسة الخارجية التحررية والسياسة العربية التوحيدية. وليس الأمر على هذا النحو في سورية. ففي سورية ليس هناك إصلاح داخلي، ولكن هناك نضال ضاغط، خلّفه ونظمه المنطق الانقلابي الذي يدرك الصلة الحية الوثيقة بين التحرر الداخلي والتحرر الخارجي، والتحرر من التجزئة القومية، ويعمل دوماً على هذه الجبهات الثلاث معاً. وكان من الطبيعي ان يضغط لتحرير السياسة من النفوذ الاستعماري ولتوجيهها نحو التوحيد القومي حتى ولو لم يصل بعد إلى القوة الكافية لبدء التحرر الداخلي الاجتماعي...

إن سياسة الحكم في سورية منذ أكثر من عام، هي سياسة متناقضة تفصح عن تناقض الوضع الاجتماعي والقومي فيه، والواقع كما يعرفه الرجعيون ويصرحون به مرارا، أن الحكومات منذ عام هي رجعية بأشخاصها وأحزابها ومصالحها، ولكنها تنفذ سياسة التقدميين في المجال الخارجي والعربي.

وهذا الاعتراف وحده ليوجب على التقدميين الارتياب والحذر والعمل للتعجيل في تخليص البلاد من التناقض، وذلك بعدم فصل النضال التحرري الخارجي والوحدوي عن النضال في سبيل تحرير الشعب سياسياً واقتصاديا من إستثمار الرجعية وطغيانها في الداخل. وإذا كان النجاح النسبي الذي سجلناه في المجال الخارجي والعربي قد نتج عنه إنتعاش معنوي للشعب وتراجع للطبقة الرجعية هو أيضاً معنوي، فإن تركيز نضالنا من أجل ضرب هذه الطبقة في مصالحها المادية هو الذي يوجد الركيزة الواقعية لسياستنا الخارجية والعربية الجديدة ويضمن تتابع خطواتها ويحميها من الانتكاس والتآمر.

إن الحركة العربية الإنقلابية اليوم على مفترق طريقين: فأما ان يؤدي بها نقص وعي الموجهين لها وضعف روحهم الثورية وقابلياتهم التنظيمية إلى الاكتفاء بهذه الخطوة التقدمية التي حققتها في بعض أقطار العروبة فتلتقي عندئذ هي وحكومات هذه الأقطار على صعيد واحد (ولكن ليس على قدم المساواة لأن بعض هذه الحكومات، وخاصة في سورية، هي حكومات رجعية أرغمت على مسايرة التقدم ولم تنس مصالح طبقاتها وعقليتها، وسوف تكون أقدر من الحركة الانقلابية على استغلال السياسة الجديدة لكسب شعبية تمكنها من تخدير الشعب والتآمر على هذه السياسة نفسها)... وأما أن تفيد الحركة العربية الانقلابية من هذه التجارب وهذا النصر النسبي لترفع مستوى وعيها ووعي الشعب ومستوى نضالها الذي هو نضال الشعب، وأن ترفض المساواة مع هذه الحكومات إن لم ترفض الالتقاء الموقت بها فتبقى حريصة على الأهداف القومية البعيدة كاملة وواضحة، وأن توضح للشعب باستمرار المسافة التي ما زالت تبعده عن هذه الأهداف، والتي تفصله في الوقت نفسه عن الحكومات الحاضرة ليس من حيث إمكانية التحقيق فحسب بل أيضاً وبصورة خاصة من حيث الجد والإخلاص في التحقيق.

15 حزيران 1956

(1) نشر في جريدة "البعث" في 15 حزيران 1956.

 

الصفحة الرئيسية للجزء الرابع