ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الرابع


حول الوضع في مصر

 

في اجتماع ضم الأمين العام للحزب الرفيق ميشيل عفلق وعددا كبيرا من شعبة بيروت طرح بعض الحزبيين اسئلة متعددة حول بعض امور الحزب الداخلية وحول الاوضاع السياسية في الوطن العربي، وخاصة في مصر وموقف الحزب منها. وفيما يلي نص الحديث:

 

لعل من الجواب على سؤالكم الاول عن الدستور المصري الجديد، وعن الحكم القائم هناك، ما يتيح لنا الجواب عن جميع الأسئلة الأخرى التي تقدمتم بها والتي تدور حول هذا الموضوع لانها في الواقع تنبع من وجهة نظر واحدة او من حالة نفسية واحدة معروفة لدى الأعضاء سواء هنا او في أي قطر عربي اخر.

لعلكم تعرفون اننا بقينا سنوات متحفظين تجاه الانقلاب العسكري الذي حدث في مصر نتخوف ونحذر من الاخطار الكامنة في الحكم الديكتاتوري،ثم اعتدل موقفنا وتبدلت نظرتنا بعض الشيء، وذلك لاننا جربنا في سوريا عددا من الانقلابات العسكرية وكانت كلها متشابهة في إساءتها الى القضية العربية القومية إساءة مكشوفة مفضوحة... وقد ساهم حزبنا مساهمة فعالة معروفة في مقاومة هذه الانقلابات وتخليص البلاد من الدكتاتورية العسكرية وكان من الطبيعي اذن أن ننظر الى الانقلاب الذي حدث في مصر -في نفس الوقت الذي كانت تحدث فيه الانقلابات في سوريا- نظرة الاشتباه والشك، وان نقف موقف الحذر. لكن ثمة فروقا واضحة بين الحالتين سأذكرها لكم باختصار. ان الانقلابات العسكرية التي حدثت في سوريا لم يكن هناك ما يبررها باستثناء الانقلاب الاول الذي لم يخل من بعض المبررات. هذا الانقلاب الاول في سوريا سنة 1949 قوبل -كما تعلمون- بالارتياح الشعبي العام. وفي هذا دليل كاف على انه لم يقم عبثا، فالشعب كان مستاء كل الاستياء من وضعه لان الحكم في سوريا حتى سنة 1949 كان حكما مستبدا استغلاليا، يهمل الشعب وجميع مطالبه وحاجاته الملحة الى الاصلاح والتقدم... يتلاعب بالقضية العربية وبالوحدة العربية، حتى بالإستقلال نفسه ويعرضه للاخطار، حين يهمل تهيئة اسباب القوة للدفاع عن هذا الإستقلال، ويحاور الدول الإستعمارية في سبيل عقد معاهدات وغير ذلك، الامر الذي أدى الى تزايد الاستياء وتفاقمه وإشاعة الريب والشبهات حول ذلك الحكم. وكان ان قام بعض ضباط الجيش، في هذا الظرف الملائم، بانقلابهم واثقين من ان أحدا لن يدافع عن هذا الحكم. وكانت الشعارات التي استهلوا عهدهم بها مغرية خداعة... كانت شعارات تقدمية اشتراكية عربية، أي تجسيدا لكل ما كان يطمح اليه الشعب ويتحرك لبلوغه.

وموقفنا من الانقلاب الاول معروف. فنحن لم ندافع عن العهد السابق الذي كنا في طليعة المنددين به، ولكننا -في نفس الوقت- لم نتفاءل تفاؤلا أعمى بالانقلاب العسكري، بل أصدرنا مذكرة في الايام الأولى للانقلاب وضحنا فيها الشروط والضمانات التي بدونها لا يجوز للشعب ان يطمئن الى اهداف هذا الانقلاب، ومن بين هذه الضمانات ان تعاد الحياة الديمقراطية والحريات، وان يحترم الدستور، وان تجري انتخابات جديدة، وان يحافظ على النظام الجمهوري وان يعمل للوحدة العربية. لكن رجال الانقلاب الاول كانوا أناسا مشبوهين وسرعان ما انفضح أمرهم وتبين أنهم عاجزون عن القيام بأي عمل انشائي، وأنهم ألعوبة في أيدي الدول الإستعمارية وشركاتها. وهكذا فشل الانقلاب الاول بعد أربعة أشهر، وحدث انقلاب آخر حاول أن يصحح ولكنه فشل في التصحيح، وقام ألانقلاب الثالت في كانون الاول سنة 1949 هذا الانقلاب الذي أتاح لبعض ضباط الجيش وعلى رأسهم الشيشكلي ان يتقاسموا السلطة مع المجلس وبعض السياسيين مدة سنتين وان يهيئوا لانقلاب عسكري شامل يقضون به على كل اثر للحياة السياسية الحرة ويحكمون البلاد حكما دكتاتوريا كاملا ابتداء من أواخر عام 1951 واستمر سنتين وبضعة اشهر..

وبعد، لماذا قامت هذه الانقلابات في سوريا؟ وما الذي اتاح لها ان تستمر في الحكم؟ ولماذا فشلت؟ وما هي مراميها؟ اسئلة سوف نطرحها بالتتالي -كما هي بالنسبة لمصر- وستتضح لكم من خلال الإجابة عليها حقيقة الموقف.

مهما قلنا عن فساد الاشخاص الذين قاموا بالانقلابات في سوريا ومدى علاقتهم بالإستعمار وعن مطامعهم واغراضهم الشخصية فان مما لا ينكر ان الشعب كان لديه بعض الاستعداد لحكم تقدمي ولو مصحوبا بالقوة وعلى حساب الحرية. وتفسير ذلك هو نقمة الشعب العميقة على نوع من الحكم ونوعية من الحكام: نوع من الحكم هو الحكم الديمقراطي المزيف المتستر وراء مبادئ نظرية هي في حقيقتها غاية الطموح الانساني. هذا الحكم الديمقراطي المزيف، حكم الاقطاعيين والشركات الرأسمالية والسياسيين المحترفين وزبانيتهم وانصارهم، هؤلاء الذين يريدون ان يجعلوا الدولة مزرعة لهم فيزوّرون الانتخابات علنا وبتلاعبون بالدستور بكل جرأة ووقاحة ويقيمون حكما بوليسيا إرهابيا باسم الديمقراطية والدستور، هذا الحكم أفلس وفقد كل ثقة واعتبار حتى لقد أصبح الشعب ينظر الى ممثليه والمنتفعين منه والمدافعين عنه على انهم لا يفضلون الإستعمار بشيء وانهم حلوا محله في الاستغلال والسرقة والارهاب والتنكيل.... وعندما توجد هذه النفسية عند الشعب يسهل على المغامرين ان يقوموا بانقلابات عسكرية لأن الشعب لا يتحرك للدفاع عن الدستور والحياة الديمقراطية ما دام لم ير شيئا من خيرهما ولم يذق منهما الا الفقر والاستعباد...والشعب يأمل ان يأتيه الخلاص بما يشبه المعجزة عن طريق تبدل الاشخاص والأوضاع وبذلك سهل على المغامرين العسكريين ان يقوموا بانقلاباتهم.

ولكن لماذا لم ينجح هؤلاء المغامرون في إقامة حكم طويل الأمد متين الدعائم؟ ولماذا كان ينهار حكمهم بعد مدة قليلة من الزمن من قيامه، فيضطرون الى اعادة الكرة مرات متتالية حتى منوا بالفشل الذريع اخيرا بانتهاء دكتاتورية الشيشكلي؟ لقد فشلت الانقلابات العسكرية والقائمون بها في سورية بسبب وجود حركة شعبية انقلابية بالمعنى الصحيح هذه الحركة المتمثلة في حزبنا لم تكن بعد قد بلغت حدا يسمح لها بان تحول دون قيام الانقلابات، ولكنها كانت قد بلغت حدا يسمح لها بمقاومتها وإحباطها، والان رغم نمو حركتنا وازدياد قوتها عما قبل واتساع نطاقها، لا أستطيع الجزم أن بإمكاننا ان نمنع قيام انقلاب عسكري. ولكن من البديهي ان كل انقلاب من هذا النوع يمكن ان يقوم في سورية سيكون نصيبه الفشل لأن حزبنا سوف يتصدى لمقاومته.

ويمكن القول ان حزبنا - بمعنى من المعاني - شجع قيام هذه الانقلابات أو سهل مهمتها، ولكنه معنى واحد أرجو الا يساء فهمه وهو ان حزبنا هو الحزب الوحيد الذي قاوم الحكم الوطني الفاسد (منذ سنة 1943 عندما قام الحكم الوطني الى سنة 1949 تاريخ الانقلاب) مقاومة جدية نضالية وفتح عيون الشعب على حقوقه ومطاليبه والأخطار المحيطة به سواء من الداخل أو من الخارج، سواء في داخل سورية أو في الاقطار العربية عامة... وبصدد كارثة فلسطين كان حزبنا المنبه الأول الى جريمة الفئة الحاكمة في سورية والاقطار العربية الأخرى لإهمالها الاستعداد لمعركة فلسطين ولتآمرها مع الدول الغربية المستعمرة وللنفعية التي أعمت بصائرها وحجبت عنها طبيعة الأخطار. كل هذا قام به حزبنا فهو الذي مهد الطريق أذن للمغامرين العسكريين كيما يستغلوا النفسية الجديدة التي أوجدها الحزب. اما من الناحية الايجابية فان حزبنا هو الحزب الوحيد الذي خلق في جو الحياة العربية منذ خمسة عشر عاما حتى اليوم هذه المفاهيم الانقلابية الجديدة (مفهوم الاشتراكية والحياة الكريمة والمفهوم الصحيح للحرية والديمقراطية، والتحرر التام من كل استعمار اقتصادي او سياسي او عسكري، والوحدة العربية بمفهومها الصحيح السليم العميق..) هذه المفاهيم نشرها الحزب وأشاعها في الرأي العام العربي خالقا بذلك حاجات جديدة في نفس الشعب. منميا نزعات كانت ما تزال ضعيفة او غامضة.. لكن الحزب طريقه صعب طويل لا يستطيع ان يختصره ولا بد له من أن يقطعه خطوة خطوة. وهو لا يستطيع، لكي يؤدي رسالته على أتمه، أن يخادع الرأي العام العربي ويتسلم زمام الحكم قبل ان يكون قد أعد هذا الرأي العام لأن يتقبله، وقبل أن يكون قد أعد الجهاز الحزبي المنظم المحكم الذي يستطيع ان يبني الأوضاع الجديدة السليمة.. ولقد كان عليه ان يتابع نضاله العنيد وان يبقى معارضا ومناضلا. وهذا ما سهل من جهة ثانية للمغامرين العسكريين في سوريا ان يتولوا دفة الحكم وان يزيفوا المفاهيم التي نشرناها نحن وان يستغلوا عند الشعب حاجاته الطبيعية الى الأسرع في تلبية رغباته وأمانيه. فالشعب لا يستطيع الصبر الا اذا عودناه عليه وبينا له ان الصبر بنضال وتنظيم هو وحده الكفيل بحل قضاياه جميعا حلا صحيحا، وان الاستعجال خليق بأن يجعله لا يحصل ألا على حلول سطحية وخادعة.

ولكننا حتى الان لم نستطع ان ننظم الشعب العربي كله، ولا يزال هناك عدد كبير من الشعب لم يهضم بعد افكارنا الانقلابية ولم ينتظم في حركتنا ليعرف بالممارسة والتجربة ان هذا هو الطريق الصحيح فإذا جاء -من ثم- مغامر ولوح بالاشتراكية وبالوحدة العربية الخ.. كان طبيعيا أن يصدقه كثير من أفراد الشعب العربي، وليسوا على ذلك بملومين، لأنهم بحاجة الى من يحقق لهم هذه المطالب الحيوية. وهكذا نكون بمعنى من المعاني قد قدمنا أسلحة فكرية للمغامرين العسكريين يستعملونها في غير موضعها ولغير غاياتها الصحيحة ويوجهونها لخدمة الإستعمار والاقطاعية والرأسمالية، ومساعدتها جميع على الاستمرار والبقاء على حساب مصلحة الشعب وكرامته، ولحرمان الشعب من الحرية. أن هذا لا يشكل مأخذا على الحزب بطبيعة الحال لان الحزب الانقلابي معرض دوما لأن يجد في طريقه الطويلة الشاقة أشخاصا وفئات يزيفون انقلابيته مثل الانبياء الكَذَبة، فعندما يظهر في التاريخ أنبياء صادقون، لهم رسالتهم الحقيقية رأينا ذلك يغري بظهور انبياء كذبة، وهذا ما يحدث بالنسبة للحزب أيضا، فعلى الحزب في مثل هذه الحال ان يحول النكسات الى خطوات تقدمية تضاعف ثقة الشعب به وبمبادئه وتقوي نضاليته وتجربته.

هذه بالنسبة الى سورية. أما في مصر فقد كانت الحالة مشابهة من الناحية السلبية لما هي عليه في سورية، أي أنه كان هناك حكم وطني فاسد يدعي ادعاءات فارغة لا ينجز منها شيئا، يدعي الديمقراطية وخدمة الشعب والمساواة للجميع، وهو في الواقع يستغل الحكم لصالح فئة معينة دون غيرها، فكانت النفوس أذن مهيأة لتقبل الانقلاب. وكان فساد الملكية المعروف في مصر العامل الاول في نجاح الانقلاب. أن الفارق الكبير بين حالة مصر وحالة سورية هو من الناحية الايجابية: ففي سورية كانت هناك حركة شعبية تستطيع ان تقف على قدميها ولم يكن في مصر شيء من هذا القبيل، ثم ان هذه الحركة الانقلابية في مصر لم تقم على اساس المغامرة الشخصية ولكنها قامت فعلا نتيجة الآلام، آلام الشعب والتحسس العميق بها، قامت على أيدي ضباط من ابناء الشعب غمرتهم وألهبتهم النقمة الشعبية العامة ووجهتهم في طريق العمل الجدي. ولم يكن في سورية شيء من هذا لأن الفئات المخلصة الواعية والفئة الشعبية المناضلة كانت شديدة التعلق بحزبنا وكان من الصعب عليها ان تتوجه الى ضباط لم نؤيدهم نحن..لم تكن في مصر حركة شعبية اذن، فليس بدعا -والحالة هذه- أن تتجه آمال الشعب الى هذا الانقلاب العسكري وان تعلق ألآمال على هذه الفئة من الضباط التي أنقذت الشعب من حكم لم يكن له مثيل في الفساد. والشيء الذي حققه هذا الانقلاب في المرحلة الاولى هو في حد ذاته شيء كبير لأنه اطاح بالعرش، هذا الكابوس البغيض الذي كانت ترزح تحته مصر، وكان ذلك كسبا كبيرا لرجال الانقلاب. ثم تلت هذه الخطوة خطوة اخرى جريئة كان لها اثر لا ينكر في تبديل أوضاع مصر وهي توزيع الاراضي. وعلى الرغم من أن هذه الخطوة لا تسمى اشتراكية بالمعنى الصحيح لأنها لم توزع مجانا جميع الاراضي. الا انها كانت تلبية سريعة لحاجة ملحة ماسة ومن ثم كان لها هذا الأثر..

والهيئة الشعبية الوحيدة في مصر التي كان بإمكانها القيام بدور حقيقي في مقاومة الحكم الدكتاتوري هي فئة الاخوان المسلمين، ولكنها فئة ضد تيار التاريخ واتجاه العصر، على الرغم من انها ليست كباقي الهيئات الدينية في اماكن اخرى من حيث النفعية والاستغلالية... فالاخوان في مصر أرفع مستوى، ولكن مجرد عنوان الدعوة ونظرتها الرجعية المخالفة لنزعات التحرر العميقة التي تختلج في نفس الشعب العربي جعلها ضعيفة أمام حركة الانقلاب، وهي لم تقاومه كما هو معروف بل أيدته وتعاونت معه سنتين ثم راحت تندد به وتناهضه في السنة الاخيرة.

والنتيجة التي اريد أن أصل بكم اليها هي ان ظروف الانقلاب فى مصر تختلف عن ظروف الانقلاب فى سوريه. فقد كان للانقلاب الذي حدث في مصر مبررات معقولة، وكانت الساحة الشعبية فارغة، فاتجهت نفوس الشعب الى الفئة العسكرية صاحبه الانقلاب، وقامت هذه الفئة جادة مخلصه ببعض الاصلاحات التي لا تنكر.. ولكن هل يجوز ان يسمى الحكم القائم في مصر حكما انقلابيا؟

الجواب كلا، فهذا الحكم ممكن تسميته حكما تقدميا، لا اكثر، والفرق بين الانقلابية والتقدمية هو كما يلي:

الانقلابية هي نضال الشعب المنظم القائم على نظريه وعقيدة، يستهدف قلب الأوضاع العامة كليا ومن الجذور، وإبدالها بأوضاع جديدة صحيحة، أي انها تبديل في أسس حياة الأمة.

وبديهي أن التبديل لا يمكن تحقيقه بواسطة الجيش وانما بنضال الشعب نفسه. قد يساهم الجيش مع الشعب ولكنه لا يستطيع وحده ان يحقق انقلابا بالمعنى الذي يفهمه حزبنا.أما التقدمية فهي اصلاح وليست تبديلا في الاسس، أصلاح في بعض نواحي الحياة العامة مع الاحتفاظ بالأسس القديمة، لا حرصا على هذه الأسس بل عجزا عن تبديلها. والذي تم حتى الآن فى مصر لم يتناول الأسس لأنه لم يقض تماما على الاقطاعية ولم يمس الرأسمالية بأي أذى، وانما الامر على العكس، فالرأسمالية تلاقى التشجيع من الحكم وان كان تشجيعا موجها، بمعنى ان الرأسمالية لم تعد مطلقة التصرف بل عليها أن تخضع للدولة وتنسجم مع مخططها الاقتصادي. أضف الى ذلك ان ألحكم لا يتجه نحو ألحرية ولا يعمل على أساس الوحدة العربية بالمعنى الصحيح، وان كان من هذه الناحية قد حقق خطوة لا بأس بها. فالأسس القديمة الباليه التي يجب أزالتها من الوطن العربي تتمثل في الاقطاعية والرأسمالية وحكم الطغيان وتقييد الحريات وواقع التجزئة القومية، وواضح ان الحكم في مصر لم تكن له القدرة على حل هذه المعضلات جميعا دفعه واحدة لذلك اعترف بها كأوضاع قائمه،وضمن هذه الأوضاع القديمة وجد منفذا لإدخال إصلاحات جدية.

وما دام حزبنا لم يصل بعد في مختلف أقطار العروبة الى مرحلة التوسع الكفيل بالحيلولة،دون تزييف الانقلاب العربي المنشود الصحيح فهو لا يستطيع أن يعارض خطوات تقدمية يؤمن بإخلاصها وجديتها. فالتفكير الواقعي أذن يقتضي منا أن نقبل مثل هذه الخطوات والخدمات في قطر لم تصل حركتنا اليه بعد. فعلينا أذن أن نسعى لكي يكون هذا الحكم خطوة مقربة من الانقلاب بدلا من أن يكون خطوة مبعدة صارخة ذهن الشعب عن أهدافه الاساسية في سبيل اهداف غير اساسية.

التقدمية - ايها الاخوان - يمكن ان نتصورها موقفا وسطا بين طرفين: بين الرجعية الراهنة السائدة في مختلف ارجاء الوطن العربي وبين الانقلابية الصحيحة التي هي في طور النمو والتكوين. وبما أن طريق الانقلابية بعيد فثمة احتمالات دائمة لظهور محاولات تقدمية، ولكن هذه المحاولات على نوعين: نوع صادق ونوع زائف.

النوع الصادق هو ما حدث في مصر والنوع الزائف هو ما حدث في سورية، وقد بينت لكم ذلك آنفا. الا ان هذه التقدمية التي هي حل وسط بين طرفي نقيض، بين الرجعية بكل ما فيها من استثمار داخلي واستعمار خارجي وامتهان للحريات وعرقلة لتوحيد الوطن، وبين الانقلابية العربية الشعبية التي لا تزال في طور التكوين تنمو وتتوسع ولكن طريقها شاق طويل. هذه التقدمية يتوجب علينا ان نكتشف حقيقتها: فهي عندما تظهر في أقطار بلغت فيها الحركة الشعبية حدا من النمو فأنها تكون تقدمية زائفة، ويكون للاستعمار شأن كبير فيها لأنها آنئذ بمثابة قطع الطريق على الحركة الشعبية، وهي عندما تكون في أقطار لم تصل أليها حركتنا بعد وعندما تبرهن في أعمالها عن جد وإخلاص وتجاوب نسبي مع حاجات الشعب فأنها تكون صادقة ولكنها معرضة دائما لخطر الزيف، لأن الاستعمار والأوضاع الرجعية التي تمسها هذه التقدمية، ولم تؤذها في أعماقها، ستحاول اجتذابها دوما الى جهتها فتصبح تقدمية معكوسة وتبعد عن الانقلاب. فواجبنا في مثل هذه الحال ان نرسم لها الطريق التي تكون خطوة جدية في طريق الانقلاب.وسأوضح لكم كيف تكون هذه الخطوة.

لقد تأثر الحكم القائم في مصر بأهداف حركتنا الانقلابية وليس ذلك بالضرورة عن طريق مباشر وانما من الجو الذي خلقته حركتنا، من الشعارات والمبادئ،ومن الرأي العام الذي خلقته هذه الحركة طوال أعوام. ولقد عمل الحكم في مصر أول ما عمل على إلغاء الملكية، وهذه بلا شك خطوة تقدمية وضعت حدا للفساد في الحياة العامة. وتبع إلغاء الملكية السير في توزيع الاراضي وإنعاش الفلاحين وهم الكثرة الساحقة من افراد الشعب، ثم تبني شعارات عربية كانت مهملة أو منسية أو موضع عداء وتنكر في مصر، والسير في طريق استقلالية في وجه الإستعمار الغربي، وتبني سياسة الحياد التي كان حزبنا أول من نادى بها منذ تسع سنوات، وبذل محاولات جاهدة لانتهاج سياسة مستقلة تجاه الغرب بالرغم من ان هذا الحكم ما يزال مرتبطا باتفاق مع بريطانيا يسعى للتخلص منه.

كل هذه الخطوات التي حققها الحكم في مصر تجعله خيرا من الماضي ولكنها ليست كل ما يرجوه الشعب لا من حيث الإصلاحات الداخلية، ولا من حيث الانفصال عن الإستعمار الغربي ولا من حيث التقارب العربي، انها بين بين، تسجل خطوة الى الامام ولكنها لا نتفذ الى الاعماق ولا تصل الى آخر الطريق.. فالخطر كل الخطر هو في أن نتصورها الطريق الصحيح، في ان نعتبرها السياسة الانقلابية الصحيحة، الخطر هو ان نجمد الاوضاع على هذا الشكل ونحول دون تقدم هذه التقدمية...أنها ان أوغلت السير في طريق الدكتاتورية ستتجمد وتصبح عاجزة عن الاستمرار في تقدمها، اذ انها ستمنع يقظة الشعب ونضاله.. ستقف حاجزا في طريق هذا الدم الذي يجري من الشعب الى الحكم، وهذا هو الخطر الماثل اليوم في الدستور الجديد. هذا الدستور سجل ما قام به الحكم في الماضي ولكنه سجل أيضا ان ألحكم سيصبح عاجزا يوما بعد يوم عن الاستمرار في القيام بالاصلاحات وبالخطوات التقدمية لأنه سجل هذه النزعة الدكتاتورية التي تحرم الشعب من ممارسة حقوقه ومن ألاشتراك الفعلي في تصريف حياته ومقدراته، ولذلك أصبح من العسير جدا على الحكم في مصر ان يخطو الى الأمام أذا هو تشبث بهذه النزعة الدكتاتورية. فالضمانة لكل حكم تقدمي هي أن ينفتح على الحرية، أن يساعد الشعب على ممارسة حقوقه وعلى الاشتراك في تصريف مقدراته، ليعود الشعب فيستأنف نضاله ضد كل هذه الاسس القديمة التي لم تغيرها التقدمية وانما غيرت بعض نتائجها فقط ولم تصل الى أسسها وجذورها. فالإستعمار ما زال في مصر نفسه،وسينتهي احتلاله بعد مدة وجيزة، ولكنه حتى عندما تنسحب الجيوش البريطانية عن قناة السويس،أليست موجودة على مقربة منها؟ وأي فرق جوهري بين احتلال أرض الاردن او العراق واحتلال ارض مصر؟ اليس الإستعمار موجودا في العراق وليبيا وتونس والجزائر ومراكش؟.ليس موجودا في المحميات؟ اليس موجودا بشكل من الاشكال في كل قطر من الاقطار العربية؟ في سورية ولبنان مثلا بشركاته وعملائه ونفوذه؟ فأذن نحن لم نتخلص من الإستعمار، ومصر وحدها لا تستطيع شيئا اذا بقي الإستعمار في الاجزاء الاخرى من الوطن العربي، والإقطاعية لم تزل زوالا تاما من مصر وأن تكن قد تلقت ضربة جدية. وفوق هذا فهي موجودة في الاقطار العربية الاخرى ووجودها في هذه الاقطار يشجعها في مصر على ان ترفع رأسها دوما وأن تحاول العودة.

والرأسمالية ما زالت في مصر على شكل واسع: وطنية واجنبية، وتعمل بتشجيع الدولة. والتجزئة، وهي اكبر خطر ومرض في كياننا العربي، ما زالت كما هي لم تتبدل ولم تتراجع، فالحكم التقدمي في مصر لم يغير شيئا من هذه الأسس وإنما غير أشياء جدية في بعض النواحي وفي قطر من الاقطار العربية له وزن كبير ويكفيه أن يؤدي هذه المهمة. أما اذا تحول الحكم في مصر الى تجميد لهذه الخطوات لكي تبقى هذه الفئة من العسكريين وحدها دون استناد الى نضال الشعب ودون توحيد للقوى النضالية العربية في الاقطار الاخرى.. اذا بقيت الفئة الحاكمة في مصر معتمدة على قوة الجيش وحده والشعب بمعزل عنها لا يشارك ولا يناضل، فان هذه الخطوات التي حققتها الثورة ستصبح مهددة بالخطر، ويمكن ان يحدث تراجع بدلا من ان يحدث تقدم. لذلك آمن حزبنا بالحرية وألح عليها كثيرا لا تعلقا بمبدأ مثالي بل لقناعة عميقة بأن الحرية هي ضمانة عملية لكي يبقى النضال منطلقا الى الأمام دائما لا أن يتراجع ويتجمد وينتكس.

والملاحظ ان مفهوم بعض الاعضاء للحرية لا يزال سطحيا، الى حد أنه يلتبس بتلك الحرية الزائفة الكاذبة التي يتستر وراءها الرجعيون المستغلون للشعب المتعاونون مع الإستعمار، وهذا خطر يجب ان نكشفه وان نتفاداه. فالحرية مبدأ يجب ان تكون له صيغة عملية في كل ظرف ومرحلة، اذ ان المبدأ يتخذ صيغا مختلفة عندما يتجسد في العمل، لذلك يجب ان نبعد عن تفكيرنا هذا المفهوم المائع الأجوف للحرية النظرية التي لا تفرق بين الشعب وأعداء الشعب، بين أبناء الوطن وبين المستعمرين للوطن، بين الذين يؤمنون بهذه الحرية وبين الذين يستغلونها لمصلحتهم وهم ألد أعدائها. فلنبعد إذن المفهوم البورجوازي الرخو للحرية والديمقراطية.

إن الحرية التي ننشدها لا تتعارض مع تشريعات وتدابير وقوانين تحد من استغلال الاقطاعيين والرأسماليين والنفعيين والانتهازيين على اختلاف أنواعهم. الحرية التي ننشدها لا تتعارض مع تدابير وقوانين تمنع تخريب الإستعمار في كياننا وانتشار عملائه بين ظهرانينا في صحافتنا وفي أجهزة الدولة وفي كل مكان يتاح له فيه أن يتغلغل ليبث سمومه باسم الحرية. يجب أن تكون نظرتنا دائما الى الحرية نظرة سليمة، إنها حرية جديدة صارمة لا تؤمن بإلقاء الحبل على غاربه. انها ليست سلبية تسمح بأن تترك الفساد يتابع سيره والميوعة تتفاقم وتستشري بل هي حرية ايجابية، حرية خلاقة، حرية تمنع الضغط والتشويش والدس على كياننا القومي من قبل أعدائنا الداخليين والخارجيين ليبقى الجو سليما ملائما لتفتح هذا الكيان ونموه. الا اننا لن نطمع بأن تطبق الفئة الحاكمة الرجعية الموجودة الآن هذا المفهوم للحرية على وجهه الصحيح. فلو قلنا مثلا، في لبنان او فى سورية يجب ان تُحدّ الحرية، أن توجد قوانين لمنع الإستعمار من التآمر علينا ولمنع الفئات الرجعية من تسخير القوانين لمصلحتها فإن الفئة الحاكمة، التي هي من الرجعية والمستغلين للشعب، لن تضع قيودا لتكبل نفسها بها، بل لتكبلنا نحن اعداءها المناضلين والعاملين لمصلحة الشعب. نحن إذن لا نطالب بتقييد الحرية في ظل حكم رجعي فاسد، لان الحرية البرجوازية بكل مساوئها خير من فقدانها. ولكن عندما يوجد حكم تقدمي كالذي في مصر يجوز تقييد الحرية بالشكل الذي بينته لإحباط مكائد الإستعمار ومكائد الرجعية، بالشكل الذي لا يمنع الشعب من المشاركة في تقرير أموره والنضال فى سبيل قضيته. فلو كانت هذه القيود التي نص عليها الدستور المصري الجديد لمنع الإستعمار والرجعية فحسب لكانت مقبولة، ولكنها قيود لمنع الشعب من الانطلاق، لذلك فهي مرفوضة لأنها وخيمة العواقب.

لن أتوسع أكثر من ذلك لأن الوقت لا يسمح، ولا حاجة الى تناول الدستور المصري من ناحية الوحدة والاشتراكية ما دمنا قد تعرضنا نوعا ما في سياق الحديث لهذه الناحية إذ لا شك أن نص الدستور على عروبة مصر هو خطوة طيبة تسجل تقدما كبيرا بالنسبة الى العهد السابق في مصر، وتبشر بالخير وتدل على أن الرأي العام القومي العربي قد وصل الى حد من الضغط أثر على الحكام المصريين وحملهم على وضع ذلك الدستور، ولكن هذه الخطوة قليلة وليست هي غاية الأماني، إذ لا تزال هناك هذه الجفوة وهذه المخاوف من زيادة الالتقاء والتعاون مع البلاد العربية، فلم ينص دستور مصر كما نص دستور سورية بأن النواب مطالبون بالعمل للوحدة العربية. وليست هذه هي العلة الوحيدة، بل نستطيع اذ نقول أن دستور مصر ككل دستور عربي آخر قائم على منطق التجزئة. وإذا كان لنا أن نلوم حكومة مصر التي وضعت هذا الدستور فان علينا ان نوجه لوما اشد واكبر، وان تكون مآخذنا أظهر وأعمق على حكومات سورية والعراق التي تتباهى بالقومية العربية منذ القديم ومع ذلك فان الدستور في كل من هذين القطرين قائم على منطق التجزئة، أي أنه يرتب سياسة القطر من كل النواحي عسكريا واقتصاديا وثقافيا... على أساس أن القطر كل قائم بذاته، وهذا هو العيب الاساسي. فدستور سورية الذي يدعو للوحدة العربية ليست دعوته الا نظرية اذ لو كان واضعو الدستور صادقين في ايمانهم بالوحدة العربية لما نظموا سياسة سورية على اساس انها مكتفية ومستقلة بنفسها. فعندما تنظم سورية والاردن ولبنان وليبيا والعراق وأي قطر آخر على اساس التجزئة، أي أن يكون لكل قطر من هذه الاقطار اقتصاد كامل، فكيف يمكن أن تتحقق الوحدة العربية؟.

إن الوطن العربي وحدة اقتصادية عدا عن كونه وحدة سياسية وعسكرية، أي أن هذا الوطن يكمل بعضه بعضا. فما في سورية من موارد أولية ومن وسائل الانتاج ليس الا جزءا من هذه الوحدة الاقتصادية التي هي الارض العربية كلها، وهكذا عندما ينظم الاقتصاد في سورية على أساس أن يكون لها صناعة كاملة تشمل كل الصناعات التي تحتاج اليها دولة مستقلة، ومن تكون لها المرافق والسلاح الذي تحتاج اليه دولة مستقلة، وتنتهج لبنان والعراق وغيرها الخطة نفسها، فلا تمضي بضع سنوات حتى يكون كل قطر قد غرق اكثر فأكثر في أوضاع التجزئة، وتصبح كل قوى العالم عاجزة عن انتشاله من هذه الأوضاع لكي ينفتح على الوحدة القومية، لكي يتعاون أو يتوحد مع غيره من الاقطار، وهكذا تهدر وتضيع وتبذر معظم قوى الأمة العربية وخاصة من الناحية الاقتصادية، ويمكن أن نطبق ذلك على جميع النواحي الاخرى اذ أن المجهودات التي تبذل في سبيل قطر واحد كان يمكن أن تكفي جميع الاقطار.

 

21  كانون الثاني   1956

 

الصفحة الرئيسية للجزء الرابع