ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الرابع


طريق الانقلاب الصحيح

 

تعلمون ولا شك (1) ان حزب البعث العربي كان قد ايد الانقلاب منذ يومه الاول تأييدا فعليا. وقام اعضاء الحزب في العاصمة ومختلف المدن والقرى بتظاهرات شعبية في صبيحة اليوم الثاني لتوطيد دعائم الانقلاب.

ان موقف حزبنا الايجابي من هذا الانقلاب كان مبنيا على الاسباب الآتية:

اولا: كان الحزب قد فقد اخر أمل بصلاح العهد الماضي مذ أشرف رئيس الجمهورية السابق على تزوير الانتخابات ووصم العهد بوصمة اللاشرعية. فاعتبرنا ان التخلص من ذلك العهد هو خلاص للبلاد من جميمع الاخطار والكوارث التي تنجم حتما عن كل عهد غير شرعي. وأيدنا الانقلاب لاعتبارنا إياه فرصة تعيد الى الحكم شرعيته والى الشعب حقوقه وسيادته.

ثانيا: ان تأييدنا للانقلاب كان أيضا بنتيجة اطمئناننا الى التصريحات الاولى والبيانات التي صدرت عن قيادة الجيش السوري الباسل والتي كان طابعها الصريح القوي مبادئ الحرية والدستور والتقدمية والاشتراكية وهي اقرب ما تكون الى مبادئ (البعث العربي).

ثالثا: لاطمئناننا الى ذلك العدد من ضباط الجيش الذين كانوا في طليعة الانقلاب، والذين نعرف فيهم العقيدة القومية الصادقة وتقدير المسؤولية.

رابعا: لاقتناعنا بأن التفاف الشعب وهيئاته القومية الواعية حول الانقلاب هوفي كل الاحوال أضمن لسلامة الحدث الانقلابي ومنع الانقسام الداخلي والاستغلال الخارجي، وادعى الى حسن توجيه العهد الجديد بحيث لايبقى للقائمين عليه عذر اذا هم ابتعدوا عن الإتجاه الشعبي الصحيح.

وهكذا كان حزبنا ايضا اول الاحزاب الذي اتبع تأييده الفعلي بتأييد رسمي عبرت عنه المذكرة الاولى التي قدمناها لكم واشرنا فيها الى ضرورة اعتماد العهد الجديد على قوة الشعب وتأييده الحر الواعي، وبينا الشروط التي تضمن لهذا العهد التأييد الشعبي الصحيح وتأييد الحزب بصورة خاصة. وهذه الشروط تتلخص في تشكيل حكومة حائزة على ثقة الشعب وتطهير الجهاز الحكومي ومحاكمة المسؤولين واجراء انتخابات حرة لإعادة الحياة الدستورية.

وقد كان في تصريحاتكم الخاصة لنا وفي اذاعة مذكرتنا ما جعلنا نطمئن الى ان هذه الشروط ستكون اساسا لسياسة العهد الجديد، ولكن لا نكتمكم اننا فوجئنا بعد ذلك بأعمال وتدابير مخالفة للتصريحات التي بدأ بها الانقلاب وهذا يظهر في الأمور الآتية:

اولا: في التعيينات في وظائف الدولة الكبرى ولا سيما الالتجاء الى اشخاص كانوا من ابرز دعائم العهد الماضي الذي جاء الانقلاب ليمحوه.

ثانيا: في التسريحات التي لم تشمل الاشخاص الكبار المسؤولين.

ثالثا: في تشكيل حكومة مبنية على اساس تجاهل كل النزعات السياسية التي تحملها وتمثلها الاحزاب، وهو الشيء الذي كانت تشكومنه البلاد في العهد الماضي. مع ان الانقلاب لم يكن ليتحقق او يفكر فيه مجرد تفكير لولا وجود احزاب منظمة مثلت المطالب الشعبية طوال العهد الماضي، ويرجع لها وحدها الفضل في الابقاء على روح النضال في الشعب مما سهل حدوث الانقلاب.

رابعا: في إلغاء امتيازات الصحف لاسيما صحف الاحزاب التي مثلت المعارضة فى العهد السابق. ومع ذلك فقد قدرنا ظروف الانقلاب الاستثنائية اكبر تقدير. وفرقنا بين ما هو شكلي مؤقت وبين ما هو جوهري أساسي..صبرنا بعض الصبر على تأخير اعادة الوضع الدستوري للبلاد، وبقينا أميل الى التفاؤل بان الأمور ستأخذ بعد حين مجراها الطبيعي المتفق مع اهداف الانقلاب.

ولم يفتنا العلم بأن من الخطأ ان ننكمش ونبتعد عنكم في هذه الظروف العصيبة الصعبة، وان علينا واجب الاتصال بكم وعرض ما نعتبره مطالب الشعب المشروعة والتنبيه الى الاخطاء والانحرافات،خاصة فيما له مساس بسيادة البلاد واستقلالها وبسيادة الشعب وحقوقه الاساسية.

هكذا جرت المقابلة ولفتنا نظركم الى جملة اشياء منها عدم المشروعية في تأليف لجنة الدستور من موظفين، وضرورة ترك ذلك للمجلس المقبل؟ كما اننا قدمنا لكم في مقابلة اخرى مذكرة عن اتفاقية التابلاين بعد ان فوجئنا بتصديقكم لاتفاقية النقد. وقد بينا لكم فيها من جهة الاجحاف الصارخ في شروطها الحالية ومن جهة اخرى ضرورة ايقاف أمر البت فيها الى المجلس النيابي المقبل لأنه وحده صاحب الحق في ذلك

ولم يفتنا ان نلفت نظركم اثناء هاتين المقابلتين الى مضار النهج العقيم المعكوس الذي سار عليه العهد السابق في علاقاته مع الاقطار العربية الشقيقة،وأعربنا لكم عن املنا في ان نرى العهد الجديد يبتعد عن سياسة التكتل والتفرقة والمهاترة التي اوصلتنا في الماضي الى اسوأ النتائج.

وبينا نحن ننتظر نتيجة ايجابية لاتصالاتنا ومذكراتنا ونتوقع بفارغ الصبر ما يدل على انتهاء التدابير الاستثنائية والشروع في تحقيق الوضع الدستوري المشروع للبلاد، اذا نحن نرى بدل ذلك ايغالا في هذه التدابير حتى بتنا نظن انها احجار اساسية في العهد الجديد.

وبالرغم من ذلك فلم نقطع الامل، واحببنا ان نعرض عليكم في مقابلة جديدة وجهة نظرنا في أمرين اساسيين نعتبرهما من أسس النظام الديمقراطي الصحيح الذي جاء الانقلاب لإقامته: نعني قضية الدستور وقضية قسم الموظفين.

وفي. هذه المقابلة التي تمت مساء الاحد 15 آيار 1949 لم نكتمكم دهشتنا من التصريح الذي نشرته الصحف على لسانكم،والذي يعلن بان النية متجهة لعرض الدستور الجديد على الاستفتاء الشعبي للمصادقة عليه. وقلنا آنئذ ان الدستور لا يجوز ان تضعه لجنة معينة من الموظفين،كما ان الشعب لا يمكن ان يصادق مباشرة على امر خطير كهذا، ولا بد من انتخاب مجلس نيابي تأسيسي ينتخب انتخابا حر ا يضع هو الدستور بملء الحرية، ويكون للشعب وهيئاته السياسية وصحفه الحرية التامة في مناقشة هذا الدستور وإبداء آرائها فيه، ويجوز بعد إقراره من قبل المجلس التأسيسي، ان يعرض على الاستفتاء الشعبي وهذا هو الطريق الوحيد المتبع في البلاد الديمقراطية كفرنسا وايطاليا، وهذا ما يجري حاليا في الهند وباكستان.

ثم أبدينا في هذه المقابلة استغرابنا من صدور مرسوم اشتراعي يقضي بان يؤدي الموظفون قسما يتعهدون فيه بعدم الانتماء في الحاضر والمستقبل لأي حزب سياسي، وقلنا بان هذا التدبير لا يوجد له مثيل في البلاد الديمقراطية ولا في اي قطر من الاقطار العربية: وان فيه تجاوزا لأبسط حقوق المواطن ومساسا بعقيدته القومية وكرامته الانسانية. فالحكومات مهما تطرفت وغالت في هذا الإتجاه (المعاكس للديمقراطية) فانها لا تصل الى ابعد من حظر النشاط السياسي على موظفيها اثناء قيامهم بوظيفتهم، وثمة ناحية لها مساس بصميم تكوين امتنا السياسي والاجتماعي هي ناحية الحياة الحزبية وضرورة احترامها واحلالها المقام الاول في سياسة الدولة في هذا العهد الجديد. ومما لاشك فيه ان حكومات الانتداب اولا وحكومات العهد السابق ثانيا، قد عملت بكل الوسائل على إعاقة انتظام الشعب في احزاب عقائدية واضحة الاهداف مما جعل البلاد تتخبط في الفوضى والجهل وضياع المسؤولية، وأوجد هوة متزايدة الاتساع بين الشعب وحكامه، ولقد خرجنا من هذه المقابلة بأثر طيب بعد ان استمعتم لملاحظاتنا وذكرتم بأنكم ستعيدون النظر في هذين الأمرين وتهتمون بهما بالغ الاهتمام.

ومع ذلك فقد فوجئنا في اليوم الثاني بخبر تصديق اتفاقية التابلاين دون الأخذ بها جاء في مذكرتنا.

لقد ألمحنا في مذكرتنا الاولى التي قدمناها لكم الى حقيقة لا يمكن نكرانها، وهي ان الجيش، بقيامه بالانقلاب كان اداة منفذة لرغبة قومية ولإرادة عامة عند الشعب.وان الانقلاب لا يقدر له البقاء الا اذا اعتبر دوما انه ثمرة هذه الارادة الشعبية وتلبية لها، فالجيش هو جيش البلاد، ولم تكن قوته بسلاحه ولكن بتجاوبه مع أماني الشعب وحاجاته، والشعب لم يشعر بهذا التجاوب العميق مع حركة الجيش لمجرد انها اقصت عن الحكم شخصا بالذات بل لاعتقاده انها ستقضي على سياسة ضارة كان العهد السابق ينفذها.

من ابرز سيئات السياسة الماضية خنقها للحريات في سبيل ستر الفضائح و الارتكابات وبقصد التلاعب بمقدرات البلاد و بمصير العروبة وفق مصالح الاشخاص، وانانيتهم. واليوم لا يطمئن الشعب الى ان تلك السياسة قد زالت نهائيا ما لم تضمن له الحرية التي تمكنه ان يراقب الاعمال ويقيس مدى انطباقها على الوعود والتصريحات، ومدى انسجامها مع مصلحته وأهدافه القومية في الداخل والخارج.

لهذا يرى حزب البعث العربي ان طريق الانقلاب الصحيح هو في تحقيق الخطوات الاتية:

اولا: تأليف حكومة من الاحزاب التي مثلت في العهد السابق المعارضة لانها هي الاحزاب التي تمثل الشعب.

ثانيا: اعادة الحريات كاملة ولا سيما لتلك الاحزاب وصحفها.

ثالثا: ثم الشروع في اجراء انتخابات لا اثر فيها للتدخل او الضغط ووضع دستور بالطرق المشروعة من قبل المجلس المنتخب او الابقاء على الدستور القديم وتعديله وانتخاب رئيس للجمهورية من قبل المجلس ايضا.

ان حزب البعث العربي، اذ يصارحكم برأيه في سياسة العهد الحاضر، يقدم اليكم المطالب التي بتحقيقها يعود الى الشعب اطمئنانه، والى العهد سلامة اتجاهه ليأمل ان تقدروا الدوافع القومية التي تدعو الى هذه المصارحة ورغبته الأكيدة في ان يبقى متجاوبا مع هذا العهد، ليوجه جهوده نحو الإنشاء والبناء، بعد ان كان يوجهها في المعارضة والنضال.

ان البلاد لم تقصر في تقديم أقصى ما تستطيع من حسن الاستعداد وصادق التشجيع لكي يكون الانقلاب بدء تحول جوهري في حياتنا وقد طال انتظارنا لما يطمئنها على ان العهد الجديد يقدر هذا الاستعداد ويستفيد منه الاستفادة المرجوة.

ويعتبر حزبنا انه يقدم للبلاد خير خدمة اذا هو استطاع ان يحفظ للشعب ثقته بالانقلاب ويوجه الانقلاب الى ما يؤهله لمثل هذه الثقة.

 

عميد حزب البعث العربي

ميشيل عفلق

دمشق في 24 أيار 1949

 

(1) المذكرة التي تقدم بها حزب البعث العربي الى رئيس مجلس الوزراء والقائد العام للجيش والقوى المسلحة في 24 آيار 1949 والتي تتضمن رأي الحزب في الخطوات اللازمة لتحقيق الانقلاب الصحيح.

 

الصفحة الرئيسية للجزء الرابع