ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الرابع


محاكمة الاستاذ ميشيل عفلق
نص دفاعه امام محكمة الاستئناف 
(1)
 


يجدر ان تقتنع المحكمة الكريمة بأن مسألة الحكم والسجن وغير ذلك هي آخر ما أفكر فيه، والدوافع التي دفعتني الى نشر المنشور والى نشر عشرات المناشير قبله والى كتابة مقالات، هذه الدوافع كانت ولا تزال واحدة وهي التي تهمني الآن اكثر مما يلحق بي:


لقد مضى على اعتقالي شهر ونصف، وبالرغم من انني ما زلت انادي بهذه الافكار منذ تأسيس حزب البعث العربي منذ ثماني سنوات مع اخواني قادة واعضاء الحزب، فلقد كان بالامكان ان ارجع الى نفسي واحاسبها وأعيد النظر فيما فكرت وكتبت خلال هذه المدة من الاعتقال. ولكني وجدت ان هذه المدة القصيرة (شهر ونصف) قد عملت اكثر من اي وقت مضى على تثبيت فكرتي وقناعتي وتوكيد ما اتهم به هذا الحكم منذ زمن طويل حتى الآن. لأن الحكومة قد قدمت لي في هذه المدة من البراهين الجديدة اكثر مما انا في حاجة اليه. ولن اطيل في هذا البحث بل اكتفي بالاشارة الى ما تم في هذه المدة من الفظائع التي ظهرت، والى أمور تتعلق بسلامة الوطن وبسلامة حماة الوطن..


كما اشير بشكل اقوى الى ما تم في المجلس النيابي في تلك الجلسة المشهورة التي منع فيها النواب من الاعتراض على خرق الدستور. ومنعوا بالعنف والضغط وبأسلوب غير شرعي وغير مقبول، اسلوب تقديم عريضة لمنع البحث في ذلك الموضوع، أشير الى امور كثيرة اخرى سواء ما اتصل منها بالمعارف او الامتحانات ونزاهتها او بما يشاع عن اتفاقية النقد او شركة البترول (التبلاين)، كل هذه الامور التي تهدد كيان الدولة جاءت هذه المدة القصيرة وفضحتها. وكان يجب علي أن انشر بيانات جديدة فأنبه فيها الشعب الى مساوئ جديدة تنتج عن العلة الاساسية الكامنة.


وزارة التعبئة لا تعبئ


لقد اخذت على الحكومة انها ابعد ما تكون عن القدرة على تحقيق التعبئة التي ادعت بأنها أُلفت من اجلها فسمت نفسها (وزارة التعبئة)، وأصدرتُ بيانا بأن كل شيء يجب ان يتلاشى امام هذه المشكلة الاساسية وهي مشكلة الوطن، وقلت بأنها اعجز حكومة تستطيع ان تضطلع بهذه المسؤولية. وها قد مرت مدة شهرين وانا اتساءل عن هذه التعبئة التي اعدتها الحكومة وماذا جرى بها. هل تبدل شيء في الشعب تبدلاً يتلاءم مع حالة التعبئة؟


لقد تعهدت الحكومة بأن تقلب اوضاع البلاد رأساً على عقب فهل إنقلب شيء من حياة الشعب، وهل تغير شيء في سبيل الحرب؟


لا اعتقد.


ذرائع للبقاء في الحكم


لقد قرأت في السجن كتاباً مترجماً يقول فيه صاحبه ( أندريه موروا) في فصل عنوانه (فن الفكر): "اليكم مثلا رئيس حكومة او رئيس مجلس نواب يتفوه بلفظة تعبئة فإذا هذه اللفظه التي لم يحتج صاحبها الى أكثر من تحريك الشفتين يقيم الدنيا ويقعدها فيحرك رجال اوروبا ويبعث بأسراب الطائرات تدك المدن وتدمرها بل تخرب العالم أجمع وتجهز على الحضارة."


ففي البلاد السوية الحال والمستقيمة الاوضاع تجد الكلمة التي تخرج من فم رئيس تقابلها حقيقة راهنة، لذلك قلت في تلك النشرة بأن لفظة التعبئة لم تكن بالنسبة الى الحكومة سوى ذريعة من الذرائع، لان الذرائع عند الفئة الحاكمة لا تنتهي، فتارة معركة فلسطين وتارة الرجعية الدينية التي اتخذوها ذريعة لتزوير الانتخابات كما يعرف الجميع، وتارة الخوف من الاخطار الخارجية.


وما غرض الحكومة من إختلاق الذرائع الا المد في اجل حكمها للإستئثار والاستثمار والقضاء على كل مقاومة شعبية تحاول ان تنقذ البلاد من اوضاع ساءت الى حد الخطر المداهم.


نحارب سياسة الاشخاص


لقد كنا في كل وقت نعالج القضية في شكلها العام ولا يخطر لنا ببال ان نحسد او نكره اشخاصا، امامنا فكرة، امامنا قضية. نحلم بمستقبل لبلادنا، ننظر الى الواقع الذي يعترض هذا المستقبل ويخالف الفكرة التي نؤمن بها، فنعمل ونثور ونتكلم ونكتب ولكن لا تهمنا الاشخاص.


والآن إذا تعرضت الى شخص وزير الداخلية فإن تعرضي له عارٍ عن كل شعور شخصي، لأنني لا اعرفه ولم أجتمع به الا مرة واحدة خلال خمس دقائق من زمن بعيد، ولكنني اعرفه من سياسته ومن اعماله ولا اكرهه ولكنني أكره سياسته وانقم على أعماله، وأمقت اسلوبه.


الذي يهمني في الموضوع هو ان حزبنا قد إصطدم بسياسة السيد صبري العسلي منذ اربع سنوات وحضرة رئيس المحكمة يعرف ذلك، إذ ان الحكومة أحالت على القضاء الاستاذ صلاح الدين البيطار أمين الحزب. فمنذ ذلك الحين نرى في الاسلوب الذي ينتهجه السيد صبري العسلي تجاه حرية الفكر والصحافة والدستور استخفافا بهذه الامور التي نعتبرها نحن جوهرية ويستسهل هو العبث بها والتحايل عليها، فكأنه يشق بصراحة وعزم طريقا وسنّة في البلاد نحو حكم ان سميته دكتاتوريا اكون قد رفعت من مستواه. وانما هو اقل من ذلك اذ ليس فيه من الدكتاتورية الا تعطيل الصحف وخاصة (البعث) واعتقال المناضلين وخاصة مناضلي البعث العربي وأخيرا احالتي الى القضاء وسوء معاملتي التي تعرفون شيئا عنها. وسحب امتياز جريدة "البعث" دون اي مبرر وبجرة قلم. حتى انه سعى ليمنع عني حق تخلية السبيل في امر لو كان جرما عاديا لجاز فيه اخلاء السبيل فكيف وهو عمل سياسي لشخص معروف الاقامة ولا يمكن ان يفكر قط بالفرار. فهذه التعديات وهذا التحامل لو كان مقتصرا على شخصي او حتى على حزبي لكان اهتمامنا به اقل، ولكنها سياسة عامة، ولكنه اسلوب ونظرية ينتهجها السيد العسلي منذ زمن طويل، وهو يدعو في ايام الشدائد الى تطبيق هذا الاسلوب، ونحن نعتقد ان كل الخطر يكمن في سياسته واسلوبه.


لنحصر الكلام في الاتجاهات ولنترك الاشخاص، نعتقد بأن اتجاه الحكم الحاضر مناقض لما نريد نحن، ونعتقد بأنه مناقض لمصلحة الامة والوطن. هذا الاسلوب في خنق الحريات، وفي العبث بالدستور وفي تزوير الانتخابات وفي التأثير على القضاء.. هذا هو الذي يشوش الطمأنينة العامة وهو الذي يخل بالامن وهو الذي يفعل فعل التحريض على الفتنة والثورة.


فاذا سدّت أمام الشعب كل السبل المشروعة فالسبيل الوحيد هو الثورة. فمن هو المحرض؟ أنحن المحرضون ام الحكام…


تذرع بالواقعية


انني أحرص ايضا على ان اسجل بأن ما سميته أسلوبا لرجال الحكم ليس هو مجرد اجتهاد في الحكم وليس هو نظرية تحتمل الخطأ والصواب بل هو شيء مدبر، الدافع اليه اغراض بعيدة عن المصلحة العامة.


كيف لا نختلف مع رجال الحكم، وسعي الحكومة موجه لمنافع لها ولرجالها وللبقاء في الحكم، وهي تشوه الحقائق والدستور وتنحرف بالحكم عن جادته. كثيرا ما وجهت الينا من رجال الحكم وحواشيهم وصحفهم تهمة البعد عن الواقع لان رجال الحكم يبررون ما يظهر في حكمهم، وان الواقع هو غير التفكير، وان هذا هو الممكن وحده، اقول ان شيئا واحدا يبرر السياسة التي تسمي نفسها واقعية والتي تتذرع بالواقعية الا وهو النجاح، اذا كانت هذه السياسة ناجحة عندئذ نصدق انها واقعية واننا كنا نحلم، ولكنها هي الفشل بعينه ولم نر شيئا ناجحا منذ سنين سواء في الداخل او في الخارج. لقد استلموا البلاد وهي في احسن وضع من حيث الاستعداد والقابلية: شعب متفتح الى النور كسب استقلاله بدمه، يريد ان يبني بعد ان ناضل كثيرا، وهو مستعد للتضحية الى اقصى الحدود في سبيل حياة سعيدة فماذا تمّ في هذه السنوات الخمس؟


لقد قال وكيل النيابة العامة في البداية بأن تطورا عظيما قد تم. وانا اقول ان تأخرا عظيما قد تم من الناحية المادية والمعنوية معا، والناحية المعنوية هي دوما أهم، ولا احسب ان أحدا ينكر علينا ان نفسية الشعب ومعنوياته وثقته بنفسه وبالحكم وبالاستقلال والمستقبل قد تراجعت وتأخرت اشواطا كبيرة الى الوراء في هذه السنوات الخمس.


هذا بالاضافة الى الامور الملموسة التي ظهر فيها كل شيء: ظهر البؤس والتأخر والانحطاط والجوع في اكثر طبقات الشعب، وظهر العجز في احراز النصر في فلسطين.

القضاء ضحية كالشعب


وهنا سرد الاستاذ الاسباب بصورة مفصلة ستنشر عندما يساعد الظرف على نشرها، ثم قال: احب وأتمنى على المحكمة الكريمة بأن تقدر وضعي حق التقدير، لقد قلت في بدء كلامي بأن ما يلحق بشخصي او بأي فرد من أفراد حزبنا هو مستعذب لدينا فليس هذا ما اعنيه. انما يهمني علاوة على نشر الافكار التي نشرتها في البيان وعلى اصراري في هذا الدفاع الذي سجلته والحاحي على دعوة الشعب إلى تلافي الخطأ قبل وقوعه، وان يناضل لكي يقي البلاد كارثة كبرى، انما يهمني علاوة على كل هذا الآن هو وضع القضاء، وهو سلطة اساسية في البلاد، وركن هام من اركان الدولة، وإذا كنت ادافع وارافع رغم ما تبين لنا جميعاً من تحامل خلال مدة إعتقالي وضغط وإيحاء ومن تدخل السلطة التنفيذية في القضاء، فلأنني اصر ان اقف من القضاء موقفاً متفائلا، لأنني اعتقد ان القضاء في هذا الوضع ضحية مثلي ومثل الشعب، والشعب في مجموعه في صف المتهم للفئة الحاكمة، لذلك لا يمكن ان اشعر نحو القضاء بضغينة ولكنني لا ارضى لقضائنا ان يستسلم للواقع، فالقضاء سلطة قوية وتوجيهية وأشخاصه بمثابة الموجهين المربين للشعب في أحكامهم وفي حرصهم على العدل، ولهم بذلك صفة الاستاذ تماما، ولا اعلم لماذا اطلب من نفسي التضحية ولا اطلبها من اخواني ورفاقي الذين وضعهم علمهم في مناصب القضاء، لماذا لا اطلب منهم ان يبرهنوا بأن في الامة روحاً جبارة ولا يمكن ان تستسلم للواقع!


30 تشرين الاول 1948
 

(1) في الساعة العاشرة من صباح السبت في 30-10-1948 نظرت محكمة الاستئناف في الدعوى التي اقامتها النيابة العامة على عميد حزب البعث العربي الاستاذ ميشيل عفلق بزعم اصداره نشرة من شأنها اشاعة الذعر وفيها قذف بالحكام بموجب القرار الصادر عن المفوض السامي عام 1925 الذي يستهدف قمع الثورة.
وقد حضر للدفاع عن الاستاذ عفلق خمسة عشر محاميا ويبنوا الاسباب التي تدعو الى فسخ الحكم وبراءة الاستاذ عفلق كما ان محكمة البداية لم تسمح بإثبات مفاد النشرة وما جاء فيها من وقائع واتهامات وهذا مخالف للقانون ولحق الدفاع.
وقد ارتجل الاستاذ ميشيل عفلق كلمة استغرقت اكثر من ساعة. ثم اخليت المحكمة، وبعد المذاكرة قرأ رئيس المحكمة القرار الذي يقضي:
1- بفسخ الحكم البدائي لعدم انطباق مفاد النشرة على الذيل الثاني للمادة 66.
2- بحبس الاستاذ عفلق مدة ستة اشهر عملا بالقرار 3943 الصادر عن المفوض السامي عام 1930 وتخفيف العقوبة الى شهرين باعتبار الاستاذ عفلق من الذين ناضلوا ضد الافرنسيين اثناء الانتداب، وعندما انتهت المحكمة من تلاوة قرارها هتف المستمعون للاستاذ عفلق وللبعث العربي وللحرية.
ومما يلاحظ في هذه المحاكمة حيرة القضاء في ايجاد مادة قانونية تنطبق على النشرة. فالنيابة وقاضي التحقيق رأيا مضمون النشرة معاقبا عليه بموجب القرار 491 ومحكمة البداية طبقت الذيل الثاني للمادة 66، وأخيرا جاءت محكمة الاستئناف وطبقت قرارا جديدا هو القرار (3943). وقد ميّز المحامون هذا القرار لمخالفته الاصول والقانون.
وقد نشر دفاع الاستاذ عفلق امام المحكمة في جريدة "النضال" الدمشقية (صاحبها د. سامي كبارة)، العدد 2023، في 2 تشرين الثاني 1948.
 

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الرابع