ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الرابع


محاولة تعديل الدستور
خطر على الجمهورية والحرية والاستقلال



لقد شرعت الحكومة السورية بتطبيق حكمها الديكتاتوري بصورة علنية ولم تعد تحسب حسابا لا لقانون أو دستور يكفل حرية الكلام والتعبير عن الرأي. واكبر شاهد على ذلك مصادرتها جريدة البعث الدمشقية لسان حزب البعث العربي استنادا الى امر شفوي من وزير الداخلية ودون ان يصدر مرسوم بالتعطيل الاداري. والذي اغضبها حقيقة أردنا كشفها للشعب وأرادت هي طمسها واخفاءها عنه، تلك هي مؤامرة تعديل الدستور التي تحاك في "الاوكار المظلمة" لتفرض على الشعب دون ان يطلع على خطورة مراميها، واليكم هذه الحقيقة التي نشرناها في المقال الافتتاحي
(1) والتي ننشرها الآن بمنشور:


فوجيء طلاب الجامعة بقرار من وزارة المعارف يقضي بتمديد عطلتهم ثلاثة عشر يوما بحجة اجراء "ترميمات" في بناء الجامعة، كأن أوقات الدراسة الغالية على نشئ البلاد المثقف يجوز اهدارها عبثا وباطلا في سبيل هذه الذرائع التافهة الرخيصة، وكأن الحاجة الى ترميم أبنية المدارس لا تظهر ملحة الا في ظروف ومناسبات سياسية خطيرة: في هذا الشهر الذي يزمع فيه المجلس النيابي ان يبتّ في قانونية الاقتراح الحكومي بشأن تعديل الدستور، وقبل ثلاثة اشهر عندما اصطنعت الحكومة "مضبطة" لتأييد اقتراحها ادعت انها جمعت توقيع ثلثي النواب، وقبل ذلك بمدة، عندما اراد المجلس ان ينظر في جريمة تزوير الانتخابات الشامل المفضوح الذي اشتركت وتسببت فيه السلطة التنفيذية بكاملها لتصل عن طريق التزوير الى مأربها في تعديل الدستور.


لقد فوجيء الطلاب، والشعب معهم، بهذه التصرفات الشاذة وامثالها، حتى لم تعد ثمة مفاجأة لأحد. وشاهد الجميع، خلال الشهور المنصرمة، من التعدي على حرمة العلم ومستقبل الناشئة، ومن العبث بوظائف الدولة وأموال خزينتها، ومن افساد للضمائر وتضحية للاخلاق والمصالح العامة، ما لم يشاهدوا جزءا منه في أشد العهود البائدة سوءا وفسادا.


فاذا تساءل افراد الشعب -ومن حقهم ان يتساءلوا- عن الغاية التي من اجلها تضحي الحكومة بأموالهم ومصالحهم ومستقبل ابنائهم وبلادهم، لما وجدوا ثمة الا غاية شخصية حزبية ضيقة، تكتنفها النفعية من كل جانب وتبرز فيها الانانية على ابشع صورة. تلك هي غاية تعديل الدستور، في سبيل تمديد اجل الاستثمار والانتفاع لزمرة السياسيين المحترفين وحواشيهم.


ان محاولة "التعديل" التي تسعى الحكومة الى تنفيذها في غفلة من الرأي العام، لهي اخطر من ان تمر وتتم بأسلوب الحيل والاختلاس دون ان يتاح للشعب ان يقول فيها كلمته الحرة الجريئة، اذ انها في الواقع قضية مصالحه الحيوية المهددة بأدهى الاخطار. والتعديل شر على الشعب والبلاد، سواء اعتبرت فيه ناحية المبدأ، أم الناحية الاسلوب، ام الناحية الواقعية المجردة.


1- لئن كان لا يزال في البلاد عدد من الذين يستهينون بقيمة المبادئ الاساسية والاشكال القانونية، وينظرون الى السياسة نظرة مجردة عن الاعتبارات التي تمس تربية الشعب واستقرار الحكم في الصميم، نقول: لئن كان هؤلاء يكتفون من الامور بنتائجها الظاهرية الجامدة ويرون في تعديل الدستور -على اي شكل تم- تحقيقا لفائدة عامة تنتج عن بقاء شخص او اشخاص على رأس الحكم فاننا نجيبهم بأن الحكم الذي سينشأ عن "التعديل" لن يكون بحال من الاحوال الا استمرارا لا بل استفحالا، لهذا الحكم المشوه المضطرب الذي عانته البلاد في السنوات الاربع الاخيرة، والذي لم يستطع ان يبقى يوما واحدا دون اضطهاد لحرية المواطنين، او استغلال لجهود الشعب، وإرضاء للانصار والمحاسيب، وفتح باب الرشوة وسوء الاستعمال على مصراعيه، وتسخير جهاز الدولة والصحف والاذاعة لمصلحة رجال الحكم وأتباعهم. ولئن ظهر فرق بين العهدين في المستقبل، فسيكون في ان العهد "الجديد" سيزيده النجاح جرأة في الاستهتار، ويزيد أتباعه شرها في الاستثمار والانتفاع.


2- ولكن هذ ه الفئة المتعامية عن قيمة المبادئ الحقوقية في حياتنا القومية الناشئة فئة يقل عددها ويتضاءل شأنها يوما بعد يوم امام تقدم الوعي الشعبي الجارف. ان الشعب بأكثريته الساحقة يدرك اليوم ان ما يميز سوريا ويؤهلها لقيادة الحركة العربية هو دستورها الجمهوري الديمقراطي الذي يضع سدا منيعا في وجه الداء العضال الذي يئن منه المجتمع العربي منذ عصور، داء تحكّم الافراد في مصير الامة، واتخاذ السلطة والاستبداد سبيلا الى استثمار الملايين من افراد الشعب لمصلحة الطبقة الحاكمة، فالقضاء على المادة الدستورية التي تمنع ان يخلد شخص واحد في الحكم، وان يستفيد من استمرار حكمه ليقضي على حرية الشعب ويجعله فريسة لاستثمار الاقلية الممتازة، كل هذا يذهب بفضيلة الجمهورية ويطوح بخيرات الحرية والديمقراطية، ويدفع ببلادنا دفعا قويا الى الرجعة والتأخر، بعد ان دفعت اغلى الاثمان والتضحيات ليفتح امامها طريق التحرر والرقي.


3- تلك هي المخالفة الصريحة لمبدأ التقدم والتحرر وسيادة الشعب الذي وضعته الجمعية التأسيسية في الدستور السوري، والذي تريد الحكومة بالتعديل ان تنسفه نسفا، ولكن مخالفة الحكومة لم تقف عند حدود المبدأ بل تجاوزته الى الاساليب التي اصطلحت عليها الامم الراقية في حياتها العامة لتضمن للشعب حرية رأيه وعمله، وللحكم امكان استقراره وتطوره، فالدستور هو قوام الحياة في اي امة من الامم وتعديل الدستور احتمال يواجهه الدستور نفسه، ويضع له من الشروط والقيود القانونية ما يسمح له تحقيق الغرض العام المقصود من ورائه وما يمنع عنه سيطرة الاشخاص واغراضهم وشهواتهم. لذلك كان لا بد عندما تلمس الحاجة الى التعديل، ان يطرح الموضوع على الرأي العام ليعالجه ويناقشه بمطلق الحرية في القول والكتابة والاجتماع. وبما ان اقتراح التعديل جاء على اثر الانتخابات النيابية مباشرة فقد كان اول واجب على الحكومة والسلطة التنفيذية ان تعلن عن رأيها قبل الانتخابات لتجرى على أساس التعديل او مقاومة التعديل. ولكن هذه السلطة التنفيذية عمدت الى التضليل والتزييف بدلا من مصارحة الرأي العام واحترامه، فكتمت قصدها وتدخلت في الانتخابات تدخلا شنيعا معروفا لتأتي بأكثرية مزورة من النواب يماشونها في تآمرها على الدستور. وهكذا عطلت كل صحيفة ناقشت امر التعديل برأي مخالف لرأيها، وعملت ما هو ادهى، اذ منعت المجلس النيابي نفسه من بحث هذا الامر الذي هو اهم ما تتعرض له الحياة النيابية. وخالفت الدستور ونظام المجلس افظع مخالفة اذ استعاضت عن تصويت النواب ومناقشتهم، بعريضة مشبوهة تلاها رئيس المجلس وانسحب معلنا اختتام الجلسة.


تلك هي الاساليب الشاذة غير المشروعة التي تتبعها الفئة الحاكمة في مطلع حياتنا الاستقلالية الدستورية، متحللة من كل قيد قانوني، ورادع اخلاقي، مستبيحة لنفسها افساد تربية الشعب القومية وزعزعة الحكم الاستقلالي في سبيل شهوات وانانيات ومنافع شخصية.


ولكننا نؤمن اعمق الايمان بأن الشعب هو اقوى من كل هذه المؤامرات والعراقيل التي توضع في طريق تحرره ونهضته، وبأن مناعته الاخلاقية ووعيه المتزايد لحقوقه وكرامته ورسالة أمته العربية سيتغلبان على هذه السموم التي تنفثها في جسم الامة طبقة الحاكمين المستغلين قبيل انحلالها القريب.


عميد حزب البعث العربي
ميشيل عفلق


18 آذار 1948

(1) بيان صادر عن حزب البعث العربي حول مؤامرة تعديل الدستور، نشر في جريدة "البعث" كمقال افتتاحي في العدد 222 الصادر في 8 آذار 1948.

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الرابع