ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الرابع


الجيل الجديد
والمجتمع العربي المقبل



أيها الاخوان


قد تسمعون منا كثيرا ترديدنا للفظة الشعب ومناداتنا باسم الشعب في كل مناسبة ذلك لأننا نؤمن بأن الصفة المميزة للمجتمع العربي الجديد هو انه المجتمع العربي الشعبي. ونحن نريد لهذه الصفة الشعبية شيئين على غاية من الخطورة.


الشيء الاول: ظاهري خارجي، هو ان يعترف بالشعب مصدرا لكل سلطة وسيادة، وان يمارس الشعب فعلا هذه الحقوق الطبيعية التي لا يعترف له بها الا على الورق وبالاسم والشكل فقط. على ان هذه الحقوق لن تصل الى الشعب هبة وتبرعا، او اتفاقا ومصادفة، فهي شيء جوهري في حياة الأمم انتزعتها الشعوب انتزاعا بعد كفاح عسير مرير. وكانت هي العامل الاساسي في استقرار الحياة، وفي امكان تطورها وتقدمها.


ان شعبنا لا يمكن ان يبقى كتلة منفعلة سلبية مسيرة لأنه عندئذ لا يجوز ان ينتظر منه اي عمل ايجابي مبدع انشائي.


ان الشعب اذا لم يتحول الى كتلة منتظمة متناسقة من افراد مسؤولين واحرار يكون وزنا ميتا، وعبئا ثقيلا، وبالتالي يقضي على كل معنى وكل رسالة تطمح الامة الى ادائها. نقول هذا ونحن نسمع في كثير من الاحيان الادعاء بان بقاء شخص من الاشخاص للبلاد والامة امر جوهري وحيوي وانه اذا فقد هذا الشخص تعرضت البلاد كلها للخراب والفناء.


وقد يصح هذا الادعاء اذا بقيت النظرة الى الشعب بأنه هذه الكتلة الميتة المنفعلة التي تتقاذفها الاحداث والظروف دون ان تستطيع تغييرها او التأثير فيها.


ثم ما قيمة الشخص او الاشخاص ما داموا دوما معرضين للزوال؟!. اننا ما لم نبن للبلاد والامة حرزا وحصنا من نفسها: من مجموع افرادها، ومن ترقية كل فرد وشعوره بهذه الحرية المرفقة بالمسؤولية فالبلاد تبقى مهددة في كل لحظة ومناسبة بأدهى الاخطار.
ولا بأس ان نذكر حادث اليمن الذي هو حديث الناس في هذه الايام، وان نشير الى سيرة امام اليمن الراحل، ذلك الرجل العربي الذي كان بلا شك غيورا على ارضه وتراث آبائه. وكان، في الظاهر يقظا كل اليقظة من تعديات الاجانب واطماعهم، اقام سدودا وحواجز بينه وبين العالم الخارجي حتى لا يمتد الى اليمن طامع او مستعمر ولكن هذا الرجل بعقليته البسيطة، وعزلته المخيفة التي عاش بها بعيدا عن تطورات العالم وعن مقتضيات الحياة الحديثة -لم يستطع ان يدرك بأن السدود والحصون كلها وهمية اذا لم يقم في نفس كل عربي من عرب اليمن حصن وسد وحرز تجاه اطماع الاجانب واعتداءآتهم. ولم يكن احد منا ليغتر بتلك المنعة التي كانت لليمن لأنا نؤمن اقوى الايمان بأن هذه السياسة العتيقة لا تعمل الا لتأجيل اليوم الذي يظهر فيه ضعفها.


ولا يقتصر هذا الاسلوب من الاعتقاد بالاشخاص ووضع الثقة بهم والتسليم اليهم تسليما أعمى لا مبرر له، على قطر واحد فحسب، بل انا نلمس آثاره ونتعرف الى مظاهره في مختلف البلدان العربية وفي هذا القطر العربي الذي نعيش فيه، فما يزال عندنا من يؤمن بأن البلاد بحاجة الى شخص دون آخر، وانها تكون مهددة اذا استغنت عنه.


ولكن الى متى يستمر هذا الاسلوب في الفهم وهذه العقلية الملتوية؟ الى متى نستعيض عن تربية الشعب بجميع افراده، وعن خلق القوة الحقيقية في نفس كل مواطن، وفي خلقه ايضا، بقوة وهمية وبخرافة لم يعد جائزا ان نستمر في القول بها والاستسلام لها خرافة الاشخاص بماض غير معروف او غير واضح.


بل لو صدّقنا كل ما ادعوه ونسبوه لانفسهم فانا نقول: ان شخصا او عدة اشخاص عاجزون كل العجز عن ان يعادلوا في المنعة والقوة والحصانة قوة شعب بأسره.


حتى لو كنا نعيش في عهد الانبياء لما جاز ان نسلم بخرافة الشخص ولما جاز ان نهمل تربية الشعب وتعويده على استعمال حرياته وممارسة حقوقه. ولكنكم كلكم تعرفون بأن مرحلتنا هذه -وهي تحمل اثقل التركات من الماضي، من ماضي الانحطاط والتأخر- ليست هي مرحلة انبياء بل العكس هو الصحيح. فكيف يجوز اذن ان نتساهل في امر حيوي كهذا وان نهمل امر التربية، السياسية، القومية.


أيها الاخوان


واما الامر الثاني، الذي تستهدفه الصفة الشعبية في تربية الجيل العربي الجديد، فهو شيء يمت الى الروح والحياة اكثر مما يمت الى السياسة والحقوق والحريات.


اننا نحمل- كما قلنا- تركة ثقيلة من الماضي فقدت فيها الامة شيئا كثيرا من سجيتها الحرة ومن حركتها العفوية ونشاطها الحي وأختلّت فيها القيم والمقاييس، ونشأت على سطحها طبقات وقشور طفيلية زائفة، وليس ثمة مخرج من هذه الحال المعكوسة المشبوهة، المشوبة بالفساد الا عن طريق اعادة الحياة الى الشعب، وفسح المجال امام الروح الشعبية لكي تنبع وتنفجر، فتتكسر هذه الطبقة من الجليد: طبقة الأوهام والجمود، وطبقة الاثرة والاخلاق الانانية المغموسة بالشهوات والقائمة على استغلال الآخرين واستعبادهم.


هذه الطبقة لا يمكن ان تتكسر وان تنفذ الى نبع روح الامة الاصيل الحار الا اذا لجأنا الى هذا المجموع المبارك: هذا الشعب، بأن نسمح لروحه بأن تنعتق بعد الكبوة والانحناء الطويل. وحين ذلك يجرف النفس الطويل السليم، كل ما تجمد وتراكم على وجه مجتمعنا من انانيات ومن فساد واستئثار ومن ضيق نظر وفقر مخيف في النفس.


واذا قلنا بأن الشعب عندما يسترد حقوقه وحرياته يشكل لبلادنا وأمتنا المنعة الحقيقية التي يعجز الاشخاص عن ايجادها: نضيف ايضا انه من الناحية الايجابية: من ناحية الابداع المتواصل وتحريك المجتمع بقوة، وبعث مواهبه الكامنة ليس غير الشعب يستطيع ان يهبنا هذه القوة المبدعة التي ضمرت وتقلصت وجفت في الطبقات الغنية المترفة التي قتلها استئثارها واستغلالها.


فاذا كان امر امتنا يعنينا بصدق واخلاص نظرنا نظرة جريئة نافذة الى حقيقة اوضاعنا. اننا اذا لم نقض بعمل جريء حاسم عنيد، واذا لم نضع حدا للعقلية القديمة التي تريد ان تعتبر الشعب قطيعا من البشر يسير ويضلل ويخدر، اذا لم نضع نهاية فجائية عنيفة لهذة العقلية كنا معرضين للخطر: خطر العدوان الاجنبي لان الشعب الميت المحروم من فهم الحرية لا يمكن ان يدافع عن ارضه. وخطر آخر قد يكون اهم من الاول وهو ان تبقى امتنا امة عقيمة ناضبة جافة عاجزة عن اي انشاء او ابداع.

27 شباط 1948
 

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الرابع