ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الرابع


حزبية الحزب الوطني
هي اكبر خطر يهدد الوطن



في هذة الأيام القليلة الحاسمة التي تسبق يوم الانتخابات
(1)، يتوجب على الشعب ان يستجمع كامل وعيه، وينبه اعماق ضميره، ويقف وقفة كلها ارادة وعناد في وجه الخطر الذي يفوق سائر الأخطار، وليس اشد في نظر الشعب من خطر الفئة الحاكمة وحزبيتها.


لقد بقي الشعب الى زمن قريب ينظر الى هذه الفئة كمجموعة من الأشخاص فيها الصالح والفاسد ويهمل النظر اليها كحزب له اسلوب ومنطق واتجاه ان يكن مستمدا من عقلية الأشخاص ومصالحهم واخلاقهم، فهو يعلو عليهم ويسيرهم جميعا في طريق لا يستطيعون الانحراف عنه، وإلى مصير لا يقوون على تغييره او تجنيه.


ولكن التجربة الأخيرة التي جربها الشعب قبل اربع سنوات: فتحت عينيه على اشياء كثيرة، فأعاد النظر في تفكيره، واكتسب من الواقع خبرة عرف بنتيجتها ان الفساد هو في الحزب اكثر منه في الأشخاص وأن من طرق الفساد والغش في هذا الحزب انه اخذ يلجأ، بعد ان انكشف للناس زيفه وتتالت مساوئه وفضائحه، الى التستر وراء بعض اشخاصه الذين ظلوا ابعد من غيرهم عن الشبهات.


لقد عرف الشعب بالتجربة المرة القاسية ان الحزب الفاسد لا يجديه ولا ينفع فيه وجود شخص او اشخاص يمكن اعتبارهم صالحين، لأن فساد الحركة يغلب على أفراده، ولأنه لا يتبنى الحركة الفاسدة او ينطوي تحت لوائها ويستطيع التنفس في جوها الا من كان فيه استعداد كبير لمجاراتها في شرها وفسادها.


فالمهمة الكبرى التي يستعد الشعب اليوم للقيام بها هي تحطيم هذه الحزبية الفاسدة -الحزبية الكتلوية- التي امست قبرا تدفن فيه فضائل الأمة وتفيض كفاءتها ونزاهتها وكل استعدادات الخير والابداع فيها. اذن فليس المهم ابعاد شخص او اكثر من هؤلاء عن النيابة والحكم، اذ ان ذلك عديم النفع ومتعذر ما دامت حزبية "الكتلة" او "الحزب الوطني" قائمة لم تهدم وتحطم، لأن "الكتلويين" ليسوا اشخاصا معينين بالذات، بل هم كل شخص قبل او يقبل الدخول في نطاق هذه الآلة الجهنمية، فيستمرئ اساليبها في الاستئثار والكذب والاحتيال، ويذوق حلاوة السيطرة والاستغلال، وتطبق عليه شبكة تبادل المنافع والتضامن على الضلال.


ان الشعب يدرك كل الادراك ان الخطوة الاولى في طريق الاصلاح وتنقية الجو السياسي وفتح باب الامل امام عناصر الخير في البلاد هي اقصاء هذا الحزب بمجموعه، حتى ولو كان لبعض رجاله مزايا وكفاءات، لان في ذلك قضاء على حزب يحكم البلاد بروح العصابات، وبنفسية الشركات الاجنبية الاستثمارية.


واذا جاز ان ينظر في الأشخاص ويفرق بينهم من حيث شدة الخطر او ضعفه، فلا شك ان اشدهم خطرا هم اشدهم حزبية، ولقد تمثلت هذه الحزبية العاتية في وزراء المرسوم 50، الذين كانوا اجرأ من غيرهم في الافصاح عن نوايا الفئة الحاكمة وتصميمها الاجرامي على حصر السلطة بيدها الى الابد بغية استعباد الشعب ونهب امواله وخنق مواهبه وقتل اخلاقه.


في معركة الانتخاب، كما في معارك الحرب، يقضي واجب حفظ البقاء بأن تحصر الجهود كلها في دفع الخطر الداهم. وقد عرف الشعب ان اكبر خطر يهدد بقاءه واستقلاله هو استمرار هذا الحكم الذي تنبع منه وتصدر عنه سائر الأخطار الأخرى، فلولا الحكم الحاضر ومساوئه لما دبرت المؤآمرات الاستعمارية على استقلالنا، ولما استطاعت الحركات الفاسدة ان تنتشر في ارضنا، مستغلة النقمة والاستياء، مستفيدة من الفوضى وتراكم الأخطاء، ولما استطاع الملوثون ان يعودوا من جديد ليظهروا، بالقياس الى رجال الحكم، بمظهر الطاهرين الأبرياء.


ان شعب سوريا العربي الذي رفع عن نفسه، بنضاله العنيد، وطأة الاستعمار الأجنبي، يقف في هذه الأيام الحاسمة موقف الوعي والكرامة والارادة ليرفع عن حياته الاستقلالية الحديثة وصمة الاستئثار والاستثمار، ويقضي على آخر مخلفات الحكم الأجنبي بقضائه على "الحزب الوطني"!


ميشيل عفلق
26 حزيران 1947

(1) افتتاحية جريدة "البعث"، العدد 203 الصادر في 26 حزيران 1947.

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الرابع