ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الرابع


آن للشعب ان
يفضح المؤامرات ويقضي عليها
دمشق مسؤولة عن مصير البلاد كلها
(1)



قبل يومين او ثلاثة أفضى رئيس الوزراء بتصريح أدّعى فيه ان حكومته حكومة حيادية، وان الدليل على حيادها هو انها موضع هجوم المعارضين والمؤيدين على السواء.


ويهمنا هنا ان نكتشف عن المغالطة التي تكمن في هذا الادعاء. ان المعارضة التي تهاجم الحكومة وتنكر عليها حيادها، والتي عناها رئيس الوزراء في كلامه هي المعارضة الشعبية التي تكاد تشمل مجموع الشعب والتي لم يكن لها في المجلس الراحل من يمثلها، في حين ان المؤيدين الذين يشتركون في المهاجمة انما هم من نواب ذلك المجلس، ويكاد لا يكون لهم وجود خارجه. اما المعارضة البرلمانية فهي مؤيدة لبقاء الحكومة الحاضرة لأنها مشتركة فيها مطمئنة اليها. فرئيس الوزراء يغالط اذن عندما يدعّي ان المعارضة تهاجم حكومته، لان المعارضة التي يهتم بها ويحسب لها حسابا هي المعارضة البرلمانية، وهذه مؤيدة له، في حمص وحماه وحلب. وهو يغالط مغالطة أبشع وأفظع عندما يحاول ان يوهم الشعب بأن المؤيدين -والذين هم ليسوا سوى بعض افراد الفئة الحاكمة وأتباعها- انما يهاجمون الحكومة لخوفهم من تدخلها في الانتخابات، لان مهاجمتهم لها هي في الواقع لخوفهم من عدم تدخلها التدخل الكلي لنصرتهم وضمان النجاح لهم وحدهم، دون اشراك احد معهم من أفراد المعارضة البرلمانية الممثلة في الحكومة الحاضرة.


لم ينس الشعب بعد ان الوزارة الحاضرة تشكلت بنتيجة ثورته على حكومة الملاكات المشؤومة، مما أتاح للمعارضة البرلمانية التي وقفت أثناء تلك الازمة -تحت ضغط الشعب واحراجه- موقف المدافع عن الدستور والحريات العامة، ان تدخل في الوزارة ممثلا لها يدعم موقفها في الانتخابات المقبلة. ومنذ ذلك الحين تظاهر بعض المؤيدين، من أعضاء حكومة الملاكات الدكتاتورية وأنصارهم، بالمعارضة للحكومة الحاضرة، لا لان أكثر أعضاء هذه الحكومة ورئيسها ليسوا من حزبهم، بل لانهم تساهلوا بقبول وزير واحد من غير حزبهم، مما يخل بالقاعدة التي درجوا عليها وهي الاستئثار المطلق بالحكم.


فالهجوم الذي يوجهه اليوم الى الحكومة بعض المؤيدين من "الكتلويين" او اعضاء "الحزب الوطني" الجديد، في المدن الثلاث حمص وحلب وحماه، يقصد منه إصلاح ما طرأ على القاعدة من خلل جزئي، والرجوع الى ذلك الاستئثار المطلق، بان يبعد عن الحكم الوزير المعارض الوحيد الذي كان وجوده في الوزارة كافيا لكي ينعش زملاءه من النواب المعارضين في مدن ثلاث كبيرة، ويرفع ضغط الخوف عن أنصارهم. فيهدد بذلك حزب الفئة الحاكمة في تلك المناطق بالزعزعة والانهيار.


هذا هو الحياد الذي يدّعيه رئيس الوزراء: تسوية ومساومة بين الاكثرية والاقلية من نواب المجلس السابق، على حساب الشعب وحريته ومصلحته، تدخل وضغط وتلاعب من قبل الحكومة لمصلحة الطرفين المتعاقدين، بنسبة أهمية كل منهما وقوته.


ولئن شقّ على الفئة الحاكمة ان تقبل هذه التسوية، وهي التي ما اعترفت بالمساواة لوطنيّ غيرها ولئن آلمها ان تلجأ الى تلك المساومة، وهي التي ما اعتادت ان تساوم غير الاجنبي، فهي بالرغم من ذلك راضية مطمئنة، ورضاها واطمئنانها يعودان الى سببين هامين:


اولا- لأن الخصم الذي تعاقدت معه هو خصم وليس عدو، يختلف عنها في الدرجة لا في النوع وهو ان لم يكن من الفئة الحاكمة فانه من الطبقة الحاكمة، طبقة الاقطاعيين ومحترفي السياسة، وهو على كل حال بعيد كل البعد عن الشعب وعن تمثيل المصالح الشعبية الصادقة.


ثانيا- لأن دمشق، وهي عاصمة البلاد ومحور سياستها، بقيت بعيدة عن المساومة، وحيدة في نضالها ضد طغيان الفئة الحاكمة، لم يمثل الشعب فيها طوال السنوات الاربع الاخيرة في المجلس نائب واحد، وليس لها، ولا يعقل ان يكون لها في الحكومة احد ترى الطبقة الشعبية في وجوده ضمانة لرفع الضغط عنها، ودفع التعدي عليها، والوقوف بصدق وجرأة في وجه التلاعب والتزوير.


هكذا حسبت الفئة الحاكمة حسابها، ودبرت مؤامرتها، فهي عندما رأت ان لا مناص من الاعتراف بالمعارضة، اعترفت بمعارضة المجلس لكي تتجاهل معارضة الشعب، واتفقت مع معارضة المجلس في عدد من المحافظات، لكي تقوى بها على قتل المعارضة الشعبية في المكان الذي له التأثير الاول والاكبر في توجيه المجلس ومراقبة الحكومات وتقرير سياسة الدولة، اي في دمشق.


ولكن شعب سوريا العربي الذي خبر نتائج تلك المؤآمرة الاجرامية التي كفلت قبل اربع سنوات نجاح القائمة الحكومية بكامل عددها، وعرف أن عزل مدينة دمشق عن السياسة كان السبب الاساسي في استهتار الحكومات وعجز المجلس النيابي وارتكاب افظع انواع الظلم والسرقات، يعرف الآن أن اول واجب قومي يترتب عليه تجاه مستقبله ومصيره هو أن يتضامن ويهب لزحزحة كابوس الفئة الحاكمة عن عاصمة بلاده. لأن في ذلك وحده مفتاح حل الأزمة السياسية المستعصية التي يعمّ أذاها البلاد جميعا.


أما أهل دمشق وضواحيها فيعرفون أن مسؤوليتهم ستكون في هذه الفترة مسؤولية تاريخية. ان التدهور الذي يقود رجال الحكم اليه البلاد لا يوقف الا اذا وقفت دمشق في وجه استئثار هؤلاء الرجال واستهتارهم. ولقد استطاعت دمشق التي لم يكن لها في المجلس او في الحكومة رجل واحد يمثلها ان تفرض ارادتها على المجلس وعلى الحكومة مرتين حاسمتين خلال العام الأخير. وهي اليوم، بعد أن زادها النضال قوة ووعيا، اقدر منها في اي وقت مضى، على ضربه الضربة الثالثة والاخيرة لتصفية حساب الاستعمار وتلاميذه.


ميشيل عفلق
15 حزيران 1947

(1) افتتاحية جريدة "البعث"، العدد 195 الصادر في 15 حزيران 1947.
 

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الرابع