ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الرابع


الجمهورية والحرية
ماذا عملنا لصيانة نظامنا الجمهوري



لقد سبق لحزب البعث العربي ان أبدى رأيه في مسألة شكل الحكم فقال: " ان عرب سورية، والفئة الواعية منهم، الامينة للروح العربية والفاهمة لشروط النهضة الحديثة، تعتبر النظام الجمهوري خير ما يلائم في المستقبل روح الأمة العربية، ويسهّل بعث امكانياتها وازدهار نهضتها" ولكن الحزب قد اخذ في البيان ذاته، على الحكم الجمهوري في سورية امتهانه للحريات العامة.


ها نحن الآن، بعد مرور عام ونصف العام على بياننا المذكور، ومرور ثلاثة أعوام على تأسيس النظام الجمهوري، نجد أنفسنا مضطرين الى الاعلان مرة اخرى ان هذا النظام كما هو مطبق في سورية، يحتوي على تناقض عميق يهدده في كيانه، ذلك انه لا يقيم للحرية وزنا، والجمهورية لا تعيش إلا مع الحرية.


نحن مقتنعون بأصلحية النظام الجمهوري، ومقتنعون ايضا بأن الجيل العربي الجديد في كل بلد من بلاد العرب الواسعة، يتطلع الى هذا النظام ويرى فيه أكبر ضمانة لتحرر الشعب العربي من أوضاعه البالية، ولظهور كفاءآت هذا الشعب على حقيقتها وفي كل قوتها. ولكن اذا عرفنا ان الحكم الجمهوري في سورية قصّر كل التقصير في تمثيل النزعة الشعبية الحرة، وانه كان في حقيقتة حكم أقلية ممتازة من المتزعّمين والعائلات الاقطاعية وان أبرز صفاته كانت: الاستئثار والاستثمار، استطعنا ان نقدّر مدى الضرر المزدوج الذي ينتج عنه: فهو من جهة قد أضاع على سورية ثلاث سنوات كان بالامكان ان تخطو فيها البلاد في طريق الانقلاب والنهضة خطوة واسعة، وهو من جهة اخرى قد أساء الى سمعة النظام الجمهوري وشّوه صورته في نظر الرأي العام العربي.


تصاب الحكومات و"العهود" والأنظمة السياسية بأمراض وآفات وأزمات فتصمد لها وتتغلب عليها وتشفى منها، الا شيئا واحدا اذا اصيبت به ماتت به: ذلك هو مرض التناقض وهو في الواقع مجموعة أمراض تتراكم وتتفاقم حتى اذا بلغت ذروة الخطورة واستحال معها كل طب، ظهرت بمظهر واحد شامل هو التناقض. فالحكم الذي يسمى نفسه "وطنيا" وهو ينهش من جسم الوطن ويمتص دماء المواطنين، ويجعل من "الوطنية" تجارة ووسيلة لاذلال الملايين من أفراد الشعب وابقائهم في جحيم الجهل والفقر والمرض، ليتسنى لزمرة من المستغلين ان يبذخوا ويلهوا ويتحكموا، والحكم الذي يسمي نفسه "دستوريا" وهو لا همّ له الا ابتكار الأساليب التي يحتال بها على الدستور، ليجعل منه أداة للعسف والاستبداد. وسبيلا لحصر الحكم في قبضة فئة من المحترفين، ويبقي الأنظمة التي وضعها المستعمر الافرنسي لافساد ضمير الشعب وتشويه اٍرادته، ليبقى الانتخاب مهزلة من أبشع المهازل، فيفقد الشعب أمامها كل ثقة وايمان بالدساتير والقوانين، وينقطع كل أمل له في امكان التطور وتبديل الحال، والحكم الذي يسمى نفسه "جمهوريا" وليس فيه أثر لرأي الجماهير، واحترام لارادتها، او حساب لمصلحتها، يستأثر فيه بالسلطة أشخاص معدودون لم يخرجوا من الشعب بل فرضوا عليه، ولم يحيوا حياته، ولا عرفوا آلامه، ولا شاركوه في بؤسه وشقائه، فروحهم الغطرسة والسيطرة، وروح الشعب الحرية والمساواة، وتفكيرهم هو تفكير المحافظة والجمود والراحة، لأنه ناتج عن الشبع والتخمة، بينما تفكير الشعب يتجه الى التجدد والانقلاب والنضال، لأنه نابع من الحياة السليمة الصادقة، ومن الوجدان الطاهر، طريقهم طريق الهرم والانحلال والمجد الزائف، وطريق الشعب طريق الحياة والبناء والخلود! ان الحكم الذي بلغ به التناقض هذا الحد، مصيره معلوم ونهايته محتومة.


اننا نعرف رجال هذا الحكم ونعرف انهم آخر من يقدّر قيمة الاتجاهات الفكرية وما لها من نتائج حاسمة في تقرير مستقبل البلاد. اذ لو كان لهم مثل هذا النظر الواعي البعيد، لتورعوا عن تشويه نظام يتوقف على بقائه ونجاحه مستقبل النهضة العربية! ان نظامنا الجمهوري الذي يكيد له الأجنبي عن بعد، ويحصي عليه اخطاءه وهفواته لن يجد المدافعين عنه، المستبسلين في حمايته، بين رجال الحكم وزبانيتهم النفعيين، بل بين هؤلاء الشباب المؤمنين الذين يدفعم اليوم ايمانهم الى مصارحته بالنقد والهجوم.


ميشيل عفلق
18 آب 1946
 

(1) افتتاحية جريدة "البعث"، العدد 33 الصادر في 18 آب 1946.

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الرابع