ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الرابع


السياسة الرسمية وشعور الامة



ملئت الأيام الأخيرة بالأخبار والتصريحات والشائعات
(1) عن علاقاتنا الجديدة بفرنسا بمناسبة وصول وزير هذه الدولة المفوض الى لبنان وتقديم أوراق اعتماده، وقرب وصول وزيرها المفوض الى سوريا. بالأمس جددت سوريا ذكرى ميسلون، واستعرضت ما حل بها من نكبات جرّها الانتداب الفرنسي على هذه البلاد طوال ربع قرن وأنتهت بالفظائع المنكرة والعدوان الغادر الذي أوقعته بنا فرنسا في أيار من العام الفائت.


كل هذا ذكرناه بالامس، ونعرف اننا لا نستطيع نسيانه ولو ان السياسة الرسمية تقضي بأن نتظاهر بالنسيان. ولكن التظاهر لن يصل بنا الى حد الغفلة والاستسلام الأعمى.


ان شعب سوريا العربي يعرف بالتجربة الطويلة المرة من هي فرنسا. وهو مقتنع بأن المظاهر والتسميات الجديدة غير قادرة على تبديل حقيقة دللت عليها وقائع عشرات السنين في سوريا، وهي ان فرنسا لا تتنازل عن أطماعها الآثمة في بلادنا الا اذا اضطررناها الى ذلك اضطرارا.


نعرف أن للسياسة الرسمية قيودا واعتبارات تفرض على الحكومات ان تتبع أساليب اللباقة والمجاملة في تعاملها مع الدول الأجنبية. ولكن اذا جاز للسياسة الرسمية ألا تكون عاطفية، فمن واجبها ايضا ألا تبلغ بها المجاملة درجة التحدي لعواطف الأمة.


ان أشد ما يؤلم شعبنا ويبعث أستنكاره هو هذا التباعد الذي يشاهده بين سياسة الحكومات من جهة وبين أمانيه القومية من جهة ثانية. فبينما نسمع في كل يوم جديدا عن الجرائم الوحشية التي ترتكبها فرنسا في بلاد عربية غالية، هي أفريقيا الشمالية، نرى الحكومة السورية تتجاهل روابطنا العميقة بخمسة وعشرين مليونا من العرب مهددين بالابادة ونرى حكومة لبنان لا تكتفي بتجاهل هذه الروابط، بل تزيد على ذلك اعترافها بروابط ودية تجمع بين لبنان وفرنسا منذ أجيال!. ثم نرى فوق ذلك كله الأمين العام لجامعة الدول العربية يصرّح لمراسل صحيفة فرنسية: "ان فرنسا هي آخر بلد تحدثنا النفس بمناصبته العداء، فنحن أعلم بفضل فرنسا على مدنية العالم العربي وثقافته... أما مشكلة أفريقيا الشمالية فهي من نوع آخر، وليس لنا ان نتدخل معها الا اذا أستنجد أهاليها بنا".


دخلت الحكومات العربية ميدان السياسة الدولية منذ زمن قصير ولقد راقتها -على ما يظهر- الناحية السلبية في هذه السياسة، نعني ناحية التصريحات اللبقة والمذكرات الانيقة لأنها وافقت ميلها الى الجمود واستعدادها للقبول بالأمر الواقع، فأكثرت من التصريحات والمذكرات، وأسرفت في المجاملات أيما اسراف. اننا لم نلمس حتى الان اثرا يدل على نجاح هذه السياسة مع الدول الاجنبية. الا ان ما نلمسه لمس اليد هو ان حكومات الدول العربية وجامعتها قد نجحت بأقصر وقت في ان تنفّر الشعب العربي من سياستها، وان تبغض اليه كل سياسة.


يؤلف العرب امة واحدة، على الرغم من هذه التجزئة المصطنعة المفروضة التي يضيقون بها ويستنكرونها. ويعرف العرب انهم في مرحلة نضالية حاسمة، على الرغم من سعي حكوماتهم لأن تظهرهم بمظهر الاستقرار والرضى والمسالمة. فاذا كانت وسائل هذه الحكومات -أو مصالح أشخاصها- لا تسمح لها بأن تعبر عن وحدة الأمة العربية على حقيقتها، وان تمثل نضال هذه الأمة في كل قوته، فلا أقل من ان تتحاشى في تصريحاتها وسياساتها ما يسئ الى سمعة الشعب العربي ويتحداه في أعز مشاعره القومية: أي شعوره بوحدته التي لا تنفصم.

ميشيل عفلق
27 تموز 1946
 

(1) افتتاحية جريدة "البعث"، العدد 17 الصادر في 27 تموز 1946.

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الرابع