ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الرابع


الصيغة الجديدة للوطنية



في عهود الانتداب
(1) كان منطق المصلحة الوطنية يقضي بأن تكون المعارضة لتلك العهود هي الشيء الوحيد الجائز، الواجب، المشروع. ولكن الذين قدّر لهم آنذاك بفعل ظروف وعوامل مختلفة، ان يمثلوا الحركة الوطنية في وجه الانتداب قرنوا الوطن بأنفسهم، وأعتبروا مصلحته مرادفة لمصلحة اشخاصهم، فلما اضطر الاجنبي أمام مقاومة الشعب، ان يقبل بتحديد سيطرته، وان يتنازل عن كثير من صلاحياته لممثلي الحركة الوطنية فهم هؤلاء من ذلك ان اسباب المعارضة قد زالت، وان التأييد الاجماعي قد أصبح الشيء الوحيد الذي تجيزه مصلحة الوطن وتقتضيه.


لقد احتاج هؤلاء السياسيون الوطنيون الى عشر سنوات مُلئت بأعنف الحوداث الداخلية والخارجية، ليقتنعوا أخيرا بأن المعارضة هي ايضا شيء واجب ومشروع، يمكن ان يكون فيها للوطن بعض الخير.


والواقع ان هذه الطبقة التي آل اليها في فترة من الفترات أمر تمثيل الحركة الوطنية في البلاد، هي أبعد ما تكون عن روح المعارضة وعن فهم ضرورتها والتمشي مع مقتضياتها، لأنها طبقة شائخة هرمة نضبت حيويتها وتراخت الصلة بينها وبين روح الامة، واستُعبدت للمصالح الاقتصادية والنفوذ الاجتماعي التقليدي فتعذر عليها ادراك المميزات التي تتصف بها الحياة العربية في هذا الطور من أطوار تاريخها، وكان من نتيجة ذلك ان دخلت النضال مكرهة وهي تحلم بالاستقرار وتحن الى الراحة. وكم من مرة توهمت خلال هذه الفترة القصيرة من النضال الوطني أن الرواية قد انتهت، والامانة قد أديت، وان وقت قطف الثمار واستيفاء الاجرة قد حان، لولا ان الشعب بحيويته المتجددة وغريزته اليقظة، وثوراته المتكررة، ينبهها بين حين واخر الى بطلان اوهامها ويذكرها تذكيرا عنيفا بأن النضال لم ينته بعد.


ولما اثمرت جهود الشعب وتضحياته وأجلي المستعمر عن ارضه عاود السياسيين الوطنيين حلمهم القديم بالاستقرار والاستئثار، فهم يصرون على اعتبار حكمهم غاية ما تطمح اليه الامة ولا يريدون ان يروا في المعارضة الا حالة شاذة عارضة، تحركها الاغراض الشخصية، وتبررها بعض الاخطاء الجزئية الثانوية في جهاز الحكم لا في اساسه. ولو ان هذا الوهم أو هذه الخدعة كانت مقتصرة على رجال الحكم لهان الامر، ولكن البلية هي في ان اكثر المعارضين يشاركون الحكومة في نظرتها ويرون في المعارضة سبيلا الى تبديل اشخاص بآخرين، وترميم ما تصدع من البناء بأيسر الجهود واقرب الطرق.


ذلك لأن المعارضين ما زالوا أضعف من المعارضة، يقصرون عن فهم معناها العميق ويعجزون عن بلوغ مستواها والتعبير عن قصدها ومرماها، وهكذا كان شأن الوطنيين مع المعركة الوطنية بما اظهروه من تقصير في مجاراتها، وانحراف عن فهم حاجاتها، وليس هذا مجرد قياس وتشبيه، فإن ما نسميه اليوم معارضة هو عين ما كنا نسميه وطنية، والمعارضة هي الصيغة الجديدة للوطنية.


اما علة الوهم والخداع فهي في عقلية الفئة التي مثلت الحركة الوطنية قديما، وهي اليوم ممثلة في الحكم القائم، فاٍن انشغال هذه الفئة بنفسها وبمصالحها جعلها تمزج بين قضيتها الخاصة كطبقة اجتماعية مسيطرة، وبين قضية الشعب العامة، في حين أن بينها وبين الشعب تناقضا في الروح والمصلحة، فرجال الحكم يعتبرون ان البلاد انتقلت من عهد الى آخر هو نقيض الاول، وكما ان المعارضة كانت في العهد القديم هي القاعدة الوطنية والتأييد كان شذوذا، ففي العهد الجديد عهد الاستقلال يصبح التأييد هو القاعدة الوطنية، والمعارضة تكون الشذوذ والاستثناء.


اما أن يكون الاستقلال نقيض الاستعمار، فهذا ما لا يشك فيه احد، ولكن ذلك لا يستتبع ان يكون "الوطنيون" من رجال الحكم القائم نقيض المستعمرين، لذلك استمرت الامة في معارضتها بالرغم من انتقالها الى العهد الاستقلالي بعد عهد الانتداب، بل ان هذا الانتقال قد زادها امعانا في المعارضة وجرأة، لأن من جملة الانتداب انه كان يشغلها بظلمه عن محاربة الظلم في نفسها، ولان من نعم الاستقلال ان الامة تستطيع ان تجابه مشاكلها مجابهة صريحة.


فالذي ينتج مما تقدم هو ان المعارضة قدر الامة في هذه المرحلة من مراحل تطورها، بعد أن كانت شديدة زمن الانتداب وهي اليوم أشد، وكانت تمثل فيه الحركة الوطنية، وهي اليوم تمثل وطنية أصلب وأعمق وأشمل، لأنها تستهدف بعد أن رفعت من طريقها العثرة الاجنبية ان تعيد النظر في بناء المجتمع من أساسه، وان تعمل وتناضل، حتى تتم الغلبة في هذا المجتمع لعناصر الحياة على عناصر الموت والفساد.


هذا هو الموقف الطبيعي الصادق للامة. وسيظل هذا الموقف الى ان يزول التناقض ويستلم الشعب مقدراته بيده، ولا ينقص من قوة هذا الموقف أن تكون طبقة المنتفعين المستثمرين خارجة عنه، ولا يشوه حقيقته وجود معارضين لا يمثلونه في صدقه وعمقه. فالمعارضه هي بالنسبة الى الامة العربية طور تاريخي، وضرورة تفرضها الحياة، وهذا ما يكفل لها ان تهتدي في وقت قريب الى ممثليها الحقيقيين، وان توحدهم في الفكر والعمل.

17 تموز 1946

(1) نشر في جريدة "البعث" في 17 تموز 1946.

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الرابع