ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الرابع


ازمة نظام الحكم
 


تجتاز البلاد ازمة سياسية تعددت فيها الآراء والاجتهادات ولا نرى بدا من ان نقول كلمتنا فيها.


1- أزمة وزارية... هناك أزمة وزارية نشأت على اثر تقديم عريضة من قسم كبير من النواب يعلنون فيها نزع ثقتهم من الحكومة الحاضرة لان البلاد، كما جاء في العريضة، تجتاز دورا دقيقا وتستقبل أحداثا خطيرة تستوجب تشكيل حكومة حائزة على ثقة المجلس لتستطيع ان تتحمل هذه المسؤوليات، ومواجهة الموقف بما يقتضيه من التروي والاخلاص والقوة والصراحة.


ان ما نلمس في هذه العريضة من غموض وابهام، ومن ابتعاد عن نقد سياسة الحكومة المستقيلة وعن تعيين أخطائها، ليدل على ان موقعي هذه العريضة لم يرموا من وراء عريضتهم الى تبديل سياسة هذه الحكومة بسياسة جديدة واضحة المعالم، بعيدة النظر مستقيمة الطريق، انما رموا الى اخراج بعض الوزراء الذين طالت مدة تربعهم على كراسي الحكم وطاب لهم المقام فيها، فمنعوا بذلك هذه الكراسي عنهم. فسياسة الدولة اذن لن تتبدل لا سيما ان نفس الرئيس السابق هو الذي عهد اليه امر تشكيل الوزارة الجديدة.


2- بدعة سيئة... لقد ابتدعت الوزارات الثلاث التي تعاقبت على كراسي الحكم في هاتين السنتين اسلوبا طريفا في الانسحاب من الحكم لم نسمع انه جرى في بلد آخر من بلدان العالم. ففي كل مرة تشعر الحكومة ان المجلس عازم على مجابهتها ومحاسبتها وتعيين اخطائها، وبالتالي على تصفية حسابها واسقاطها، تنسحب هذه الحكومة من ميدان الحكم قبل ان تتيح للمجلس تحقيق عزمه، وتقدم كتاب استقالة رقيقا تقطر من بين سطوره تضحياتها واتعابها وتفانيها في خدمة المصلحة العامة، وتجاب عليه بكتاب أرق من الشكر والامتنان على ما بذلت من خدمات في سبيل مصلحة البلاد. وبهذه الصورة ينسى المجلس حملته على الحكومة التي لم يعد لها وجود، ويتلهى بمناقشة بيان صوري تعرضه عليه الحكومة الجديدة وتبقى سياسة الدولة واحدة لا تتبدل. واكبر دليل على ان هذه البدعة المبتكرة ليست الا خدعة يقصد منها اجتياز هذه الازمة العارضة هو تشكيل وزارة السيد فارس الخوري الثانية التي استبقت من وزارته الاولى وزيري الخارجية والداخلية بالرغم من ان سياستهما كانت العامل الوحيد في حملة المجلس على وزارته الاولى. كما ان في تكليفه تشكيل الوزارة الثالثة اكبر ضمانة لاستمرار السياسة الخارجية المتخاذلة والسياسة الداخلية الدكتاتورية التي لا تزال تجر على البلاد الكوارث والويلات.


3- أزمة وزارية مصطنعة... اذن، فالضجة التي أثيرت حول الازمة الوزارية هي ضجة مصطنعة. وان هذه الازمة اذا كان يقصد منها سياسة الوزارة المستقيلة فحسب دون الرجوع الى الاسباب العميقة التي شجعت هذه الوزارة والوزارات التي سبقتها على انتهاج سياستها الفاشلة، هي أزمة كاذبة. وان معالجة الازمة اذا وقفت عند هذا الحد من الفهم لا يكون القصد منها الا خداعا جديدا من قبل الاشخاص المسيطرين على السياسة السورية يريدون من ورائه حصر اسباب الاستياء في حكومة زائلة وابعاد المسؤولية عن سياستهم التي يطبقونها في البلاد منذ عامين ويفرضونها على الحكومات.


4- الازمة الحقيقة. الحكومة أم الفئة الحاكمة؟... ونحن نرى مع بعض النواب من الذين يمثلون المعارضة في المجلس القديم ان تغيير الوزارة امر ضروري لا في اشخاصها فحسب، بل وفي سياستها المتبعة ايضا، وان هناك نوعا من الاشخاص قد ألف هذه السياسة طوال عهد الانتداب فلا يرجى منه اي تبديل فيها اذا بقي مستوليا على الحكم، اللهم الا تبديل اشخاص بآخرين من الطامعين بكراسي الحكم. ولكننا نذهب الى ابعد من هذا التعليل ونقول: من التضليل ان ينسب توجيه سياسة الدولة الى الحكومة فحسب، وان تعتبر الحكومة مستقلة في سياستها، وان توجه بالتالي الانتقادات وتحمل المسؤوليات للحكومة وحدها او للحكومة بالدرجة الاولى. لقد كان يصح ذلك لو كان في البلاد حكم دستوري، ولكننا ما برحنا نقول، ونكرر القول منذ سنتين، بأن الحكم الدستوري مفقود في البلاد، وان الذي يحكم بالفعل هم قبضة من الاشخاص توزعوا الرئاسات في الدولة، واستطاعوا ان يسيطروا على السلطتين، التنفيذية والتشريعية، وان يعطلوا مفعول الدستور والحكم النيابي. وما الحكومة الا مجموعة موظفين لدى هؤلاء الاشخاص. فالمسؤولية اذن تقع على هذه الفئة الحاكمة التي تتبع سياسة واحدة ذات هدف واحد لم يتبدل منذ سنين، وهو تسخير كل قضايا البلاد الخارجية والداخلية في سبيل الاحتفاظ بالسيطرة السياسية وما تضمنه لاصحابها من نفع وجاه.


ولقد كانت حجة هذه الفئة، كما صرح بذلك رئيس اول وزارة في هذا الدور، بأن قضية سوريا هي قضية خارجية بحتة، اي انها تجيز لنفسها اهمال الشؤون الداخلية، وشتى الارتكابات والتصرفات الشاذة، والتمادي في خنق الحريات ومنع اصدار الصحف الحرة ومخالفة نصوص الدستور مخالفة صريحة، "كادعاء السيد صبري العسلي وزير الداخلية في وزارة السيد فارس الخوري العلامة الحقوقي والديقراطي العريق، بأنه لا يجوز لافراد الشعب ابداء الرأي طالما انهم استعملوا حقهم يوم الانتخاب" متجاهلة بعنادها الغريب ان قوة موقفنا الخارجي متصلة اوثق الاتصال بقوة التنظيم الداخلي وحسن الادارة ونزاهة العمل.


على ان هذه المسألة الخارجية نفسها التي تتستر وراءها الفئة الحاكمة، وتستغلها ايما استغلال لتحقيق مآربها في داخل البلاد، قد ساءت في يدها وتشوهت بنتيجة توجيهها الجاهل وموقفها المتخاذل. اذ ليس من احد يجهل ان ما حصلت عليه البلاد من قدر يسير من الحكم الاستقلالي كان مقررا عند السلطات الاجنبية -غير فرنسا- كنتيجة للجهاد الرائع الذي قام به الشعب العربي طوال ثلاثين عاما في سوريا وسائر الاقطار العربية، وفرضه على تلك السلطات فرضا. وان من حق الشعب ان يتساءل: الم يكن بالامكان ان يصل الى استقلال أصح واكمل، في وقت أقصر وتضحيات اقل، وان يبلغ من النهوض مستوى أرقى يتكافأ مع جهوده ويليق باستعدادته وطموحه، لو انه قدر لهذه الفئة الحاكمة في سوريا نصيب أوفر من الوعي والتجرد والنزاهة تستطيع معه ان تكسب ثقة الشعب وتحّشد امكانياته وقواه وتحسن تنظيمها، وتفرض بالتالي احترامها على الاجنبي؟


5- السياسة التقليدية... وبالرغم من الدرس القاسي الذي القته الحوادث الاخيرة على البلاد، لم تعتبر الفئة الحاكمة ولم ترجع عن سياسة المماطلة وكسب الوقت والتخاذل امام الاجنبي. فبيناً نرى مجلس الجامعة العربية يقرر انه يؤيد طلب سوريا ولبنان بالجلاء التام لجميع القوات الافرنسية عن أراضي الجمهوريتين، وبيناً تأخذ حكومتا سوريا ولبنان بوضع مذكرة الى فرنسا بطلب هذا الجلاء، وبيناً يصرح وزير الخارجية في 7 تموز ( ان سياسة الحكومة لم تتغير، ونحن غير مستعدين للدخول مع فرنسا في محادثات او غيرها ولا بد من الجلاء اولا) نجد ان المذكرة التي تم وضعها لم تقدم، وطلب الجلاء لم يعد يذكر، وان الحكومة قبلت الدخول مع فرنسا في محادثات من اجل استلام جيش كان اكثره قد التحق بالسلطة الوطنية من تلقاء نفسه، واعتبر وزير الخارجية ان ذلك يحقق للبلاد جزءا كبيرا من مطالبها الاساسية. ونجد ان الحكومة تتناسى قرارات الجامعة العربية وتسعى الى عزل القضية السورية عن السياسة العربية، تاركة حلها لحكومة لبنان الذي هو أضعف من سوريا موقفا تجاه فرنسا.


6- المجلس النيابي... تلك هي خلاصة الموقف الذي قادت اليه الفئة الحاكمة للبلاد في الشؤون الداخلية والخارجية، بنتيجة استثمارها بالحكم، ةاستبدادها بالرأي، وتجاوزها لاحكام الدستور وتحررها من كل مراقبة شرعية.


لقد كانت مهمة المجلس النيابي ان يحافظ عل الدستور، ويسعى الى تطبيق الحكم الدستوري في البلاد دون ان يترك مجالا لاي شخص او فئة للاستئثار بالسلطة والتعدي على صلاحياته. ولكن المجلس في اكثرية اعضائه تهاون كل التهاون في اداء مهمته، واظهر تخاذلا واستسلاما امام الفئة الحاكمة المحترفة، التي استطاعت ان تنصّب الحكومات على غير ما يريد، وان تخنق صوته وتتلاعب بآرائه وتقطع الصلة بينه وبين الشعب. فالمجلس الذي سكتت اكثريته عن هذه السياسة الاستبدادية في احرج الظروف، وفي الاوقات التي كان الواجب القومي يحتم فيها عليه ان يرفع صوته ويقاوم، لا يمكن ان يسترجع ثقة الشعب بالنشاط الحديث الذي يظهره، بعد ان زالت المصاعب وذللت اكثر العقبات. ولا قيمة لما يجري الآن فيه من تكتل وتشكيل احزاب، اذ يفرض في الاحزاب ان تتشكل بين الشعب اولا، ثم تمثل في المجلس، وان يكون تشكيلها على اساس المصالح العامة والاتجاهات القومية العليا، وعلى مقياس واسع يتعدى حدود المدينة والمنطقة، ويتجاوب مع الاتجاهات والمصالح العامة للعالم العربي كله.


7- وجهة نظر " البعث العربي"... لقد كنا خلال سنتين من الافراد القلائل الذين دافعوا عن الحكم الدستوري ورفعوا صوتهم في وجه التدجيل والطغيان، وما ذلك الا لقناعتنا العميقة بأن لا خلاص للبلاد ولا مجال يفسح لتطورها الا بقيام الحكم الدستوري الصحيح الذي يتيح الفرص من جهة لظهور الاكفاء والمخلصين وتنافسهم نحو الخير، والذي من جهة ثانية يحول دون التلاعب بمقدرات البلاد ودون التفرد بالرأي الناتج عن الجهل والغرور. وليس من العبث ان نرى الامم الراقية تعتز بنظامها الديمقراطي وتدافع عنه كأهم شيء يعطي لحياتها معنى ولبقائها ضمانة. وقد علمتنا التجارب الماضية ولا سيما في هاتين السنتين ان عقلية الفئة السياسية المحترفة هي نقيض العقلية الدستورية الحرة. فالشعب مطالب بأن يقوم بحملات قوية منظمة مستمرة وضمن الاساليب الدستورية لاجبار هذة الفئة على الرضوخ للدستور. واول ما يجب ان تهدف اليه حملات الشعب المنظمة في الصحف والمؤتمرات والاحزاب هو ان يستعمل رئيس الجمهورية حقه في حل المجلس النيابي وان يدعو الشعب الى انتخابات حرة بعد تعديل قانون الانتخاب وبعد تشكيل حكومة قومية حيادية يشترط فيها ان تكون وزارات الخارجية والدفاع والداخلية بيد وزراء مشهود لهم بالحياد التام ليعملوا على: 1- تصفية كل علاقة لهذه البلاد مع فرنسا وجلاء الجيوش الافرنسية والانكليزية عن سوريا ولبنان. 2-جعل الجيش بعيدا عن السياسة الحزبية كيما يبقى هدفه الاوحد حماية ارض الوطن والذود عن كرامته. 3- اطلاق جميع الحريات السياسية لا سيما السماح باصدار صحف جديدة حرة، والعمل على اجراء انتخابات في جو من الحرية التامة. وفوق ذلك نرى من الضروري لكي تضمن حرية الانتخاب، ان يطلب من مجلس الجامعة العربية باعتباره مرجعا شرعيا عربيا لنا ان ينتدب لجنة من قبله لتشرف على هذه الانتخابات.

عن حزب البعث العربي
صلاح الدين البيطار، ميشيل عفلق، الدكتور مدحة البيطار
دمشق في 24 آب 1945

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الرابع