ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الرابع


تهافت سياسة الفئة الحاكمة
 


" لقد آن للسوريين ان يقنطوا من سياسة المفاوضات ويكتشفوا خدعتها، ففرنسا تموه منذ خمسة عشر عاما، وتنجح في شل الحركة القومية، واخماد جذوتها؛ وفرنسا لا تلجأ اليها الا بغية كسب الوقت لتسديد الضربة في الوقت المناسب وتثبيت دعائم استعمارها المزعزع".


" نحن لا نرى في الاستقلال والوحدة العربية غير اسمين لشيء واحد، وهو سيطرة الأمة العربية على مصيرها، بل ان في الوحدة العربية ضمانة لهذا الاستقلال.."


"... فضحنا سياسة الافرنسيين الرامية الى كسب الوقت بالمفاوضات التي لا طائل تحتها. ووضعنا في مقدمة مطاليبنا ضرورة تسليم الجيش قبل كل الصلاحيات، لان الجيش هو الدعامة الكبرى للاستقلال، ولا قيمة لكل المظاهر والصلاحيات المزعوم استلامها ما دامت في البلاد قوة اجنبية محتلة، تتحين الفرص المناسبة لوأد الاسقلال في مهده..."


" لن يعودوا"
لن يعود الفرنسيون الطغاة الذين قصفوا بقنابل مدافعهم وطائراتهم مدن سوريا المكشوفة: دمشق، حماه، حمص، دير الزور، الرقة، درعا، فخلّفوا فيها الثكالى واليتامى والمفجوعين ودمّروا المنازل ونهبوا الاسواق.


لن يعود الافرنسيون السفاكون الذين صبوا نيران رشاشاتهم ورصاص بنادقهم وحمم قذائفهم على المدنيين دون سابق انذار، وطرحوهم على الارض قتلى وجرحى، ولم يستثنوا من ذلك المستشفيات والاطباء وشباب الاسعاف وسياراتهم، بل امطروهم بوابل من قذائفهم وصرعوا فريقا منهم وكادوا ان يحولوا بينهم وبين واجبهم المقدس.


لن يعود الافرنسيون الذين لفظتهم معركة فرنسا، فاجتمعت فلولهم المهزومة على هذه الارض العربية المقدسة، وحشدوا عبيدهم المناكيد، وجنودهم المرتزقة من اشتات الاجناس، وسائر المدنيين الافرنسيين، حتى الاطباء والقضاة والرهبان والراهبات، واتخذوا من بيوتهم ومدارسهم ومستشفياتهم مراكز يطلقون منها النار على النساء والاطفال والعزّل من السلاح. وسيبقى المجلس النيابي الشهيد وخرائب دمشق وحماه وحلب ودير الزور والرقة منارات خالدة على الزمن، تشع بالحقد والبغض نحو فرنسا الباغية في نفوسنا وفي نفوس أجيالنا المقبلة.


فاليوم تهتف ارواح الشهداء، وأنّات الجرحى، وينادي الذين أفلتهم الموت والدمار من وراء الخرائب ومن ميادين الشرف والجهاد بصوت واحد:
"لن يعود الافرنسيون لتدنيس هذا الوطن... لن يعودوا"


ان حزب البعث العربي الذي ما انفك منذ عامين كاملين يعالج قضية بلاده بصدق وأمانة وبعد نظر، قد أوضح في مناسبات كثيرة للشعب والحكومة، كما تشهد على ذلك نشراته ومواقفه العملية، ان الخطر الكبير الذي يهدد البلاد من الاستعمار الافرنسي لا يتقى الا باتباع سياسة داخلية حكيمة، وخارجية حازمة، تضع حدا لمماطلة فرنسا وخداعها. وتقلع عن المفاوضات العقيمة، وتضطر الدولة الافرنسية على ان تحسر النقاب عن وجهها وتفضح اغراضها اللئيمة نحو بلادنا، وتآمرها المجرم على استقلالنا. وقد بيّنا ان هذه السياسة الخارجية يجب ان تقوم على تعاون وثيق فعلي مع البلاد العربية جميعا ولا سيما الاقطار العربية التي تستطيع اكثر من غيرها انجاد سوريا ولبنان لدفع العدوان الافرنسي. لذلك اعتبرنا العمل للوحدة العربية الشاملة اكبر ضمان لاستقلال سوريا، ورأينا دوما في هذه الوحدة وسيلة ناجعة قوية لتحقيق الاستقلال وتدعيمه، يجب ان تقدم على اي عمل آخر.


كذلك لم تترك مناسبة تمر الا وأعلنا ان للسياسة التي تتبعها الحكومة في الداخل أكبر الاثر وأوثق الصلة بتقرير مصيرنا الخارجي وتحررنا النهائي من سلطة فرنسا. وكنا نرى دوما ان الحكومة مقصرة في سعيها لتحقيق وحدة الشعب القومية، وتعبئة قواه وتهيئته سياسيا وعسكريا لمجابهة الساعة العصيبة التي تبيتها فرنسا الغادرة لهذا الشعب.


ثم وقعت الواقعة واستطاعت فرنسا ان تكسب الوقت، ودفع الشعب من دمه وماله ثمنا باهظا لسياسة التريث والحكمة والثقة بالمفاوضات العقيمة التي اتبعها رجال الحكم، وغدت شدة المقاومة الشعبية للاستعمار الافرنسي متناسبة مع بعد نفوذ الحكومة وسيطرتها. اذ ان المناطق النائية التي تمتد اليها ظلال هذه السياسة قد استطاعت ان تحرر نفسها من سيادة الافرنسيين بأروع شكل وأقواه، بينما اقتصر عمل العاصمة على الدفاع والصمود، فدفعت ضريبة الحرية غالية باهظة من دمائها وأموالها.

والآن، بعد ان طويت هذه الصفحة الدامية، يرى حزب البعث العربي ان من واجبه تنبيه الشعب الى ان الازمة بمعناها السياسي لا تزال قائمة، وان امكان تحرجها لا يزال موجودا، وان القوات الافرنسية تمرح طليقة في بعض مناطق سوريا، كما انها محتشدة بكامل قواها في لبنان، وان السلاح استدرار العطف واستجداء الشفقة العالمية الذي تتسلح به الحكومة لمعالجة الموقف الحاضر، هو سلاح قاصر لا يحمي استقلالنا اذا لم يدعمه حشد قوى الشعب وتهيئته لدفع كل عدوان جديد. لذلك نطلب من ممثلي الامة ان يتبنوا الحلول الآتية التي تفرضها ضرورات الموقف الحاضر:


1- تشكيل حكومة قومية تطبق الدستور بالمعنى الصحيح، وتقلع عن الاستئثار والاستبداد بالرأي، واخفاء الحقائق عن الشعب، وتنهج في السياسة خطة واضحة مستقيمة لا تقلّب فيها ولا تناقض.


2- ان تتبنى هذه الحكومة، لمعالجة الظرف الحاضر، برنامجا تتلخص خطوطه الرئيسية في ما يلي:
أ- رفض التعاقد مع فرنسا بأي شكل كان، واجلاء قواها جلاء تاما عاجلا عن سوريا ولبنان، واغلاق الباب نهائيا امام كل صلة للافرنسيين بهذه البلاد، سياسية كانت أم ثقافية أم اقتصادية، واتخاذ الخطوات اللازمة التي تكفل تنفيذ تعهد البريطانيين بسحب قواتهم من سوريا ولبنان.
ب- صيانة استقلال سوريا التام، وتعبئة جهود الشعب وتنظيم مقاومته، والشروع حالا بتشكيل الجيش وتسليحه استعدادا لمنع كل عودة ممكنة للاعتداء الافرنسي، ولمجابهة قرارات دولية قد تنتقص من هذا الاستقلال.
ج- اعتبار قضية سوريا ولبنان واحدة تجاه الخطر الافرنسي.
د- انتهاج سياسة عربية فعّالة تؤدي الى انجاد سوريا ولبنان عسكريا في حالة الاعتداء على استقلالهما.
ه- المطالبة بمحاكمة المسؤولين عن الفاجعة الاخيرة من الافرنسيين والمطالبة بالتعويض عن الخسائر وذلك بعد تجميد ومصادرة الاموال الافرنسية في البلاد العربية كافة.
و- تطهير البلاد وجهاز الحكومة من جميع الخونة والانهزاميين وانصار التعاون مع الاجنبي، ومحاكمة المجرمين من قواد الجيش السوري وجنوده، ومكافأة الذين لبوا نداء وطنهم منهم مكافأة تليق ببسالتهم وتضحياتهم.

حزب البعث العربي
دمشق في 9 حزيران 1945

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الرابع