ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الرابع


نحذّر الفئة الحاكمة
 


" نحن في دور الممهدين مهمتنا شق الطريق للجيل الجديد لاتعبيده، رفع الاشواك لا زرع الرياحين، غرس البذور الخالدة لا قطف الثمار اليانعة، لذلك لن ندخل الحكم عاجلا، وفي صف النضال سنبقى طويلا".


" ان استفحال الامراض التي تفتك بالامة، وعمق الآلام التي تحز في جسمه، لم تعد تنجع فيهما حيلة السياسيين مهما كانوا اذكياء بارعين، ولا بد لها من مناضلين مؤمنين، يستمدون روح نضالهم واسلوبه من روح امتهم واخلاقها".


نحن اذ ننتقد الفئة الحاكمة ونحذرها من عاقبة الاستمرار في سياستها، انما نوجه في الواقع تحذيرنا الى الشعب، لاننا لا ننتظر منها اي اصلاح. فهي خاضعة لمنطق منبعث من صميم تشكيلها، يحتم عليها الخطأ والفشل. ان الخطيئة الكبرى كانت في دخول هذه الفئة الحركة الوطنية وفي استلامها قيادتها. اذ ليس في وضع الطبقة الاجتماعية التي تشكلت منها القيادة الوطنية ما يؤهلها لحمل عبء النضال القومي ومتابعته بجرأة وأستقامة حتى النهاية. فمصالحها الاقتصادية وأعتباراتها العائلية تضرب حولها نطاقا من القيود توقفها في منتصف الطريق، وتغريها بالتراجع والتساهل.


يضاف الى ذلك نقص واضح في الكفاءة ومستوى التفكير، وشوائب عديدة تخالط تربيتها الاستبدادية الاستغلالية المتغطرسة، وصدق انتمائها الى الوطن الذي تبنت قضيته، وادعت انها تمثل روحه ومصلحته.


لقد كان محتوما على قيادة من هذا النوع ان تعجز عن القيام بواجبات نضال لا تميل اليه ميلا طبيعيا، وان تخفق في كسب الثقة والتأييد من شعب لا تشعر نحوه بحب او احترام. فتعبها من النضال وتلكؤها فيه لم ينتجا عن كون هذا النضال متعذرا او شاقا على الشعب، بل من ان الشعب لم يجد امامه القيادة التي توحي اليه الثقة بتجردها وكفاءتها، والتي تمهد له السبل، وتزيل من طريقه العقبات، وتنظمه على شكل يستطيع معه ان يظهر كل ما فيه من قوى وممكنات.


هذا ما أغرى رجال القيادة الوطنية بالتخلي عن مهمتهم الاولى، فانتقلوا الى ساحة السياسة الانتهازية، املا بأن ينالوا، عن طريق الحكم، وسلطاته ومغرياته، ذلك التأييد الاجتماعي القوي الذي عزّ عليهم كسبه خارج الحكم، فكانت النتيجة ان خسروا البقية الباقية منه.


ان السياسة الانتهازية التي تقوم على اغتنام الفرص، والرضا بالممكن، والاخذ والمطالبة، هي سياسة جائزة لها مبرراتها في بعض الظروف والاحيان. ولكن ما ليس له مبرر هو اعتبارها الغاية والمثال، وانها الشيء الوحيد المشروع، وان تحاول ما لا يعقل، فتدعي انها مستمرة في النضال امينة على اهدافه، وهي تجبر الشعب كل يوم على قبول التساهل والاعتدال.


لقد آن للشعب ان يعي هذه الحقيقة: في بلاد لا تزال محكومة من الاجنبي، كل حكم يقوم، هو بالضرورة خاضع لنفوذ هذا الاجنبي، ان كثيرا وان قليلا. ولا يعقل ان يقوم هذا الحكم وان يبقى يوما واحدا اذا لم يكن قد قبل بمبدأ التنازل عن بعض الحقوق والتساهل في بعض الاهداف. فمن التضليل المجرم ان يسمى الحكم الذي ينشأ في مثل هذه الشروط "بالحكم الوطني" مهما كانت مزاياه التي ترفعه عن مستوى العهود الرجعية. اما القيادة الوطنية في مثل هذا الحال، فليس لها غير مكان طبيعي واحد، هو مكان النضال في صف الشعب، من اجل التنبيه والتحذير، والضغط والمقاومة، كي تحول دون اي تفريط بحقوق الامة، وتمنع كل تساهل لا تقتضيه الضرورة القاهرة. اذن ففي البلاد التي لا يزال فيها اقل اثر لسلطة الاجنبي، لا يمكن ان تكون القيادة في الحكم، وان يكون مع الحكم وطنية صحيحة، وان تكون الزعامة الا في صف الشعب.


تلك هي الحقيقة، لن نفتر عن اعلانها، كما اعلنها صلاح الدين البيطار ناصعة جلية، وتحمل في سبيل ذلك النفي والاعتقال. ونحن نعلم ان الفئة الحاكمة لن يؤثر فيها النصح والتحذير، وانها بدلا من ان تتدارك النهاية المحزنة التي تمشي اليها، وتلتزم حدود الدستور، تحشد الآن قواتها للدفاع الأخير، فتتآمر على المجلس النيابي وتعرقل جلستين متواليتين له، وتصدر بلاغات ارهابية، وتستخدم اساليب في القمع والتعدي على الحريات ليست بعيدة عن اساليب الاستعمار.


في استطاعة الحكومة ان تسجن وتنفي وتضطهد فردا او افرادا. ولكن ما عساها تفعل بجيل جديد بكامله، يقدس الحق ويحن الى البطولة، أقسم ان يكون للعروبة وجه غير الذي اظهرها به السياسيون، وان يفهم الاخلاق والوطنية على غير ما فهم المحترفون.

عن مكتب البعث العربي
ميشيل عفلق
حمص في 14 آذار 1945

 

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الرابع