ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الرابع


مؤامرة الحل السلمي تكريس للهزيمة

 

ان الذين قبلوا بالحل السلمي (1) قد قبلوا به في الواقع قبل قرار مجلس الامن، منذ ان قبلوا بوقف اطلاق النار في حرب حزيران. ولقد كان بامكان هؤلاء الاستمرار في الحرب والاعتماد على الامكانيات اللامتناهية للأمة العربية. الا ان هذا الطريق ينطوي على مخاطرة ومجازفة بأنظمتهم، فضحوا بمصلحة الأمة العربية في سبيل المحافظة على انظمتهم واشخاصهم.

ولتبرير هذا التخاذل فقد قيل ان العدوان كان هدفه اسقاط الانظمة العربية لا التوسع فظهر بعد ثلاث سنوات ان هدف اسرائيل والإستعمار كان التوسع والمحافظة على النظام لانه ليست هناك غير هذه الانظمة تستطيع ان تضمن لاسرائيل تحقيق اهدافها التي هي الصلح اولا، والتوسع ثانيا، وتثبيت التجزئة بصورة نهائية ثالثا.

ان الاستسلام لمؤامرة الحل السلمي انما هو نهاية مرحلة من مراحل الثورة العربية في بداية سيرها المتعثر المتردد، انه أدانة لمرحلة زمنية كاملة وللعقلية والنظرة التي سادت المرحلة، وليست ادانة لأشخاص او لحكم او لنظام بالذات الا بمقدار تعبيرهم عن هذه العقلية والنظرة. وبالتالي فان التحليل المطلوب لهذه المرحلة يجب الا يستهدف تسجيل الاخطاء على طرف من أجل تحقيق مكاسب سياسية وحزبية لطرف آخر، وانما غايته جلاء الموقف على الطريق الذي ينقذ المستقبل.

ان روح التجرد والموضوعية لو كانت متوفرة الى حد جيد في مستوى القيادات والحكومات لوجب على الذين غلبتهم ظروفهم وظروف واقعهم واضطرتهم الى القبول بما لا يحقق الاهداف القومية، ان يفرحوا اذا رأوا القوى الثورية تندفع لمتابعة النضال ولكان واجبهم ان يسهلوا عملها ويشيدوا باخلاصها وبصحة سيرها بدلا من ان يحاولوا بكل الوسائل ان يخمدوا صوتها وحركتها، ويخفوا عن الأمة العربية وجود طريق غير الطريق الذي سلكوه، وامكانيات نضالية اكثر من التي استطاعوا تعبئتها.

انها نهاية المرحلة القطرية في تاريخ الثورة العربية... نهاية العقلية القطرية التي كثيرا ما تقترن بعقلية الانقلابات الفوقية التي تضع الوصول الى السلطة في رأس المسائل وتتوقف عند حدود الاساليب الاصلاحية بسبب قفزها السريع الى السلطة الذي لم يسبقه بناء للنضال الثوري بالحد الذي يجعل من السلطة وسيلة أمينة من وسائل الثورة، وسرعان ما تتحول السلطة الى غاية في حد ذاتها يكون الاصلاح مجرد ستار وتبرير لها. هذه العقلية القطرية التي تتجاهل ليس ضرورة تحقيق الوحدة العربية فحسب وانما وحدة الاعداء والاخطار ووحدة المصير العربي كواقع لا يحتمل الجدل، فتعتبر ان انسحاب جيوش العدو من اراضي اقطارها الى حدود 1967، يشكل هدفا وطنيا من حيث انه ضمانة للاستقلال القطري متجاهلة ماذا يعني بقاء اسرائيل في قلب الأمة العربية والارض العربية وتحالفها الدائم مع الإستعمار ومصالحه الآثمة في طول البلاد العربية وعرضها عندما تنتهي حالة الحرب ويفرض الاستقرار.

انها نهاية مرحلة العقلية القطرية والعقلية الاصلاحية الفوقية اللتين ليستا في الواقع الا شيئا واحدا واسمين لمسمى واحد، عقلية الالتهاء او بالأصح عقلية الهاء الجماهير (بالبناء والتعمير). فالبناء والتعمير في التخطيط القطري يتجاهل أمرين خطيرين، وحدة الاخطار الإستعمارية الصهيونية، ثم وحدة النضال العربي المتكافئة مع تلك الاخطار. ان مشاريع التنمية والبناء مهما تكن ناجحة، اذا توضع منذ البداية في اطار التخطيط والإعداد لمواجهة الاخطار الإستعمارية والصهيونية المهددة للوجود العربي وكوسيلة من وسائل مواجهة هذه الاخطار والتغلب عليها، أي كوسيلة لبناء النضال الجماهيري العربي الموحد بناء يضمن له الاستمرار والنمو المتزايدين فان قصة التنمية والتعمير تتحول الى الهاء وتضليل ما دام وجود اسرائيل ومن ورائها الإستعمار يستطيع ان يضرب في ايام جهود البناء في عشرين عاما.

ان الامم يمكن ان تهزم في الحروب والمعارك، فإذا كانت فيها مقومات الحياة واذا كانت مؤهلة لان تعي وتستوعب اسباب هزيمتها فإنها تتغلب عليها في وقت قصير او طويل. ولكن الهزيمة التي لا نهوض منها ولا أمل في التغلب عليها، الهزيمة التي لا تقتصر على ان تكون شيئا وقع وحدث في الماضي بل تتحول الى شيء دائم ومتجدد هي تلك التي تلبس لباس النصر وتطلى بطلاء القتال والاستبسال لكي يسهل قبولها وتمر خدعتها. هذا ما يطلب من الشعب العربي ان يقاومه ويضع له حدا حاسما وقد يتطلب الإعداد للنصر الأخير معارك قاسية وسنين طويلة شريطة ان يبدأ ذلك بالصدق والنظر الواضح الصافي. أما البداية بالتعمية وقلب الحقائق وتسمية الاشياء بعكس حقيقتها فهي بداية لا تقدر ان تلد أي نصر.

ان امتنا بحاجة في هذا الظرف المصيري الى ان تتزود بأعلى درجة من الوضوح والعمق والموضوعية في نظرتها الى حاضرها ومستقبلها، وبحاجة ايضا الى استلهام ماضيها الحضاري العريق، وحاضرها الثوري المليء بالتضحيات والبطولات التي قدمت فيه ملايين الشهداء في ثورات جسدت الفضائل الاساسية للانسان العربي وللانسان الثاثر في كل مكان والتي يجب ان تتسلح بها امتنا اليوم لرفض الاستسلام.

ان اوضاع الحل السلمي يجب ان تقاوم بكل الطرق، بفضح العقلية التي اوصلت ال الهزيمة والحل السلمي الذي هو تثبيت وتمكين للهزيمة. وبحماية المقاومة الموجودة وتعميقها وتوسيع افقها وتوحيد قواها حتى تكون هي الرد على العقلية التي اوصلت الى الهزيمة ولم تتوقف عند ذلك الحد بل استمرت تحاول تثبيت الهزيمة وفرضها على الاجيال المقبلة.

انه في حين يراد لمستقبل أمتنا ان يدفن ولإمكاناتها النضالية ان تقبر نتيجة تآمر البعض وقصر نظر البعض الآخر من الذين ظلوا أسرى للنظرة الاصلاحية والاقليمية، فان المطلوب هو متابعة النضال وتوحيده وانقاذ المستقبل العربي والامكانيات اللامتناهية التي تكفل لهذا النضال ان يستمر سنين طويلة وان يتسع حتى يشمل الارض العربية من الخليج الى المحيط.

 

تموز - 1970

(1) من حديث وجه الى عدد من المناضلين اللبنانيين في تموز 1970

 

الصفحة الرئيسية للجزء الرابع