ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الرابع


مصر تقود التيار العربي وتحميه

 

ما هي اخبار المباحثات من أجل الوحدة بين مصر وسورية؟

- انها تمضي فى طريقها ولسوف تسفر عن نتائج باهرة.

 

الاقطاع في سورية

هذا الحديث ينقلنا الى سورية.. ان في سورية ظاهرة غريبة. فبينما نرى ان الحكومة تتبع سياسة محورية تقدمية، فاننا نجد بعض الاوضاع المغرقة في الرجعية ما تزال قائمة داخل المجتمع السوري مثل بقايا النظام الاقطاعي.. فما تفسير هذا التناقض؟

- فى حزيران سنة 1956 تالفت وزارة شاملة لكل الاحزاب السورية، بعد ان عقدت هذه الاحزاب فيما بينها ميثاقا وطنيا اتفقت عليه، واشترك في هذه الوزارة حزب البعث والحزب الوطني وحزب الشعب والمستقلون..

وقد تم وضع الميثاق على الاسس التي أمكن الاتفاق عليها بين الاحزاب، فيما يتعلق بالنواحي الخارجية والعربية والداخلية. ولم تكن هذه الاسس تعبر تماما عن حزب البعث، ولكننا قبلنا بها مرونة منا مع الموقف، وحرصا على وحدة صفوفنا الداخلية. وكنا قد راعينا ان يكون في هذه الخطوط انسجام بين السياسة الخارجية والعربية والداخلية، لان كل ناحية منها تؤثر على النواحي الاخرى، فالسياسة العربية لسورية تؤثر على السياسة الخارجية لها والسياسة الداخلية تؤثر بدورها وبصفة خاصة على السياسة الخارجة ايضا. وما ان بدأت الوزارة فى انتهاج سياستها الخارجية التحررية طبقا للميثاق، حتى بدأت كتلة الاحزاب الرجعية تعمل على عرقلة هذه السياسة.

فالسياسة الخارجة تعتمد اساسا على الحياد الايجابي هذا المبدأ الذي يتفرع عنه مثلا مبدأ حرية التعامل في السوق الخارجية مع أية دوله فى العالم. وطبقا لهذا المبدأ وما يتفرع منه طرحت الوزارة مشكلة (مصفاة البترول) مثلا... ووجدت ان احسن العروض لديها هو عرض ( تشيكوسلوفاكيا).. ولكن الرجعية راحت تعرقل المشروع، وتدعي بأوهى المبررات ان العروض الغربية هي الافضل.

وتناست الكتلة الرجعية عن عمد انه على فرض قبول أي عرض غربي، فأنه لن يوفى به، فالمصفاة قد وعدتنا بها انكلترا من قبل عام 1949 ولم تنفذ وعدها قط. ولم يكن موقف الكتلة الرجعية من مسالة المصفاة موقفا ضد سياسة سوريا الخارجية المتحررة التي اختطها الميثاق فقط، فقد كان ايضا ضد سياسة سوريا الداخلية التي تعتمد اساسا على التصنيع، واستخدام الآلة وتوفير الخبرة الفنية. ولكي تعرقل الكتلة الرجعية سياسة سوريا الخارجية المتحررة راحت تقيم العقبات فى سياستنا الداخلية فسوريا بحاجة الى التصنيع والآلة والخبرة الفنية، ولكي تتوافر هذه الوسائل لدينا ينبغي ان نعتمد على سياستنا الخارجية المتحررة، سياسة ان نأخذ ممن يعطي دون اي شرط يمس سيادتنا في المدى القريب او البعيد، ولكن التصنيع والآلة والخبرة الفنية لا يعطيها الغرب بدون شروط، ولا سبيل اليها تمشيا مع نصوص الميثاق، الا من الكتلة الشرقية، والدول المحايدة. ثم ان التصنيع والآلة والخبرة هي أمور تهدد كيان الرجعية ومصالحها الخاصة فى داخل سوريا، واذن فلتقف الرجعية ضد هذا التصنيع والآلة والخبرة، فبهذا الموقف تحافظ الرجعية على بقاء الاقطاع وتحكمه مع رأس المال فى سياسة الوزارة وبالتالي فى الشعب نفسه. وبهذا الموقف تعرقل الرجعية سياستنا الخارجية المتحررة وخاصة في الناحية الاقتصادية التي يهم الإستعمار -كحليف للرجعية- عدم توفرها لدينا.

اما فى مشكلة السلاح فلم يستطع الرجعيون اثارة العقبات فيها امام الرأي العربي فى سوريا، لأننا كنا في حاجة ماسة الى السلاح، وكان الغرب ممتنعا عن بيع السلاح لنا وكانت اسرائيل توالي اعتداءاتها علينا. ومن ناحية التشريعات الاصلاحية لرفع مستوى الفلاحين والعمال، فان الكتلة الرجعية كانت تعارض الوزارة في تنفيذها بشتى الاسباب وبدون اسباب. وهكذا وجدت الوزارة نفسها عاجزة عن الاستمرار في العمل طبقا للميثاق، وكان الوعي الشعبي يغلي بالسخط ضد مواقف الكتلة الرجعية المكشوفة وخاصة ان الكتلة الرجعية كانت تعرقل السياسة العربية نفسها في سوريا، بمحاولة وضع العقبات المصطنعة في طريق الاتحاد بين سوريا ومصر. وجاءت الايام فكشفت الستار عن ان هؤلاء الرجعيين يشتركون في المؤامرات ضد الإتجاه التحرري لمحاولة جر سوريا الى الارتباط بالغرب بسياسة الاحلاف والقواعد والمشروعات الإستعمارية، وكان بعض نواب الرجعية قد اشتركوا في هذه المؤامرات، ولما حاولت الحكومة رفع الحصانة عنهم لقيت معارضة شديدة من الفئات الرجعية وسقطت الوزارة نتيجة لكل هذه المشاكل والتناقضات القائمة بين سياسة الوزارة التي رسمها الميثاق، وبين الرجعيين الذين وقعوا على الميثاق، ونتيجة للتناقض الحاد بين سياسة الوطنيين التحررية، وسياسة الرجعية التي تعتمد على الاقطاع والاستغلال والإستعمار.

ولكن الوعي الشعبي في سوريا، استطاع ان يركز السلطة في ايدي الوطنيين دون الرجعيين بمعنى ان التيار الوطني قد رجحت كفته بعض الرجحان بفضل الوعي الشعبي فتم التعاقد على المصفاة وتوقيع الاتفاقيات الاقتصادية ولكن التناقض لم يحل كله حلا كاملا. وينبغي ان يكون واضحا:

اولا: ان الرجعيين الذين يبدون تأييدهم للاتجاه التحرري للسياسة في سوريا انما يفعلون ذلك لقلة حيلتهم امام الضغط الشعبي، ولا يفعلونه عن اقتناع ولا عن ايمان..

ثانيا: ان الرجعية في سوريا قد تتسامح الآن في تأييدها للسياسة الخارجية الحرة، ولكنها تقف عقبة دائمة في سبيل الإصلاح الداخلي.

ولكن ينبغي ان نطمئن لان الوعي الشعبي يزداد في سوريا، والسلطة السياسية للرجعيين تنهار يوما بعد يوم، وبالتدريج سوف يستطيع الشعب العربي في سورية ان يقضي على الاوضاع الرجعية مثل الاقطاع.. ويومها تصبح سوريا مثل مصر جزءا عربيا متحررا من الرجعية وخاصة بعد ان يتم تحقيق الاتحاد العربي بين مصر وسوريا.

 

لجان تخطيط مشتركة

متى يتم تنفيذ مشروع انتقال الفلاحين المصريين الى الاراضي الزراعية في سوريا؟

- الواقع ان الامر لا يعدو ان يكون اكثر من فكرة.. انه لم يصبح مشروعا بعد.. فالمسالة تحتاج الى دراسة تفصيلية دقيقة.. ولقد قال لنا الرئيس جمال عبد الناصر اثناء زيارتنا له كأعضاء في وفد سورية في مؤتمر التضامن.. قال الرئيس:(( ان الفلاح المصري لم يألف الهجرة من موطنه لقد تعود على الاستقرار في ارضه مهما كلفه ذلك من مشقات)... وهذا معناه ان هناك كثيرا من الجهود يجب ان تبذل لتهيئة الفلاح المصري تهيئة نفسية حتى يهاجر الى سورية او غيرها من اجزاء الوطن العربي، وتتوفر هذه التهيئة النفسية بالطبع اذا ما توفرت الضمانات المؤكدة لنجاح مشروع الهجرة من تامين للعمل والمسكن ومستقبل الابناء حتى يستطيع الفلاح المصري ان يهاجر باطمئنان وراحة، وعلى كل حال فهناك لجان مشتركة للتخطيط ضمن اللجان التي تدرس مشروع الوحدة بين مصر ووسورية، وسوف تقوم اللجان بدراسة كافة المشروعات الخاصة بالوحدة المصرية السورية من كافة الجوانب.

 

في تونس اتجاه سياسي خاص يتزعمه (الحبيب بورقيبة)... فما رأيك في هذا الإتجاه، وما هو مستقبله؟

- في السياسة الرسمية لتونس اتجاه خطر يميل الى الارتباط بالغرب وبأحلافه وبمساعداته ويجب ان نحذر هذا الإتجاه كل الحذر فان خطره لا يقتصر على تونس بل يشمل الوطن العربي كله، ولكن لابد مع ذلك من التفريق بين وضع الحكم في تونس ومراكش، وبين الحكومات الرجعية في الشرق العربي كحكومة العراق وغيرها فحكومة نوري السعيد وامثالها في اقطار اخرى لا عذر لها في معاكسة الإتجاه التحرري والشذوذ عن الموقف العربي الإستقلالي، ولا يوصف تصرفها الا بأنه خيانة، ولا يفسر الا بتهالك الحكام الرجعيين على مصالحهم الخاصة وبيعهم انفسهم وبلادهم للاستعمار، اما الوضع في تونس وفي المغرب عامة فيختلف عن هذا. لقد بقي المغرب العربي خلال زمن طويل خاضعا لنوع ثقيل من الإستعمار هو الاحتلال، وكاد هذا الإستعمار ان يشوه مقومات شخصيته العربية، كما كان هنالك ما يشبه القطيعة بين المغرب والمشرق فاضطرت الحركة الإستقلالية التحررية ان تعتمد على نفسها دون أمل كبير في معونة الاقطار العربية الاخرى. وكان من سوء فهمها لحقيقة الامكانيات العربية في الشرق العربي، انها اعتبرت الجامعة العربية في الشرق العربي هي الممثلة لهذه الامكانيات فلما لم تسعفها الجامعة العربية كادت تيأس من الشرق العربي كله، ثم سارت في طريق متأرجحة في مقاومة الإستعمار ومشت على سياسة الأخذ والمطالبة واتبعت أسلوب انتهاز الفرص.. فمن واجب الاقطار العربية المتحررة ان تزيد اهتمامها باقطار المغرب العربي، وان تزيد غيرتها عليها حتى تخلق فيها الثقة بقدرة الأمة العربية على التحرر الكامل دون مساومة وذلك بالاعتماد على قواها الذاتية وحدها.

وهناك ضمانة كبرى لتصحيح كل خطأ وانحراف في سياسة الحكومات بتونس ومراكش، هي ثورة الجزائر. فبمقدار ما نسهم في تغذية هذه الثورة وفي امدادها بجميع وسائل المعونة نضمن لشمال افريقيا تحررا كاملا من الإستعمار وارتباطا قويا ببقية اجزاء الوطن العربي، ذلك لان ثورة الجزائر ثورة شعبية تقدمية اشتراكية ومتى توافرت عناصر النضال التحرري في اتجاه شعبي اشتراكي كان من المقدر المحتوم ان يرتبط هذا النضال بالقومية العربية..

وان في مساعدة الفئة الحاكمة بتونس لثورة الجزائر، ولو جزئيا، ما يجعلها غير ميؤوس منها تماما وان بعض البوادر التقدمية قد ظهرت في ذلك الحكم كاعلان النظام الجمهوري وكتحقيق بعض الاصلاحات الاجتماعية.

 

دعوة غير واقعية

هناك دعوة ينادي بها البعض وهي ايجاد نوع من التعايش بين الإتجاه الذي تمثله مصر وسوريا والإتجاه الذي يمثله العراق مثلا.. فهل هذا الوضع ممكن؟

كلا...انه مستحيل، ذلك لان القوى الرجعية تعمل عملا تخريبيا عن طريق ارتباطاتها العسكرية ضد القوى التحررية، وليس في الامكان ابدأ تجميد الوضع بين التيارين فلا بد ان يستمر الصراع. حتى تصل المعركة ال نتائجها المقدورة...فدعوة التعايش بين التحرر والارتباط بالإستعمار دعوة غير واقعية ولا يمكن تحقيقها..

 

الإستعمار يساوم

في البحرين مشكلة جديدة.. حيث تطالب ايران بضمها اليها فما هي هذه الحقيقة؟

يعمل الإستعمار دائما في اية بقعة ينزل بها على خلق ظروف مساعدة له على الاستمرار او على المساومة.. وهذا ما فعله في البحرين اذ اخذ الانكليز يشجعون هجرة الايرانيين الى البحرين حتى اصبح في البحرين نسبة عالية من الايرانيين.. وبدأت بريطانيا تساوم حكومة العراق وحكومة ايران حول ضم البحرين الى احداهما.. ولكن البحرين جزء من الوطن العربي الكبير، وهذا هو ما سيحدد مستقبلها رضي الانكليز ام لم يرضوا..

 

عام 1957

(1) حديث لمجلة "البوليس" المصرية أجراه في القاهرة مع الأستاذ ميشيل عفلق رجاء النقاش في عام 1957، وأعيد نشره في جريدة "البعث".

 

الصفحة الرئيسية للجزء الرابع