ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الرابع


القومية العربية والسياسة التحررية

 

قال محمد المبارك: (ان الإتجاه الذي تسير فيه جبهة التجمع، وان كانت في سياستها الخارجية تسير على اساس الحياد الايجابي، ليس اتجاها سليما يحافظ فيه على خصائص القومية العربية التي يفترض انه يدافع عنها ويحميها، بل هو اتجاه تنهار فيه هذه الخصائص امام التيارات الشعوبية، ويكون خدعة وضحية للنزاعات الشعوبية والتيارات العالمية التي تصبح طاغية ومسيرة للاتجاه العربي، ورابطة له بعجلة احد المعسكرين من الوجهة الفكرية والعقائدية. وان الإتجاه التحرري السليم من الوجهة الفكرية العربية هو ذلك الذي يحارب المعسكر الإستعماري، ويعامل المعسكر الصديق معاملة الند للند، والصديق للصديق، لا معاملة التابع الذي يفتح باب بلاده على مصراعيه لغزو فكري وغير فكري).

وقد عرض (الرأي العام) هذا الحديث على الأستاذ ميشيل عفلق. بوصفة الأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي، فقال بالتعليق عليه (1):

* * * * *

كل رأي له معنيان في آن واحد: المعنى النظري المجرد، والمعنى العملي المرتبط بالظرف الذي يقال فيه هذا الرأي، وبالتأثير الذي يمكن ان يحدثه. ولننظر الآن الى الرأي الذي أدلى به الأستاذ محمد المبارك على ناحيتيه النظرية والعملية، فهو يقول: "ان اتجاه جبهة التجمع القومي، وات كانت في سياستها الخارجية تسير على أساس الحياد الايجابي، ليس اتجاها سليما يحافظ فيه على خصائص القومية العربية، بل هو اتجاه تنهار فيه هذه الخصائص أمام التيارات الشعوبية التي يكون لها الغلبة".

ان هذا القول يعني ان سياسة التحرر والحياد الايجابي، أتاحت الفرصة للحزب الشيوعي لمضاعفة نشاطه الفكري والعقائدي، نتيجة لوقوفه في صف الدفاع عن حرية الأمة العربية واستقلالها ضد ا الهجوم الإستعماري الطاغي، وهذا واقع لا ننكره. ولكن قول الاستاذ المبارك يفترض أشياء ثلاثة لا نقره عليها:

اولا: أن خصائص القومية العربية كانت قبل السياسة العربية التحررية هي السائدة، وصاحبة الغلبة والسيطرة دون منازع.

ثانيا: أن هذه الخصائص العربية شيء جامد ساكن، يحافظ على سلامته ونقائه بالعزلة والحجب، ويتعرض للضياع والانهيار اذا خرج الى الهواء الطلق وواجه اتجاهات وعقائد مختلفة عنه.

ثالثا: ان خصائصنا وشخصيتنا القومية شيء منفصل عن مصيرنا السياسي والاجتماعي، وعن حريتنا واستقلالنا ووحدتنا وتقدمنا.

ونجيب: اولا - بان خصائص القومية، او الإتجاه العربي العقائدي،لم يكن قبل ظهور السياسة التحررية سائدا مسيطرا، بل كان دوما موضع حرب خبيثة وهجوم لئيم من قبل الدعاية الغربية الإستعمارية التي ما زالت منذ ان دخل الإستعمار ارض العرب في المغرب والمشرق تستخدم جميع الوسائل لهدم قوميتنا العربية والتشكيك فى مقوماتها، والطعن في تاريخها، والحؤول دون انبعاثها وتماسكها. وقد تجلى ذلك في اصطناع التفرقة العنصرية داخل الأمة الواحدة، وإثارة النعرات الطائفية والاقليمية، ومحاولة استغلال الدين لتفتيت القومية العربية، واستغلال التقدمية الزائفة لتفسيخ الدين والقيم الروحية. وكل ذلك بقصد إيقاف اليقظة العربية التي تقدمت واقتربت من النصر رغم هذه العوائق كلها. ولم يعرف الوطن العربي منذ مائة عام حربا دعائية واستعمارية كالتي يشنها علينا الإستعمار اليوم. سواء فى الخارج او فى الداخل بشرائه الاقلام والدعاية، ونظرة واحدة الى صحافة البلد ترينا ان تسعة اعشارها منساقة مع دعاية الغرب الإستعمارية.

ثانيا- ان قوميتنا العربية التي استطاعت ان تستيقظ وتأخذ ملامحها وتهتدي الى طريقها رغم كل هذا التخريب الإستعماري، قد قوي ساعدها واشتد، وبلغت من النضج حدا لم يعد يخشى عليها معه ان تنفتح على الإتجاهات العقائدية وان تتفاعل معها، بل على العكس فان هذا الانفتاح يغذيها ويقويها ويساعدها على توضيح معالم شخصيتها وخصائصها. واذا كان هناك من مبرر قبل عشر او عشرين سنة للتخوف على القومية العربية من غزو العقائد الاخرى لها، فان هذا التخوف لم يعد له من مبرر اليوم. ويجب ان نعرف ان البعض، عندما يظهرون تخوفهم من الدعاية العقائدية الشيوعية على قوميتنا العربية، فانهم يهدفون من وراء ذلك الى اصطناع مبرر لتغيير اتجاه السياسية العربية التحررية التي نسير عليها، وهم بهذا لن ينقذوا عقيدتنا القومية من الدعاية الشيوعية، بل يسلمونها وحيدة عزلاء، لحرب غير متكافئة بينها وبين الدعاية الغربية الإستعمارية بكل ما تملكه من وسائل ضخمة. ومن المهم ان نلاحظ ان الذين يتخوفون على قوميتنا وعقيدتنا من الغزو الشيوعي العقائدي لها، يتجاهلون الغزو الفكري والعقائدي والدعائي الإستعماري لقوميتنا وعقيدتنا.

ثالثا - ان الخطأ والخطر هما في اعتبار العقيدة القومية شيئا منفصلا عن مصير امتنا السياسي، ذلك ان العقيدة موجودة في حياة الأمة وفي الحرص على بقائها واستقلالها وتحررها وليس العكس صحيحا، ولهذا فان الخطر كل الخطر على عقيدتنا وقوميتنا كامن في تجاهل الاخطار والمؤامرات الإستعمارية التي تهدد وجود امتنا فيما لو قضي على اتجاهها التحرري بحجة مكافحة ما يسمونه خطر العقيدة الشيوعية، لان النتيجة الحتمية لذلك، ستكون تسليم امتنا واقطارنا فريسة سهلة لقوى الإستعمار الغاشم تنهب ثرواتها، وتفسد اخلاقها، وتثير التفرقة والانقسام بين اقطارها، وتعد لتوسع اسرائيلي على حساب كيانها.

وليس ادل على صحة ذلك من ان قوميتنا وعقيدتنا العربية لم تكن أيام عدم أخذنا بالسياسة العربية التحررية وايام حجزها عن التفاعل مع العقائد الفكرية الأخرى على مثل المتانة والوضوح التي صارت اليهما اليوم. واذا ما لاحظنا الضعف النسبي لقوميتنا وعقيدتنا العربية في الاقطار التي تسير على سياسة مغايرة للسياسة العربية التحررية، تحت ستار التخوف من الغزو الشيوعي، ادركنا ان الخطر الحقيقي الذي يهدد قوميتنا وعقيدتنا ليس التفاعل الفكري مع المذهب الشيوعي وانما هو إبعاد الإستعمار بوسائله المختلفة بعض الاقطار العربية عن السير في السياسة العربية التحررية تحت ستار التخوف من خطر الشيوعية الدولية. ان اتقاء الشيوعية العقائدية لا يكون بالسلبية وانما بالعمل الايجابي، وفي مقدمة الاعمال الايجابية دعم الإتجاه العربي التحرري، والدفاع عن القومية العربية ضد هجمة الإستعمار الجديد وخطر اسرائيل. وكلما اتسع الصف التحرري وعظم، تصبح الكلمة الاخيرة للعقيدة العربية والقومية العربية.

رابعا - ان المعنى العملي لهذه الدعوة التي يقول بها الاستاذ مبارك يظهر ويتضح ويعلن عن نفسه من الوقت والظرف والملابسات التي يقال فيها.

فصدور هذا الرأي في هذا الظرف بالذات عن رجل يعمل في الحقل السياسي، له نتيجة واحدة عملية سواء رمى اليها ام لا، وهي ان هذا الرأي ذو ارتباط وثيق بالأحداث الجارية في الأردن، وفي الانقلاب الإستعماري الرجعي الذي وقع في هذا القطر العربي، كما انه ذو صلة بما كان يراد بسوريا في المعركة الانتخابية الأخيرة من اتمام لهذا الانقلاب. وان من الخطأ اعتباره رأيا مدرسيا مجردا، وانما يجب ان يفهم على ان نتيجته العملية في حالة الأخذ به تكون جزءا مما يبيته الإستعمار للقومية العربية المتحررة من خطط ومؤامرات، من بينها تفكك الجبهة العربية المتحررة ليسهل وقوع كل قطر عربي على حدة في قبضة الإستعمار ويكون فريسة أسهل لاطماع اسرائيل.

ولا بد ان نذكر ان القومية العربية تواجه اليوم خطرا استعماريا جديدا يتجلى في السياسة الاميركية المسلحة بوسائل الرشوة والافساد واستخدام القوة، وان من بين ما تستعين به امريكا على ضرب القومية العربية المتحررة هي المبالغة بخطر الغزو الشيوعي الفكري لقوميتنا لتنسينا خطر الإستعمار واسرائيل.

اذا حقق الإستعمار مآربه في امتنا فلن تكون لنا قومية ولا عقيدة وانما ستهبط امتنا الى درك القطعان المستغلة المستعبدة، وسيكون مصيرنا الذل والاستكانة ومحو معالم قوميتنا وعقيدتنا. وفي مثل هذا الحال لا يمكن ان يستقيم التفكير لا بالمثل ولا بالعقيدة.

11-آيار- 1957

(1) أعيد نشره في جريدة (( البعث )) في ايار 1957.

 

الصفحة الرئيسية للجزء الرابع