ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الرابع


انجازان في عام واحد

اذا زال العائق الأجنبي ظهر الشعب بوجهه الحقيقي

 

لم يكد يمضي عام واحد على جلاء المستعمر عن أرضنا(1)، حتى كان الشعب العربي في هذا الجزء المتحرر من وطنه الأكبر قد قدم جملة براهين عملية قوية على إن الإستعمار، بما يخنق في الأمة من مواهب ويكبت من قوى وإمكانيات ويشوه من أخلاق ويزيف من قيم، لهو اكبر نقمة يمكن أن تحل بها، وان الإستقلال هو حقا نعمة الله الكبرى.

إن ما حققه الشعب خلال هذا العام قد جاء ردا صارخا عنيفا على كل المستعمرين الغاشمين الذين كانوا يفترون على شعبنا الافتراءات، فيصغرون من شانه، ويطعنون في حيويته وكفاءته وخصائصه فلقد تطور الشعب بسرعة عجيبة هي من ابرز خصائص العرب، وبرهن بأجلى صورة على أن فيه استعدادا صادقا أصيلا، ليس لان يلحق بركب الأمم الناهضة فحسب، بل لان يكون لها في اقرب وقت، خير مثال للتحرر والتقدم.

لقد قام شعب سوريا العربي، خلال هذا العام، بعملين خطيرين يصح بان يؤلفا معا ثورة سياسية اجتماعية، وبان يخلدا في تاريخ الأمة العربية فتذكرهما الأجيال الآتية كما يذكر الانكليز حادث "العهد الكبير" وكما يذكر الفرنسيون يوم سقوط الباستيل. أما العمل الأول، وهو القسم السلبي من تلك الثورة الخطيرة، فقد تم قبل ستة أشهر، حين اجتمعت البلاد، بوعي عميق رائع، على مقاومة المحاولة الدكتاتورية التي قامت بها حكومة "الملاكات". فكانت تلك المقاومة السلبية أول ظفر للشعب بحريته الداخلية بعد أن كسب حريته الخارجية بإجلاء الأجنبي عن ارض الوطن. وهكذا أصبح الدستور، منذ ستة أشهر فقط، ملكا حقيقيا للشعب، امتلكه امتلاكا نهائيا كاملا بعد أن أدى ثمنه على دفعتين: الأولى في نضاله ضد الإستعمار. والثانية في نضاله ضد الفئة الحاكمة المستغلة، تلميذة الإستعمار ووريثته.

وأما القسم الثاني الايجابي لهذه الثورة، فهو العمل الذي تم اليوم بتحقيق الانتخاب على درجه واحده، وإذا جازت المفاضلة بين عملين كل منهما جزء متمم للآخر، وكل منهما عظيم خالد، فلا شك إن الأخير منهما هو الأجل في الشأن والأعظم في الأثر، وهو الذي يكمل الأول ويعطيه معناه الحي، ومدلوله العملي.

إذ لو لم ينل الشعب هذا الظفر الحاسم في معركة قانون الانتخاب، لبقي ظفره في معركة الملاكات والدستور ناقصا أجوف، ولبقيت الحريات العامة، التي كسبها بنضاله العنيد المجيد شيئا نظريا سلبيا، لان الحرية التي لا يدعمها دخول الشعب في ميدان السياسة، وممارسته الصحيحة لحقه في انتخاب ممثليه، ليست سوى لغو وترف عقيم، وأداة للهدم والتخريب، تتيح للشعب أن يتظلم، دون أن يجد سبلا إلى ما يزيل الظلم عنه، وتسمح له بان ينقد ويعترض، بينما تحرم عليه أن يصلح ويبني. وأخيرا لان الحرية التي لا تتجسد في حكم شعبي صحيح، هي حرية واهية الأساس، مضعضعة البنيان، معرضة في كل لحظة للغدر والعدوان من قبل مجالس نيابية على شاكلة المجلس الحالي، تتشكل الأكثرية فيها من طبقة مناوئة للشعب، متآمرة عليه، غريبة عن روحه، عدوة لمصلحته.

لقد خطا الشعب خطوتين حاسمتين في طريق المستقبل العربي الحر الموحد الراقي. وان لمن حقه أن ينظر إلى هذا المستقبل نظرة ثقة وتفاؤل، كما ان من حق العرب في سائر أقطارهم أن ينظروا إلى سوريا العربية نظرة أمل ورجاء، فلقد برهن شعبها المناضل الواعي على انه يقدر نعمة الإستقلال ومسؤوليته، ويعرف كيف يفيد من هذا الإستقلال لبناء حكم شعبي عادل حر، يكون فيه للعرب قدوة ومعونة، فيرون فيه الصورة الصادقة للشعب العربي إذ يتخلص من شوائب الحكم الأجنبي، ويجدون فيه المساعدة الصادقة الفعلية لهم في نضالهم من اجل الحرية والوحدة.

 

ميشيل عفلق

30 نيسان 1947

(1) جريدة " البعث " العدد 161

 

الصفحة الرئيسية للجزء الرابع