ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الرابع


علة الضعف في سياستنا الخارجية

 

نشرت أمس المذكرات التي قدمتها الحكومة السورية إلى حكومتي بريطانيا والولايات المتحدة يشأن فلسطين(1). ويقيننا إن كل عربي طالع هذه المذكرات خرج منها بالشيء الكثير من الشك واليأس، لا لمآخذ يأخذها على نصها أو روحها أو ما تضمنته من حجج أو من عرض واف لمطالب العرب وحقوقهم الصريحة العادلة. بل إن مبعث الشك واليأس هو سياسة الاقتصار على المذكرات، وسياسة التصريحات التي لا طائل تحتها، والقرارات التي لا يتبعها تنفيذ.

يتساءل كل عربي: لماذا تأتي أعمال الحكومات العربية على غير ما يجيء في تصريحاتها وأقوالها وتعهداتها؟ لماذا يبتلى العرب بهذا العجز الواضح المعيب، فلا يكون لأقوالهم حرمة، ولا لقراراتهم قوة مؤيدة. ولماذا تكون هذه الملايين العديدة من العرب عاجزة عن حل مشاكل -هي بالرغم من صعوبتها- غير مستحيلة الحل، وان اقتضى ذلك آخر الأمر أن تلجأ هذه الملايين إلى استعمال حقها المشروع في الدفاع عن النفس، ببذل الأنفس واقتحام ساحة النضال الدموي؟ وهو يتساءل أيضا: لو كانت قرارات الدول العربية جدية صادقة، فطبقت المقاطعة الاقتصادية على الصهيونيين وعلى الدول التي تؤيدهم هل كان يبقى في فلسطين خطر صهيوني، وهل كان يبقى في العالم دول تستهين بإرادة سبعين مليونا من العرب يعيشون في ارض لا يمكن للعالم أن يستغني عن خيراتها، أو يستخف بموقعها الجغرافي الممتاز؟

ولكن العربي إذ يطرح على نفسه هذه الأسئلة يعرف أيضا إن الجواب الوحيد لها كلها هو هذه الحقيقة المؤلمة التي تكشف عنها الحوادث والتجارب وتزيدها وضوحا يوما بعد يوم: إن الحكومات العربية لا تمثل هذه الملايين العديدة من الشعب العربي، ولا تعتمد على قوتها ولا تستند إلى إرادتها وتأييدها، ولا تستطيع أن تحشد كل ما لهذه الملايين من قوة، وان تستخرج جميع ما فيها من إمكانات.

والعربي يعرف بوضوح متزايد يوما بعد يوم إن علة هذا التناقض بين الشعب العربي وحكوماته هي ان هذه الحكومات كلها تخرج من طبقة واحده فاسدة، الطبقة الإقطاعية الاستثمارية أسيرة المصالح الاقتصادية والتزعم الاجتماعي القطري المصطنع الكاذب. وطبيعي أن تكون مصلحة هذه الحكومات، ممثلة الطبقة الاستثمارية، نقيض مصلحة الملايين من الشعب العربي الذي تستثمره، دون ما رحمة ولا حياء. لذلك كان مقدرا عليها أن تخشى الشعب بقدر ما تخشى الدول الإستعمارية التي تنافسها على استعباده واستعماره. وهى ترغب صادقة في تخليص البلاد العربية من كل استعمار أجنبي لكي يزول أمامها كل منافس لتحكمها واستثمارها، وهذا هو ما تسميه بـ " وطنيتها". لكنها بحكم وقوعها بين عدوين خطيرين: الشعب والإستعمار الأجنبي، وبحكم ضعفها وقلة وسائلها، مضطرة إلى المساومة ومحاولة التوفيق. والتوفيق بين موقفها من الشعب وبين موقفها من الدول الأجنبية لا يعني إلا شيئا واحدا وهو: انه سيبقى دوما لتلك الدول الإستعمارية يد ونفوذ في شؤون العرب وبلادهم، ولن يُحل هذا التناقض إلا متى وقف العرب وحكوماتهم في صف واحد ضد الإستعمار. أي متى توصل العرب إلى التخلص من حكوماتهم الحاضرة واختيار الحكومات إلى تمثل مصلحة الشعب لأنها تخرج من الشعب.

على ضوء هذه الحقيقة يستطيع العرب أن يدركوا منطق السياسة الخارجية التي تنتهجها الحكومات العربية في الظرف الحاضر، ولا يستغرب أن يكون منطقا معكوسا متناقضا إذا عرفنا انه تعبير صادق عن وضع تلك الحكومات المعكوس المليء بالتناقض. فالدول التي تشكل اليوم اكبر عثرة في طريق حرية العرب وسلامة أرضهم ونمو قوميتهم هي بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة. والسياسة التي لها وزنها الثقيل في الضغط على مقدرات العرب هي بصورة خاصة سياسة الدولتين الإنكلو سكسونيتين بريطانيا والولايات المتحدة. وليس لهذه السياسة ما يتكافأ معها في القوة والتأثير، ويشكل معدلا لخطرها، إلا سياسة دولة كبرى تقف للاستعمار البريطاني والأمريكي بالمرصاد هي دولة الاتحاد السوفييتي. وان من ابسط القواعد السياسية ومن أولى الواجبات القومية التي تترتب على حكومات واعية لمصلحة بلادها، حرة في تقرير موقفها السياسي الدولي هي أن تستعين على أعدائها بأعداء أعدائها، أو على الأقل أن تهدد بهم وان تهتم بمكافحة العدو الجاثم على قسم كبير من أراضيها، والعدو المعتدي على صميم قوميتها -كما هي حال الدول المؤيدة للصهيونية- لا أن تكافح عدوا شره بعيد، وخطره غير أكيد.

ولكن نظرة سريعة يلقيها العربي على حكومات بلاده، وعلى الأسس الواهية والأوضاع الرثة البالية التي تقوم عليها تلك الحكومات العائشة من فقر ملايين العرب، من جهلهم وإذلالهم، تكفي لإفهامه سر التناقض الذي يجعل السياسة العربية الحاضرة تحارب من جهة الاحتلال البريطاني في مصر والعراق وشرق الأردن، وتحارب الاحتلال البريطاني والتدخل الأمريكي الداعمين لعدوان الصهيونية في فلسطين، وتسير من جهة أخرى في ركاب السياسة التي تحاربها، وتمد يدها إلى تركيا بلا مقابل ولا ثمن متناسية لواء الإسكندرون وواجبها في السعي إلى استرداده في هذا الظرف المؤاتي. أما التذرع بخطر الشيوعية فهو لغو ومغالطة لان التعاون بين الحكومات العربية وبين الاتحاد السوفييتي لا يستوجب فتح البلاد لغزو الشيوعية بل على العكس ينقذنا من وساطة الحزب الشيوعي. ولنقل أخيرا أن الحكومات الرجعية الاستثمارية التي مني بها الشعب العربي في جميع أقطار، هي في الواقع اكبر دعاية للشيوعية وأقوى دعامة لتركيزها في أرضنا. وان الحكومات الصادرة عن الشعب الممثلة لمصلحته، هي وحدها التي تقدر على درء خطر الشيوعية والصمود لها صمودا منيعا جبارا.

لن تحقق أهداف العرب في تحرير بلادهم من الإستعمار الأجنبي وفي المحافظة على كيانهم المستقل إلا إذا كانت لهم سياسة خارجية حرة تستلهم في نهجها المصلحة العربية وتضع هذه المصلحة فوق كل شيء ولن يكون للعرب سياسة خارجية حرة ما دام لهم حكومات لا تستطيع أن تعتمد على تأييد الملايين من أفراد الشعب العربي لان مصلحتها هي نقيض مصلحة هذا الشعب.

 

ميشيل عفلق

10 تموز 1946

(1) افتتاحية جريدة " البعث "، العدد 6 الصادر في 10 تموز 1946

 

الصفحة الرئيسية للجزء الرابع