ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الرابع


مشاكل العرب السياسية

 

إن حزب البعث العربي في سوريا (1)، الذي دأب في معالجة القضية العربية باعتبارها كلاً لا يتجزأ، والذي كان صدى للإرادة العربية الواعية في كل قطر عربي، يرى في هذا البحران الغامض، ان يعرب عن رأيه في الأوضاع السياسية الكبرى التي لها صلة صميمة بكيان العرب بالصراحة التي تقتضيها المصلحة العربية والتي هي قاعدة أساسية في نهج هذا الحزب.

وقبل البدأ بتشريح القضايا العربية، وبحث علاقات العرب مع الدول الأجنبية، يجدر بنا أن نقر أمرين، ونجعلهما من بديهيات الأمور. وعلى ضوء هذه البداهة نعرض آراءنا:

1- لا تقوم صداقة بين العرب وبين دولة من الدول الأجنبية الا بقدر ما تحترم تلك الدولة حقوقهم، وتعترف عمليا بوجودهم وحريتهم واستقلالهم من جميع نواحيه.

2- ان مصلحة الأقطار العربية هي واحدة، فلا ينظر إلى دولة أجنبية في قطر عربي نظرة صداقة، اذا كانت هذه الدولة تسيء إلى قطر عربي آخر وتنتقص من حقوقه. فلا يحمد مثلا موقف انكلترا في سوريا ما دامت تسيء إلى العراق او مصر أو أية إمارة عربية في أقصى الحدود من بلاد العرب.

العرب والحلفاء

لئن كان في موقف الحكومات العربية وتصريحاتها منذ ابتداء الحرب الاخيرة حتى الآن ما يوهم بان العرب ينظرون إلى الدول الغربية الإستعمارية، التي لها علاقة سيطرة او نفوذ بأكثر بلدانهم، نظرة صداقة وولاء واطمئنان، فان مواقف الشعب العربي المتكررة خلال هذه الفترة، والمظاهر الصادقة لشعوره وتفكيره وعمله، ما برحت تدل أقوى دلالة على انه منذ بداية الحرب العالمية الاولى لم يغير نظرته إلى هذه الدول التي تستر بها مطامعها. وهو لئن أيّد المبادئ الديمقراطية التي طبع عليها منذ القديم، فأنه لم يطمئن إلى "الديمقراطيات" التي ما زالت تخرجه من عداد الشعوب التي يحق لها ان تستفيد من تطبيق تلك المبادئ.

كما يعتبر هذا الشعب ان ما أمدَّ به قضية الحلفاء عن مساعدات فعالة، في أوطانه ومهاجره، طوال مدة الحرب، لم يكن دينا يوفيه لهم على ما أذاقوه من ظلم وإرهاق وإفقار طوال ربع قرن، بل سلفة قدمها املاً ان تحمل الدول الحليفة على اعادة النظر في اساس السياسة التي ما زالت تتبعها معه، وان تقنع هذه الدول بان الخير الذي يمكن ان تجنيه من الاعتماد على شعب حر موحد صديق، ليختلف كل الاختلاف عن النفع الذي تنتزعه بقوة السلاح من شعب لا يشعر نحوها الا بالكره، ولا يبيت لها غير الخصام.

العرب وانكلترا

ليس في وسع الشعب العربي ان ينسى ان انكلترا قد نكثت بعهد الشرف الذي ارتبطت به مع قائد الثورة العربية (الملك حسين)، اذ ضمنت له بموجب ذلك العهد استقلال البلاد العربية ووحدتها، بينما كانت تتآمر مع حليفتها فرنسا تآمراً أسفر عن تجزئة البلاد العربية واقتسامها وتحويلها إلى منطقتي نفوذ، عملت انكلترا في إحداهما على إعاقة أهلها عن تحقيق استقلالهم وحريتهم، وحاولت فرنسا شر المحاولات لتجعل المنطقة الثانية جزءا من ارضها وتمحو منها كل المعالم والمميزات العربية التي تحول دون تحقيق سياستها الإستعمارية. ولكن ما يذكره العرب بصورة خاصة في ألم يتجدد كل يوم، واستنكار يزداد في كل ساعة، هو تلك الجريمة التاريخية التي أقدمت انكلترا على ارتكابها بحق عروبة فلسطين، وإحلالها في هذا القطر العربي شعبا أجنبيا يختلف في جميع عاداته وخصائصه وعقليته عن الشعب العربي، لتمزيق وحدة العرب والفصل بين أقطارهم.

فلسطين

ان الأمّة العربية لتطلب من انكلترا ان تعالج قضية فلسطين من اساسها، وان تعيد النظر في وعد بلفور نفسه. وهي لا تقبل حلها على اساس بيان المستر بيفن المضطرب الذي أقر استمرار الهجرة اليهودية والذي أشرك دولة ثانية تعضد مطالب الصهيونيين لوضع حلول مغايرة لحق العرب في فلسطين، والذي نادى بحرمان فلسطين العربية من حق تشكيل دولة مستقلة وببقائها تحت نير الوصاية الدولية. كما ان العرب يرفضون التعاون مع لجنة التحقيق الا فيما يتعلق بإقناعها بان وعد بلفور افتئات صريح على حق العرب في فلسطين وانه تبرير لاعتداء الصهيونية الآثمة على ارض العرب في هذا القطر. واذا كان جديرا برئيس الولايات المتحدة ووزير خارجية بريطانيا ان يخففا من شقاء اليهود في اوروبا ويعالجا مشكلتهم معالجة انسانية، فمن الاجدر بهما ان ينظرا إلى الصهيونية على حقيقتها ويتبينا بانها حركة عدوانية باغية، بعيدة عن ان تكون علاجا صحيحا لمشكلة اليهود في العالم، وبالتالي عن ان تقر في نفوسهم الطمأنينة والسلام. وعلى هاتين الدولتين ان تزيلا هذا الحيف الواقع على العرب، وتقتنعا بان فلسطين قطر عربي يجب ان ينال استقلاله وحريته، ويحكم نفسه بنفسه في اطار المجموعة العربية.

شرقي الأردن

ان احتلال انكلترا، منذ نهاية الحرب العالمية الاولى، للمنطقة التي فصلتها عن سوريا وسمتها بشرقي الاردن، يعتبره الشعب العربي اعتداء صريحا على سيادته وعلى وحدته القومية. ويرى ان السبيل الوحيد الى تخفيف آثار هذا الاعتداء السيئة في نفسه، هو ان تسرع انكلترا بسحب جيوشها من شرقي الاردن، وترفع عنه كل القيود التي كبلت بها حريته وسيادته، وكل الحواجز التي اصطنعتها لفصله، هو وفلسطين، عن امهما سوريا، ولفصل هذه عن اقرب الاقطار العربية إليها في الارض والروح والمصلحة، الا وهو العراق.

ولا بد بهذه المناسبة، من ان نسجل رأينا في موضوع وحدة سوريا الطبيعية، او ما سمي حديثا بسوريا الكبرى: اننا نعتبر امر توحيد سوريا الطبيعية من قبيل ارجاع الحق إلى نصابه، ولا نقبل ان ندخل في سبيل تحقيق هذا التوحيد في اية مساومة يمكن ان تؤدي إلى تنازلنا عن اي حق من حقوقنا القومية الازلية في عروبة فلسطين ووحدة ارضها وسلامتها، او في أي جزء من اجزاء سوريا العربية. كما اننا لا نعترف بأي مشروع لا ينال موافقة الشعب العربي نفسه في هذا القطر، و لا يتفق مع المصلحة العربية العليا. وفي اعتقادنا ان مصلحة العرب العليا تقضي بان لا يرضوا عن الحكم الدستوري بديلا، وان يسعوا إلى النظام الجمهوري كغاية، لانه أضمن لتطورهم، وتحقيق إمكانياتهم القومية، و لكنه لا يعقل ان يقيموا من النظام عقبة في طريق تقدمهم نحو الوحدة. وعليهم ان يعتبروا اخيراً ان الخطوة الجدية الحاسمة في طريق تقدمهم نحو الوحدة هي: توحيد سوريا والعراق.

العراق

وليس الوضع السياسي القائم اليوم في العراق خاليا من الشوائب وعوامل القلق بالنسبة إلى الشعب العربي. فلقد كان العرب ينتظرون ان تعمد إنكلترا فور انتهاء الحرب إلى تعديل المعاهدة مع العراق، وان تلغي منها جميع الشروط والتحفظات السياسية والعسكرية والاقتصادية التي فرضتها انكلترا لمصلحتها وقتها. فكيف بهم اليوم وهم يرون ان إنكلترا لم تقنع باستغلال هذه المعاهدة المجحفة بحقوق العراق، بل تذرعت بالأحوال الاستثنائية وبظروف الحرب فبسطت نفوذها على بعض المرافق مما لا تسمح لها به حتى المعاهدة التي قبلها العراق في ظرف خاص. فالعرب يعتبرون ان ازالة الشوائب التي لا تزال عالقة باستقلال العراق هي في رأس مطالبهم القومية التي لا يمكن ان يقبلوا فيها اي تساهل او مماطلة.

مصر

ولسنا نرى لبريطانيا أي عذر او مبرر في موقفها المماطل المتلكئ من مطالب مصر الوطنية بعد ان قدم لها هذا القطر العربي اجل المساعدات في أحرج أوقات الحرب واعصبها. ولقد أجمعت كلمة المصريين واتفقت جميع احزابهم على تحديد هذه المطالب بالإستقلال التام وجلاء القوات البريطانية عن الأراضي المصرية ووحدة وادي النيل، اي الاعتراف بان السودان جزء متمم لمصر، وأنه ليس لبريطانيا ان تشترك في حكمه وإدارته فضلا عن الاستئثار به كما يجري اليوم.

ان العرب اذ يؤيدون مصر في نضانها من اجل استكمال استقلالها وتحرير ارضها ووحدتها، يحرصون على ان يسجلوا استنكارهم لما حدث في يوم 4 شباط 1942 من اعتداء بريطانيا على استقلال مصر وتدخلها في شؤونها الداخلية ومساسها لكرامة العرش المصري. ذلك ان مصر هي في نظر العرب حاملة لواء الفكر والثقافة ومثال للنضج السياسي، وان أي أذى يلحق بها يثير عند العرب روح الاشمئزاز والحقد، وان اي تلكؤ في اجابة مطالب القطر المصري العربي يثير الشكوك في نيات الانكليز وحقيقة سياستهم في جميع البلاد العربية، ويجعل قيام الصداقة بينهم وبين العرب امراً عسيراً.

طرابلس الغرب

وقضية طرابلس الغرب تثبت للعرب ان العقلية الإستعمارية لم يطرأ عليها تغيير قط حتى بعد النكبات والبلايا التي صُبّت على العالم. ان هذا القطر العربي قد قاوم الإستعمار الايطالي ثلث قرن، وضحى في سبيل حريته تضحيات سخية، ولم يقعد عن المطالبة بحقوقه الشرعية. ولما شبت هذه الحرب، ناضل أهلوه في جانب الحلفاء لاستعادة حريتهم ودفاعا عن استقلالهم فلما انتصرت جبهة الحلفاء لم يكن الطرابلسيون موضع نظر بل كانت بلادهم موضوع مساومة بين الدول الحليفة. فالعرب يلحون في طلب استقلال طرابلس الغرب وحريتها لتتمكن من الاشتراك في الجامعة العربية وتقرر مستقبلها بالتساند والتعاون مع سائر أقطار العرب.

المحميات

وقضية المحميات ايضاً والامارات العربية في الخليج العربي يجب ان يكون استقلالها وحريتها موضع بحث جدي بحيث تبقى عربية تتبع في كل شؤونها المصلحة العربية. وليس من حق بريطانيا ان تتذرع بأية ذريعة تمكنها من بسط حمايتها عليها او انتقاص سيادتها، وان تحول دون المحاولات التي قامت بها بعض هذه الامارات للاتحاد باقطار عربية اخرى. فالشعب العربي في كل اقطاره يقبل مبدأ التحالف وتبادل المصالح على قاعدة المساواة مع حليفته، وليس يرضى ان يكون مسودا او مستعمرا او محكوما. واذا كانت بريطانيا تريد حقا صداقة العرب ومحالفتهم فما عليها الا ان تقر مطالبهم في الحرية والسيادة التامة، وفي غير هذه الحال فان هذه الصداقة تبقى مهددة وغير مستقرة في النفوس. والأمّة العربية وحدة حية متضامنة، فأي إخلال بريطاني او عبث بحرية قطر من الاقطار يكون صداه السيئ شاملا جميع البلاد العربية، وقد آن لبريطانيا ان تعترف بهذه الحقيقة صونا للحق المطلق وحقوق العرب ومصالحها ايضا.

العرب وفرنسا

ان نظرة العرب إلى فرنسا لتختلف عن نظرتها إلى اية دولة استعمارية اخرى. فللدول الإستعمارية مصالح دفعتها إلى الاعتداء على حقوق العرب والحاق الاضرار بهم بأشكال وأساليب بلغت في كثير من الأحيان أقصى حدود القسوة والأنانية والاستهتار البشع. ولكن فرنسا تحمل للعرب حقدا موروثا فكانت اعتداءاتها المجرمة المتعددة عليهم لا تصدر عن الطمع وابتغاء المصلحة فحسب، بل تمتزج أعمق الامتزاج بروح الانتقام والتشفي، وتظهر بأفظع أشكال الإذلال والامتهان، وبسياسة ترمي إلى إفناء العرب وتحويل أرضهم بتراثها المجيد وخيراتها العميمة ارضا فرنسية صرفة، وهذا يفسر كيف ان سياسة فرنسا مع العرب سواء أكان ذلك قبل قرن وبعض القرن في الجزائر ثم في تونس ومراكش، او في سوريا ولبنان منذ احتلالها لهما، لم تتبدل قيد شعرة رغم تبدل الظروف والمصالح، لان المحرك الحقيقي لتلك السياسة كان دوما ذلك الكره العاطفي والتصميم النهائي على اعتبار العرب عدواً يجب ان يزول اما بالفَرْنَسَة وإما بالموت. وها هي فرنسا قد مضى على احتلالها الجزائر اكثر من قرن امتصت خلاله ثروة الارض العربية فيها حتى آخر قطرة، وسخرت لخدمتها السكان في حروبها والدفاع عن مصالحها؛ ومع ذلك فما كادت تخرج من تحت وطأة الاحتلال الأجنبي في نهاية هذه الحرب حتى كان اول ما خطر لها ان تعمله في حياة السلم الجديدة انها صبت النيران على عشرات الألوف من عرب الجزائر العزل، فأفنت قرى وقبائل برمتها دون اي مبرر او سبب يتوجب مثل هذه الفظائع. وها هي فرنسا التي بلاها العرب في سوريا ولبنان طوال ربع قرن، وابتلوا بها، تنتظر فرصة اعلان السلم العالمي لتؤيد عهدها الذي قطعته لسوريا بالإستقلال، بارتكاب فظائع وأهوال ضج باستنكارها العالم قاطبة. وهي لا تزال حتى هذه الساعة وبالرغم من التجارب الأليمة ومن فشل سياستها المفضوحة المرة تلو الاخرى، تصر على طلب امتيازات ونفوذ وسيطرة في سوريا ولبنان، وتسخر كل ما بيدها من حيلة وكل ما لمركزها السياسي في اوروبا من اغراء لاستمالة انكلترا إلى مساعدتها في نيل مآربها من هذين البلدين العربيين، علاوة على ان موقفها العدائي من الجامعة العربية وعزلها عرب المغرب عن الانضمام إلى تلك الجامعة، وسعيها الحثيث لإحباط كل ما يسير بالعرب نحو وحدتهم ونهضتهم هو أمر لا يحتاج إلى ان يقوم عليه دليل.

سوريا ولبنان

يطلب الشعب العربي الجلاء العاجل لجميع الجيوش من افرنسية وانكليزية عن ارض سوريا ولبنان ولا يمكن ان يقبل باي تأجيل، كما يطلب تسليم كل ما تبقى بيد الفرنسيين من صلاحيات إلى حكومتي سوريا ولبنان، وهو يرفض كل فكرة ترمي إلى منح اي مركز ممتاز في هذين البلدين لفرنسا او لغيرها من الدول الأجنبية. ويعلن ان كل اتفاق يجري بين الدول بشأن سوريا ولبنان ولا يكون فيه هذان البلدان صاحبي الرأي الاول والأساسي فيه يعتبره لاغيا وغير ملزم له، نعني بذلك ما يجري من مفاوضات بين فرنسا وانكلترا. فقضية سوريا ولبنان هي ملك لهما وحدهما وللجامعة العربية. ولا بد من التصريح بان كل حل يتعلق بسيادة هذين البلدين واستقلالهما التام الناجز لا يمكن ان يجري على واحد منهما دون الآخر. ونحن نعتبر ان سوريا هي تلك الوحدة الطبيعية التي يؤلف لبنان جزءا منها. ولا يضعف من قوة هذا المبدأ في شيء اقتناع بعض اللبنانيين -تحت عوامل طارئة- بإمكانية تأليف دولة لبنانية مستقلة منفصلة عن سوريا. وان الزمن والتجربة وتكامل الوعي لتكفل معالجة هذا الانحراف الطارئ وإرجاع الأمور إلى مستقرها.

ومن الجرائم الكبرى التي ارتكبتها فرنسا ابان احتلالها لهذه البلاد هي التفريط بلواء الاسكندرون بعد تمهيد السبل لاستيلاء الترك عليه. وهذا الاعتداء التركي الفظيع على هذه الارض العربية التي يتعلق العرب بكل شبر منها ويبذلون دماءهم لاسترجاعها لا يختلف لا في جوهره ولا في شكله عن تلك الاعتداءات التي حدثت في اوروبا والتي كانت سببا فى نشوب الحرب العالمية الأخيرة. ومع ذلك ففي الوقت الذي يهتم مؤتمر وزراء الخارجية بالفصل في قضايا المقاطعات المختلف عليها بين دول اوروبا نراه لا يحرك ساكنا في قضية الاسكندرون ولا يمهد السبيل لعودة اللواء إلى الارض العربية. فالعرب يعلنون انه ليس من قوة او اغراء يستطيعان حملهم على قبول اي تفريط او مساومة بشان لواء الاسكندرون الذي يطلبون إرجاعه إلى الارض العربية بكامل حدوده. وان العلاقات بين العرب والاتراك لا يمكن ان تصفو مادام اللواء مغصوبا.

شمال افريقيا

ان شمال افريقيا قد بقي بمعزل عن مقررات دول العالم في مؤتمراتها ولم يشمله اي نوع من انواع الحلول الدولية. فقد بقيت فرنسا فيه تمارس سياستها في محق المعنويات والافقار والاذلال والتقتيل والتشريد والفصل بين السكان وبين مقومات وجودهم اللغوية والدينية والتاريخية. ورغم هذا فالعالم المتمدن والدول التي تدعي انها انما دخلت هذه الحرب دفاعا عن حرية الشعوب لم تلتفت إلى ما يجري هناك من مظالم وجرائم ومخالفات لأبسط الحقوق الطبيعية التي يجب ان يتمتع بها البشر. فالعرب لا يعدون ان تغيراً قد طرأ على العالم من حيث تحقيق المبادئ السامية ونشر الحرية ما لم يعط لهذه البلاد العربية حقوقها من استقلال وحرية وسيادة، وما لم تجلُ القوات الفرنسية عنها لتتمكن هذه البلاد من تنظيم شؤونها ولَمِّ شتاتها واعادة الحياة اليها بالتعاون مع الاقطار العربية والانتماء الرسمي إلى الجامعة العربية. والدول الكبرى والعالم المتمدن مدعوون، اذا كانوا حقا يريدون السلام الدائم، إلى معالجة هذه المشكلة وصون حقوق العرب.

الجامعة العربية والوحدة العربية

لقد سبق وبينا رأينا في الجامعة العربية منذ تأسيسها. ونعود الآن فنعلن ان هذه الجامعة لا تفصح عن ارادة الأمة العربية في حقيقتها وتمامها، ولا تسير في الطريق الموافق لروح النهضة العربية الحديثة، علاوة على انها من حيث إمكانيات التحقيق لا تقدر على كبير شيء. ولكن على الرغم من ذلك كله، فليس من عربي مخلص في سائر بلدان الوطن العربي الا ويعتبر وجودها خطوة محمودة، ويأمل ان تقوى وتشتد وان تسير بإطّراد نحو تقويم اتجاهها واستكمال مقوماتها. الا ان كل عربي واعٍ مخلص يدرك في الوقت نفسه ان وجود الجامعة العربية، ان يكن خيرا، فهو ليس كل الخير المرجو، وان حاجات النهضة العربية ومستلزماتها لا يمكن ان تكتفي بجهود الجامعة ولا أن تقف عند حدود نظرها وامكانياتها. فهذه الجامعة مصابة بضعفين أساسيين: الاول ان نشوءها في ظرف معين وفي ملابسات خاصة بعد تصريح لوزير خارجية بريطانيا في زمن الحرب، وكونها مؤلفة من الحكومات الرسمية التي يرتبط أكثرها مع بريطانيا بمعاهدات والتزامات، ليحرمها الشيء الكثير من حرية التصرف، ويعين لسياستها الخارجية حدوداً يصعب ان تنحرف عنها او تتعداها، في حين ان مصلحة العرب تقضي بان يكونوا احرارا في انتهاج السياسة الخارجية التي تلائمهم وفي محالفة الدول التي تضمن لهم اكبر حد من مصالحهم القومية، لا ان يتقيدوا بمصالح دولة معينة او يسيروا دوما في ركاب جبهة معينة من الدول. الثاني: ان كونها مؤلفة من ممثلي الحكومات الرسمية ايضا يبعدها عن التجاوب التام الصادق مع اماني الشعب العربي وحاجاته في الوحدة والنهضة القوميتين، ويحولها هكذا في بعض الاحيان إلى حجر عثرة في سبيل هذه النهضة وتلك الوحدة اذا هي استأثرت بتولي شؤونهما وحدها.

لذلك نعتقد ان ثمة ضرورة حيوية ماسة بالنسبة إلى الشعب العربي تقضي بتأليف جامعة عربية شعبية، إلى جانب جامعة الدول الرسمية، تكون مفصحا صادقا عن مصلحة هذا الشعب واهدافه القومية في سائر الاقطار، وموجهاً قويماً له يحميه من اضرار التأثر باية سياسة اجنبية او الخضوع لضغطها، كما ينقذه من مساوئ السياسة الاقليمية وأنانية الحكومات والأشخاص، فيستبق خطى الاتحاد الرخو البطيء ويمهد للوحدة المتينة، ويستعجل سيرها، ويضمن لنضال الشعب العربي في سبيل حريته التامة ووحدته الشاملة ونهضته الواسعة أنسب جو الإزدهار هذا النضال وأرحب مجال لتطبيقه.

وهكذا تكون الجامعة الشعبية سنداً ونصيرا للجامعة الرسمية حيث تسلك هذه طريق الصواب ويعوزها النصير، ومعارضاً ومقوماً لها حيث يعوزها الارشاد والتقويم.

ان حزب البعث العربي ليعلن عن رأيه هذا في المشاكل العربية للعرب في اقطارهم كافة، مشيراً إلى ان الوضع العربي سيبقى مبلبلا ما لم تحل هذه المشاكل برمتها، وينبه الحزب إلى وجوب ان تكون مصلحة العرب العامة في الاصل في كل حل جزئي لقطر عربي، ومتى تعارضت حلول قطر مع مصلحة سائر الاقطار فهي حلول ليست في مصلحة القطر ذاته وإن كانت في شكلها الخارجي ملائمة له.

 

عن حزب البعث العربي

صلاح الدين البيطار - جلال السيد - مدحة البيطار - ميشيل عفلق

دمشق في 14 كانون الاول 1945

 

(1) نص البيان الذي اقره الحزب في اجتماعه العام المنعقد في دمشق في 9 محرم1365(هـ) الموافق ل 14 كانون الأول سنة 1945

وميزة هذا البيان انه اخذ الوطن العربي بكامله من المحيط إلى الخليج وفيه خلاصات عاجلة عن مشكلة كل قطر وعن الوحدة العربية وفيه الدعوة إلى جامعة عربية شعبية تطرح لأول مرة.

 

الصفحة الرئيسية للجزء الرابع