ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الرابع


حول الاعتداء على استقلال لبنان

 

ليس الاعتداء الفرنسي على استقلال لبنان(1) وحكومته الدستورية بأول اعتداء توقعه فرنسا ببلادنا، بل هو حلقة من سلسلة طويلة تبدأ منذ ربع قرن، ولكن في يد السوريين اليوم ومن واجبهم ان يجعلوه آخر الاعتداءات الفرنسية وخاتمة السلسلة المحزنة المخزية.

منذ سنتين ونصف السنة لدى دخول الحلفاء سوريا، اذاع الجنرال كاترو بالنيابة عن الجنرال دوغول منشورا الى السوريين واللبنانيين قال فيه: (انني قادم اليكم لإنهاء عهد الانتداب ولأعلن حريتكم واستقلالكم وستصبحون من الآن فصاعدا شعبا حرا ذا سيادة). واليوم في لبنان يقوم المندوب الفرنسي بنسف عهد دستوري وطني من اساسه بقرار كيفي، مدعيا الاستناد على صك الانتداب الذي أعلنت فرنسا انتهاءه.

ذلك هو منطق فرنسا: تلغي الانتداب ثم تتذرع به، تعترف باستقلال بلد ثم يقضي مندوبها على مجلس نواب هذا البلد ويزج رئيس جمهوريته ورئيس حكومته ووزرائه الشرعيين في السجون. فهل يجوز للسوريين ان يعلقوا أي أمل على استقلال كهذا؟ ان سوريا لم تعترف بالانتداب يوما من الأيام، لذلك لا ترى نفسها مرتبطة بعقد معاهدة كيما تنهيه. وهي لا تعتبر الإستقلال منحة وهبة بل حقا طبيعيا لها. وقد جاء ميثاق الاطلنطي مؤيدا لحقها هذا بصورة عامة، كما أيده بصورة خاصة تصريحات سفير بريطانيا في مصر، والمستر تشرشل وممثلي فرنسا المحاربة والحكومات العربية. فما على سوريا الا ان تمارس استقلالها بكل عزم وجرأة وان تزيل من دستورها ما يعارض هذا الإستقلال دون اضاعة للوقت والجهد في المفاوضات العقيمة. لقد آن للسوريين ان يقنطوا من سياسة المفاوضات ويكتشفوا خدعتها، ففرنسا تموه بها منذ خمسة عشر عاما وتنجح في شل الحركة القومية واخماد جذوتها. ومن العبث الادعاء ان تهديم الدور الوطني في لبنان كان نتيجة لجرأة الاسلوب الذي اتبعته حكومته الدستورية، فان لفرنسا في هذه البلاد سياسة تقليدية تستوي في نظرها الجرأة واللباقة اذا ما احرجت واضطرت الى بحث جوهر الامور، اي ما يمس سيطرة فرنسا السياسية والاقتصادية على سوريا. اما المفاوضات فلا تلجأ اليها الا بغية كسب الوقت لتسديد الضربة فى الحين المناسب وتثبيت دعائم استعمارها المزعزع.

ومن التضليل الفاحش ان يفرق ذلك التفريق الصنعي بين السياسة السورية وبين ما يجري الآن في لبنان، وان يتوهم ان سوريا تستطيع تحقيق استقلالها بثقة واطمئنان بعد ذلك الإنذار غير المباشر الذي وجهته اليها السلطة الفرنسية، لان فرنسا لم تقصد باعتدائها لبنان وحده، ولم تقصده بالدرجة الاولى، ولكنها أرادت من وراء عملها تثبيط عزائم السوريين وتهديدهم بما ينتظرهم اذا هم تطلعوا الى الإستقلال الفعلي وتسلم الصلاحيات بشكل جدي.

وبعد فليس مصيرنا ومصير لبنان واحدا فحسب، بل ان مصيره ليقرر مصير قسم خطير من البلاد العربية، وقد لخص الرئيس رياض الصلح ذلك بقوله: "نحن لا نريده للاستعمار مقرا والبلاد العربية لا تريده للاستعمار اليها ممرا".

من كل ما تقدم يترتب على السوريين واجبات اساسية هي:

1- ان يعتبروا قضية لبنان قضية العرب عامة وقضية سوريا بوجه خاص وان يشتركوا في مناصرتها اشتراكا فعليا يقتضيه منهم التضامن القومي ومصلحة البلاد.

2- ان يتصلوا بنواب الأمة ويؤازروهم في الاهتمام بقضية حيوية كهذه تناولتها بالبحث مجالس الامم البعيدة عنا علاوة على مجلس حكومات الاقطار العربية.

3- ان يوجهوا بواسطة المجلس النيابي السياسة الحكومية نحو التضامن التام مع لبنان ووضع حد لسياسة التريث والمفاوضة وتمثيل دور الوسيط.

4- تأييد قرار مجلس النواب العراقي بإجلاء القوات الفرنسية عن سوريا ولبنان.

"أمة عربية واحدة     ذات رسالة خالدة"

ميشيل عفلق     صلاح الدين البيطار

 

دمشق في 14 تشرين الثاني 1943

 

 

(1) هذا البيان عن الأزمة اللبنانية به ناحيتان، ناحية عقائدية وناحية سياسية. الناحية العقائدية هي تجسيد فكرة الوحدة العربية فى العمل، اي دفع الشعب الى الاهتمام بقضايا ومصير بقية الاقطار العربية ليعرف ويلمس بالتجربة النضالية وحدة المصير العربي. وهذا يشبه الموقف الذي وقفه الحزب في الاشهر الاولى لتأسيسه من ثورة العراق (1941)، اذ كان القصد الاساسي من موقفه من ثورة العراق هو ايضا تجسيدا عمليا لإيمانه بالفكرة العربية.

الناحية السياسية، عبر فيها الحزب عن رأيه وتجربته وتجربة الشعب في سوريا في اسلوب المفاوضات مع المستعمر. كان الرجال الذين استلموا قيادة النضال الوطني في سوريا منذ عام 1928متهالكين على المفاوضات مع الفرنسيين، وكانت السلطه الفرنسية تعرف هذا التهالك عندهم وتستغله لتمويت النضال الشعبي بالمماطلة والتسويف، وقد حصلت تجربة المفاوضات اكثر من مرة وكانت نتيجتها في كل مره الخيبة وعودة الإستعمار الى سابق نفوذه بعد ان كاد النضال الشعبي ان يقضى عليه. ولكن اسلوب القيادة الوطنية القديمة كان اسلوبا ضعيفا متناقضا يفضح ضعف كفاءة القيادة وضعف تجردها لانها كانت تمثل المصالح الطبقية وتنجح دوما الى المساومة والتسوية وانصاف الحلول خشية المضي مع الشعب في النضال العنيف الى نهايته. وكانت سوريا في ذلك العام مقبلة على مرحلة من هذا النوع بعد انتخابات وقيام حكم وطني - أي مقبلة على مفاوضات مع الفرنسيين لاستلام ما كان يسمى بالصلاحيات. واذا بأزمة لبنان تستبق احداث سوريا وتأتي كالنذير فاضحة مرة جديدة سوء نوايا الفرنسيين. فكان على الحزب اذ يستغل هذه المناسبة ليعطي للشعب ولرجال السياسة برهانا جديدا حيا على ضرر اسلوب المفاوضات بالطريقة التي سنها رجال الكتلة الوطنية. سوف يظهر في البيانات التالية بين 1943 و 1945  تأكيد الحزب على هذه الناحية ومطالبته الدائمة للشعب وللحكومة والمجلس النيابي بان لا يركنوا الى سياسة المفاوضات. وان تمارس الحكومة صلاحيات الدولة المستقلة مستنده الى حق البلاد في ذلك والى دعم الشعب لها.

وأخيرا ينبئ هذا البيان عن موقف الحكومة السورية المتخاذل من أزمة لبنان ومن العدوان الفرنسي على حكومة لبنان الوطنية لانها لم تحرك ساكنا في حين احتجت جميع الحكومات العربية والمجالس النيابية اعنف احتجاج، وكل ذلك حرصا منها على حسن العلاقات مع الطرف الفرنسي استعدادا لبدء المفاوضات. ولما تحركت الحكومة السورية تحت الضغط الشعبي اتخذت حركتها شكل وساطة بين فرنسا ولبنان، فهاجمها الحزب من هذه الناحية ووضع وحدة القضية العربية وبصورة خاصة وحدة مصير سوريا ولبنان.

 

الصفحة الرئيسية للجزء الرابع