ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الرابع


الإستفادة من أخطاء الماضي والحاضر

 

قبل شهر (1) او اكثر بقليل كان يزور الاقليم الشمالي هنا أخوان نقابيان من المغرب، حضرا مؤتمر العمال العرب في القاهرة ثم جاءا لتمضية ايام لزيارة هذا الاقليم.

واجتمعت بهما وتحدثنا وسألني احدهما قائلا: هل تعتقد ان القومية العربية يمكن ان تنجح دون الاستفادة من أخطاء الماضي والحاضر؟ فاستحسنت سؤاله وأجبته بأنني لو سئلت عن تعريف للقومية العربية لما وجدت أحسن من هذا التعريف (انها هي استفادة العرب من أخطائهم في الماضي والحاضر).

عندما يستفيدون من اخطائهم يستطيعون ان يحققوا بعثا لأمتهم وان يحققوا مساهمة ايجابية ضخمة في رفع مستوى الانسانية او في اغناء الحضارة الانسانية.

ولكن الاستفادة من الاخطاء ليست بالشيء السهل وبالتالي معركة القومية العربية ليست بالسهلة فهي من أقسى المعارك في التاريخ.

الاستفادة من الاخطاء تتطلب فضائل كثيرة وفضائل من النوع العالي، فضائل تجمع المتناقضات او بتعبير آخر ان تجمع الى التواضع ثقة لا حد لها بالنفس.. لكي نستفيد من اخطائنا يجب ان تكون عندنا فضيلة التواضع أي ان نكون بعيدين عن الغرور وعن التكبر والرياء والكذب. ان نحب الصدق لا ان نكون صادقين فحسب.. النظرة الصادقة البسيطة الصافية هذه هي الفضيلة، فضيلة التواضع ومحاسبة النفس بكل صدق وبساطة. يجب ان نملك فضيلة أخرى ايضا لا تقل عن الأولى هي فضيلة الثقة بالنفس اذ لولا الفضيلة الثانية لربما أدى الاعتراف بالخطأ الى اليأس والى الاستسلام والتخاذل.. نخطئ ونخطئ وليس هناك من أمل في إصلاح الخطأ.. فالفضيلة الثانية ان نكون واثقين بأنفسنا ومتفائلين بالحياة مؤمنين بالخير وان كل انسان يستطيع ان يصلح نفسه وكل شعب كذلك يستطيع ان يصلح حاله.

اذكر أني ربطت بين ثقة العربي بنفسه وثقته بأمته في حديث قديم يرجع الى 1944 ومنشور في احد الكتيبات بعنوان لجيل العربي الجديد" ربط بين ثقة الجيل الجديد بنفسه وبأمته. ان من يثق بنفسه، يثق بأمته لأنه جزء منها، فما دام قد استطاع ان يتغلب على ضعفه وان يسيطر على هذا الضعف وينمي فضائله فهو جزء من هذه الأمة، ويمكننا اذن ان نسيطر على ضعفها وان نخرج منتصرين على كل ما فيها من امراض.

اذكر ايضا بأنني كررت دائما بان طريقنا صعب وأمامنا كثير من التجارب المؤلمة وان الشباب هم أجدر من غيرهم بان يؤمنوا بصعوبة الطريق لا بل ان يحبوا هذه الصعوبة لانها لخير امتهم وانه لشيء جدير بأن يحملوا عبئه. كل شيء جديد وعظيم القيمة لا بد ان يتطلب الجهد والتضحية.. فإذا كنا جادين في تضحيتنا لبعث الأمة العربية بعثا اصيلا شاملا لجميع نواحي الحياة وفي سبيل ايصال شعبنا العربي الى مستوى الإبداع في الحضارة كي يكون قدوة، اذا كنا جادين في هذا فلا يعقل ان نستعجل او ينفذ صبرنا بسرعة وان نريد النصر رخيصا سريعا.. لأننا في نفس الوقت نعلم ان هذه الأمة التي تولد من جديد في هذا العصر.. تحتاج الى وقت وتحتاج الى جهد وأتعاب وإزالة عقبات من الطريق تمرن بها خصائصها وفضائلها حتى تصل الى المستوى اللائق، والا نقع في الخطأ الذي وقع فيه السياسيون من قبل بأن يقولوا للشعب شيئا وأن يضمروا شيئا آخر.. ان يتظاهروا بالمثل العليا ويعملوا للكسب الشخصي، ان يتباهوا بالالفاظ الضخمة وان يكونوا في اعماق انفسهم ليس لديهم همة ومتعبين.. ولكننا بدأنا منتبهين الى هذا الضلال وحذرين منه عندما قلنا مرارا في بدء حركتنا ان عملنا هو رسالة لا سياسة.

اذن، ايها الاخوان، انتم هذا الجيل العربي الجديد أجدر الناس بأن تروا الأمور رؤية صادقة عميقة تختلف عن النظرة المشوشة السطحية التي ينظرها عامة الناس، حيث يذعر الآخرون ويتشاءمون.

انتم يجب ان تتفاءلوا وتُقدِموا.. عندما تعرض في طريقنا عقبة ونصطدم بصدمة وتحل بنا نكبة.. فلنترك الذين لا يعيشون في صميم النضال نترك لهم التشاؤم والذعر... ونحن نعتبر ان القدر هو الذي يرسل مثل هذه العقبات ليزيدنا تنبها الى اخطاء فينا لم نكن منتبهين اليها لكي نصححها، ولكي تأتي نهضتنا سليمة وعميقة كل العمق ولكي نقود انفسنا الى الجهد والصبر واسترخاص التضحيات في سبيل اهدافنا.. لاننا اذا لم نتعلم ونربي انفسنا وشعبنا ضمن الصدمات والاخطاء فلن نستطيع ان نربي انفسنا وشعبنا عندما نصل الى شاطىء السلام.. التربية الحقيقية تكون في وقت الشدة. لذلك لا يجوز للشباب العربي الثوري ان يحزن وييأس عندما تحل بالأمة صدمة او حتى نكبة لأنه ما دام مالكا للفضيلة الاساسية وهي الثقة بالنفس مع الفضيلة الأساسية الأخرى وهي الصدق في محاسبة النفس، فانه يرى في الصدمة او النكبة تحديا جديدا من القدر له ولأمته لتعلو فوق نفسها وترتفع الى مرتبة اعلى في الخلق وفي التفكير والمعنى الانساني.

ولعلكم تذكرون ايضا باننا في نظرتنا الى الأمور منذ بداية حركتنا تجنبنا كثيرا النظرة الرائجة والمنطق الدارج الذي يريد دوما ان يتنصل من المسؤولية ويلقي التبعة على عوامل خارجة بعيدة عن الأمة.. وبالرغم من اننا اعرف الناس بمساوئ الاستعمار ومصالحه وبكل ما جره علينا من ظلم وتأخر لم نكن نقبل لأنفسنا كجيل مناضل ولم نكن نقبل لأمتنا كأمة متحفزة للبعث ان تتواكل وتستريح على هذه النظرة.. على ظهر الاجانب ومفاسدهم وما اساءوا الينا. اي ان نظرة البعث شقت طريقا جديدا في التفكير والشعور، طريق الرجولة والاعتماد على النفس. وسدت منافذ الهرب لكي لا يهرب العربي من المسؤولية ويتذرع ويتحجج بالعوامل الخارجية وهذا كما تعلمون لم يضعف نضالنا ضد الاستعمار بل قواه.. هذه النظرة الجديدة لم يكن من نتيجتها تراخ تجاه الاستعمار وانما كانت حافزا للنضال. انما هذه النظرة تساعد على شيئين:

1- على رؤية الاخطاء ومعرفة اخطائنا.

2- على رؤية فضائلنا وقوانا.

وعندما نرضى بأن نكون مسؤولين عن مصيرنا فهذا يعني باننا رأينا قصورنا.. رأينا مواطن الضعف ولكننا صممنا على مقاومتها.. اي وجدنا فينا مواطن القوة للقضاء على المرض والألم.

بهذه النفسية يجب ان ننظر الى المعركة الجديدة التي فتحت في العراق عندما انحرف المسؤولون هناك عن طريق القومية والوحدة وعندما وجد الاستعمار الغربي من جهة، والشيوعية من جهة اخرى، الفرصة كي يستغلوا الانانيات الشخصية والمصالح المحلية الحقيرة والإنتهازية السياسية التي تتقن الإنفصالية، عندما وجد كلا المعسكرين مصلحته في تشجيع هذه الإنتهازية الإنفصالية ليؤخروا ويعرقلوا نهضة العرب التاريخية.. عندها دفع هذا الانحراف وهذه النكسة وما تلاها من فواجع أصبح جديرا بنا كلنا ان نعتبر ذلك تنبيها جديدا من التاريخ.. تنبيها لكي نعيد النظر في طريقنا واسلوبنا ونفتش عن الخطأ لنصلحه واثقين بقدرتنا على رؤية اخطائنا وواثقين بقدرتنا على اصلاحها بعزم وتفاؤل.. اذ لا يمكن ان يمنعنا احد من متابعة نهضتنا.. قوى العالم اجمع لا تستطيع ان تمنعنا من متابعة السير اذا لم يكن الخطأ منا نحن. فالقوى الخارجية تستغل اخطاءنا.. وعندما نصحح نحن الخطأ نكون قد قطعنا عليها الطريق واستطعنا ان نستأنف السير.

هذا ما يجدر بالشباب ان يعرفوه او ان يهيئوا انفسهم لدراسته والتحليل والدرس الجدي لأنه لا يعرف جديا اين الخطأ وكيفية تفاديه. هذا ما يجار بكم ان تعرفوه وتتهيئوا نفسيا لمتابعة هذه المعركة في سبيل ان ننتهي منها لنصر جديد اكبر من الانتصارات السابقة لاننا نكون قد صححنا في نفوسنا أخطاء ونكون قد أيقظنا في نفوسنا قوى وفضائل لم نكن نعلم بها من قبل.

(1) كلمة ألقيت في إجتماع لأنصار الحزب من العراق حزيران 1959

 

الصفحة الرئيسية للجزء الرابع