ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الرابع


المصير العظيم والأعمال اليومية

 

ان العام الذي خلا (1) والأشهر الأخيرة منه بصورة خاصة، كانت أشهرا مليئة بالاحداث وبالعمل، وقد عاش العرب في هذه الآونة الاخيرة أياما تاريخية احسوا فيها بوجودهم احساسا عميقا، كما احسوا بالاخطار الجدية التي تهدد هذا الوجود. لقد برزت الامة العربية في الآونة الاخيرة على المسرح العالمي كقوة فتية جديدة مبدعة، اضطر العالم ان يحسب لها حسابا، وقسم من العالم استبشر بميلاد هذه القوة الجديدة المبدعة، وقسم آخر تشاءم وذعر وأخذ يعد العدة للتآمر والكيد. فنحن اذن امام أصدقاء وامام اعداء، وبالدرجة الاولى نحن أمام انفسنا، قبل ان ننظر الى الاصدقاء او الى الاعداء. فاذا كان ثمة دواع كثيرة لان نتفاءل بما حققناه في السنوات الاخيرة من تقدم ملموس في الوعي وفي النضال، فانه يوجد ايضا ما يدعو الى القلق والخوف والحذر من شتى النواقص التي ما تزال تنتاب كياننا القومي، من عديد من الامراض الاجتماعية التي ما تزال تنخر في جسمنا القومي، من الثغرات العديدة التي هي وحدها المنفذ للخطر والاستعمار الخارجي. وكما ان الاستعمار وأعداء العرب تنبهوا ليقظة العرب وتقدمهم، فاخذوا يعدون لها مستوى أعلى من التآمر، ووسائلهم -كما تعرفون- كثيرة وخبيثة، فواجب العرب ان يرتفعوا بمستوى وعيهم ونضالهم وواجب الشباب بصورة خاصة ان يستمدوا من طموح الشباب دافعا للتجدد المستمر لكي لا يقنعوا بما ألفوه واعتادوه، ولكي يطلبوا دوما المزيد والوصول الى الكمال.

اليوم نفتح أعيننا على حقيقة رائعة، وهي اننا بدأنا نشعر بوجودنا فعلا، وبدأنا ننظر مستقبلنا واضحا بينا مشرقا، وبدأنا نتلمس رسالتنا في الحياة، وهذا يخلق فينا قوى جديدة واندفاعا اكبر، ولكن هذا الشيء هو نفسه يشكل خطرا علينا ما دام في العالم قوى فاسدة تخشى الخير وتخشى التقدم، وتعتبر حياتها رهنا بتأخر الشعوب الأخرى، وبعبودية الشعوب الأخرى. فاذن في نفس الوقت الذي اهتدينا فيه الى الطريق وشعرنا فيه بالقوة، تتعاظم الاخطار حولنا، من كل جانب، وتزدحم المصاعب والأشواك في طريق مستقبلنا.. وهذا يرتب عليكم بصورة خاصة ان تعيدوا النظر لا في تفكيركم فحسب، وانما في احساسكم ايضا، في شعوركم بالحياة، في نفسيتكم، وان تتجاوبوا حق التجاوب مع هذه الانتفاضة الجديدة، وان لا تكتفوا بترديد الافكار والألفاظ، بل يجب ان تمتحنوها دوما لتروا اذا كانت مليئة بالحياة ام فارغة وسطحية.

الشعب البسيط الذي وجهتم اليه انتم وأمثالكم من شباب العرب في كل قطر هذه الشعارات والافكار، دخلت الى نفوسه وأخصبت وأينعت حتى أثمرت البطولات التي شاهدتموها. وجدير بالشباب اذن، بالشباب الواعي المؤمن ألا يتخلف عن الشعب البسيط. وهذا الشباب هو الذي ندب نفسه لتربية الشعب، ولكي يكون طليعته وقائده الى المصير العظيم. والمصير العظيم -ايها الاخوان- يتكون من الأعمال البسيطة والصغيرة، يتكون من سلوكنا اليومي. المصير العظيم للفرد وللامة، لا يهبط فجأة من السماء، وانما هو نتيجة لأعمال صغيرة يومية تتراكم وتختمر وتوصل الى نتيجتها، وعندها يظهر المصير.

فاذا لم تعملوا يوميا وتكونوا مستلمين مراكزكم وقواعدكم في النضال، في النضال المنظم، فان الفرصة تأتي -وما أكثر الفرص للبطولات- وتفوتونها لأنكم أهملتم الإعداد واستخففتم بالأعمال اليومية، وهذا ما يحسن بكم ان تذكروه في بدء هذا العام. فالعمل الحزبي مهمته ان يهيئ بصمت وصبر واستمرار لتلك الايام النادرة التي تتاح للأمة لكي تؤدي فيها امتحانا، ولكي تظهر فيها ما اختزنته في ايامها العادية بفضل صبرها ونشاطها وتجردها.

هذا ما أحببت ان اقوله لكم: كلمة هي مقدمة لاجتماعاتنا المقبلة في هذا العام، وكم من مرة قلت لكم بانني احب ان اجتمع بكم وأن أتحدث اليكم، ولكن في نفس الوقت اشعر بالقلق من الكلام ومن الحديث خوفا من شل رجولتكم وحيويتكم، خوفا من ان تكتفوا بأن تكونوا مستمعين في الحياة بدلا من ان تكونوا فاعلين وان تقوموا بدوركم البطولي، فالكلام سهل، والسماع -سماع الكلام- أسهل، واذا لم يكن الكلام وسماع الكلام تمهيدا للعمل.. لعمل جدي، فانه ضياع للوقت وخداع، والسلام عليكم.

(1) حديث القي في بدء السنة الدراسية بتاريخ 11 كانون الأول 1956

 

الصفحة الرئيسية للجزء الرابع