ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الرابع


كيف نفهم التنظيم

 

في هذا الاجتماع (1) سأثير بعض مسائل تتعلق بالتنظيم والتوجيه فأنتم تترأسون في الحزب فرقا وشعبا ومكاتب ومن الضروري ان تعرفوا ما هي مهمة قادة الفرق والشعب والمكاتب، وكيف ينظر حزبنا الى صفة القادة والتنظيم. وقد يخطر ببال الكثيرين ان الحزب المنظم، او المثل الأعلى للتنظيم الحزبي، هو ان يكون الحزب كالجيش او كالآلة المحكمة الدقيقة. واعتقد أن هذه إن هي الا تشبيهات ولن تصح. فمهمة الحزب غير مهمة الجيش، والحزب الذي هو مؤلف من افراد احرار لا يمكن ان يكون آلة او كالآلة. اذن ففكرة التنظيم في حزبنا متصلة بفلسفة الحزب نفسها، ويصعب جدا ان نفصل فكرة التنظيم عن الفكرة الاساسية التي تقول بالحرية. فنحن نسعى دوما ونلح في الطلب والتنبيه لكي يصل التنظيم في حزبنا الى أقصى درجات الاحكام والدقة، ولا نعني بهذا مطلقا اننا نهدف الى جعل الحزب آلة وجعل أعضائه أدوات صغيرة في هذه الآلة.

فالعضو ليس جزءا من الحزب. هذا تعبير خاطئ. العضو هو الحزب بصورة مصغرة، والمنظمات الحزبية ليست اجزاء. فالفرقة ليست جزءا ولكنها الحزب بصورة مصغرة. وبالتالي فالموجهون والمنظمون والقادة في الحزب ليسوا اجزاء اذا جمعناهم فيكون منهم شيء كامل. كلا، وانما كل واحد منهم شخص كامل، الا انهم يتناولون اجزاء من العمل. فليس من حذر في تجزئة العمل في التنفيذ فقط ولكن التجزئة لا تصح مطلقا على الأشخاص، وبتعبير آخر كل عضو في حزبنا عليه أن يعرف كل ما يهم الحزب، ان يطلع على هذا، وان يهتم، وان يعتبر نفسه مسؤولا. ولكنه من حيث التنفيذ لا يسأل الا عن الشيء الذي أوكل اليه تنفيذه. اما ان يكون العضو في التنفيذ والتوجيه محدودا في ناحية جزئية من العمل الحزبي فهذا خطر كل الخطورة.. اي لا يجوز له ان يطلع وان يهتم الا بهذه الزاوية الصغيرة التي حصرنا جزءه فيها. هنا يتحول العضو الى آلة، ومجموعة آلات لا تكون حزبا خلاقا يفيد المجتمع وينهض به. من هذه المبادئ الأولية يمكن ان نستنتج بعض القواعد العملية في التنظيم والتوجيه. فقائد الفرقة مثلا ليس هو اصغر قائد. عليه ان يطلع على كل شؤون الحزب وان يهتم بكل شؤون الحزب ومصيره وان ينقل هذا الاطلاع الى اعضاء فرقته. ولكنه يبقى محصورا في الحدود التي عينها له النظام الداخلي من حيث التنفيذ فقط. ففي حين عين النظام الداخلي للقيادة العليا أمر معالجة السياسة والوقوف المواقف السياسية الكبرى والاتصالات والمفاوضات وغير ذلك لم يعط قيادة الفرقة مثل هذه الصلاحيات والمهام. الا ان قيادة الفرقة حتى تكون قائمة بواجبها يجب ان تعرف بصورة معقولة مختصرة، دون تفصيل ولكن بصورة واضحة، ما هي سياسة الحزب وما هي المواقف التي يقفها ومبررات هذه المواقف. فالفرقة لا يطلب منها ان تعالج مباشرة السياسة العامة بل بواسطة القيادات التي هي أعلى منها. ولكن لا يجوز ان تبقى جاهلة لهذه السياسة وان تكتفي باستلام الأوامر والتنفيذ.

وهناك نقطة اخرى. فلا يظن البعض بان نتيجة العمل تكون بنسبة ارتقاء هذا العمل في التسلسل الحزبي: القيادة العليا او قيادة قطر او فرع او شعبة او فرقة. هذه نظرة خاطئة لاننا اذا حرصنا على الصورة الاصلية لحزبنا ان يكون حزب افراد احرار فالقيمة لا تكون في مرتبة العمل في التسلسل، هل هو في المرتبة العليا او الوسطى او الدنيا، القيمة تكون في اداء العمل على أحسن شكل، وفي التعمق بأدائه والاخلاص به وفي إعطائه حقه الكامل من الجهد والاهتمام. وأكاد اقول شيئا ليس هو يقينيا ولكن لأبرهن لكم على فساد النظرة التي تعطيها القيمة للمرتبة. اكاد اقول ان الامر على العكس وان القيمة تكون للمجالات الدنيا اكثر من العليا مع قناعتي ان القيمة انما هي في درجة الاخلاص والتعمق في تأدية العمل. ولماذا قلت لكم هذا القول؟ لأنه كلما ارتفعت مراتب العمل في الحزب كثرت المشاغل وابتعد القادة عن المعاناة الحية مع الاعضاء لينهمكوا في أمور فكرية ونظرية وعملية تتطلب ولكنها لا تسمح بالاتصال المباشر كثيرا، في حين ان العمل في المراتب الدنيا هو اقرب الى الحياة لانه دائم مع الاعضاء كافراد احرار. فاذن المجال مفتوح اكثر لتربية هؤلاء الاعضاء لاستخدام الحرية في تنمية مواهبهم وكفاءاتهم وفضائلهم لانه لا شيء يعادل الاتصال المباشر.

هذا هو العمل المجدي الخلاق. انه تأثير مباشر من حرية على حريات مماثلة وإرادة على إرادات مماثلة ومن نفس على نفوس اخرى... وعندما تقوم حواجز بين القادة والاعضاء، حواجز غير حية، في المشاريع والدراسات والمواقف السياسية، يصبح مجال الخطأ اكثر لان هذا الاتصال قد نقص. فاذا اردنا ان نحرص على الصفة الانقلابية -لان حزبنا لم يوجد ليكمل الواقع المريض وانما ليبدل ويقلب- فإذا حرصنا على انقلابية الحزب يشتد حرصنا على فهم التنظيم على هذا الشكل ونقضي على كل هذه الآلية المنفرة في التنظيم والتي توهم بان الحزب ليس الا صورة عن دوائر الدولة لتسيير الاعمال وقضاء الاشغال ولتحويل الاوراق وللقيام ببعض الاعمال دون رغبة وقناعة ومحبة. ومتى انتهت هذه الاعمال يشعر الاعضاء بالحرية وبأنهم انتهوا من سخرة ثقيلة.. هذه الصورة لا تخلق نفوسا وكفاءات ولا تؤثر على المجتمع.

التنظيم في حقيقته روح ومحبة واحترام الكرامة الانسانية. فالتنظيم الآلي كله احتقار للانسان لانه يعتبر الاعضاء ارقاما فقط في حين ان البشر ليسوا ارقاما وكل منهم يختلف عن الآخر لان فيه ما يهيئه لان يخدم قضيته وفكرته، وبشكل خاص لا يتسنى لأي شخص آخر لان يخدمها بهذا الشكل. على المنظم ان ينظر الى اعضاء فرقته كل باسمه، وشرط شخصيته، انا لا افهم مطلقا ان يدخل أمين الفرقة وينظر الى مجموع الفرقة كأنها جسم غامض، وان يؤدي واجبه بشكل آلي ويطلب ما يجب ان يطلبه منها. الفرقة هي جسم اصطلاحي، فلتسهيل العمل قسمنا الحزب الى فرق. ولكن في الواقع الخمسون والثلاثون والعشرة لا يمكن ان نعتبرهم شيئا واحدا. خمسون معناها هناك خمسون عضوا لكل عضو كفاءات معينة وفيه عيوب يجب ان تعالج. فأمين الفرقة ان لم ينظر الى فرقته ويوثق الاتصال بينه وبين كل عضو ليكتشف كل واحد منهم بما فيه من كفاءات ومميزات وبما فيه ايضا من نواقص ورواسب تعرقل عمله الحزبي كنقص في الثقافة وخلل في المزاج او اي شيء آخر.. ان لم يكشف ذلك ليساعده على ان يؤدي عمله فانه لا يكون قدا قام بواجبه الصحيح. فواجبه اذن ان ينظر الى الفرقة بانها مؤلفة من بشر احرار وليست أداة للتنفيذ فقط. وعندما أقول قائد الفرقة فكأنني اقول كل عضو في الفرقة. فليس من فرق اساسي في حزبنا بين القائد والمقود لاننا نفهم القيادة بأنها حرية لا تفرض على الآخرين اشياء لا يقتنعون بها. وانما القيادة هي ان تكشف لهم عن حريتهم حتى يقتنعوا بما اقتنعنا به. وهكذا يتحقق الفرض الاساسي من تكوين الحزب وهو ان ننشئ مواطنين عربا احرارا بنفسية جديدة بإرادة جديدة. لا نستطيع ان نخلق مواطنين الا بالاتصال المباشر مع الأشخاص لا مع المجموعة.

في مجتمعنا افكار خاطئة كثيرة وخرافات عامية يتناقلها حتى المتعلمون لانهم لا يفكرون تفكيرا متعمقا. وكثيرا ما سمعنا في الماضي ونسمع حتى الان اعجابا بالحركة النازية مثلا، بالتنظيم النازي، ويتلهف الاشخاص الذين يتوهمون انهم غيورون على امتهم ويتمنون ان يتسنى ذلك لبلادنا. فمصير التنظيم النازي تعرفون ماذا حل به، ولكن يجب ان تنتبهوا الى انه اذا كان التنظيم على الاسلوب النازي اصاب الألمان بضرر فأنه يصيب العرب بأضعاف من هذا الضرر. فالأمة الألمانية أمة راقية قطعت مراحل في الحضارة وكان تاريخها في صعود واستوفت نصيبها من الحرية، وأثمرت هذه الحرية حضارة وفكرا... واتى وقت أصيبت فيه بهزيمة في الحرب أثرت على النفوس فتسرب اليها اليأس ونشأ شعور بأنه من المستحسن ان تقيد الحرية فترة موقتة ليحزموا أمرهم وليحققوا مطلبا قوميا.

وكان هذا مبرر لذلك التنظيم. ولكن الشعب المتحرر الراقي المتشبع ثقافة وفكرا لا يتحول بيوم واحد الى آلة حتى ولو أعطي صفة الآلة لأن كل تكوينه قام على الحرية. ومع ذلك فقد اساء هذا التنظيم وورطهم في اخطار ومحن كثيرة. ولكن يجب ان نذكر الفارق بين حالة العرب وحالة الأمة الالمانية. حالة العرب اننا انقطعنا منذ قرون عن الحضارة، ونسينا الحرية منذ مئات السنين، وفقدنا دوافع الابداع ومقومات استقلال الشخصية التي تعرف كيف تتصرف.

واذن فنحن بحاجة الى ما يفتح فينا هذه الاستعدادات التي طمرت وخنقت، نحن بحاجة الى تكوين الفرد العربي الحر المسؤول الواعي المستقل. بحاجة الى تكوين الانسان العربي. لأن النظرة الإنسانية في جونا كادت تنعدم، لذلك قلت ان فكرة التنظيم لا تختلف عن فلسفة الحزب نفسه. فكما ان مهمة الحزب ان ينشئ، مجتمعا عربيا جديدا تسوده الحرية وتنطلق فيه قوى الابداع عند افراد الشعب الذي ترجع اليه المقاييس والقيم الانسانية الخالدة، فهو، اي حزبنا، مطالب بان يربي الانسان العربي. والانسان العربي لا يربى بالتنظيم الآلي بل بهذا الاحترام لشخصية كل عضو، بهذا التعرف الصبور المحب لشخصية وكفاءة كل عضو، ولأخطاء ونواقص كل عضو.

ولا اظن ان ثمة حاجة الى الاستدراك بان ما قلته لا يتنافى قط مع حاجتنا الى الاختصاص في الحزب، وعندما اقول بأن كل عضو يجب ان يعرف تقريبا كل ما يجري ويهم الحزب... وكل قائد فرقة او حلقة عليه ان يطلع على كل هذه الامور كافة، هو المسؤول عنها، لا اظن ان احدا منكم يفهم من ذلك ان العضو الموجه، يجب ان يتلهى بالأمور البعيدة ويهمل واجبه الخاص به، ان يشغل فكره بما يجري في ابعد مكان ويقصّر هو في واجبه المباشر الذي اذا قصر فيه اختل عمل الحزب.

المقصود اولا البرهان على وعي العضو وتشبعه بفكرة الحرية ان يقوم بواجبه. ولكن لا نريد ان يكون العضو بزالا في الآلة ينفذ العمل الصغير ويجهل كل ما حوله. انما نريد ان يكون حرا حاملا مسؤولية الحزب كله، فعليه ان يطلع لينفذ هذا العمل الصغير بنفسية كبيرة.

اذا كان مهتما بالحزب فلا يعود هذا العمل الصغير الموكل اليه تنفيذه عملا صغيرا وانما نابضا بالحياة، تتلخص فيه رسالة الحزب.

اذن نظرتنا الحرة الى التنظيم لا تتضارب مع التنفيذ الجزئي وتنمية الكفاءات الاختصاصية. فالاختصاص هو في التنفيذ، اما في العقل والنفس فلا اختصاص ولا تجزئة وانما يجب ان تكون النفس مرآة لوحدة الشخصية ولوحدة قضية الحزب.

(1) حديث ألقي في إجتماع لقيادة الحزب في دمشق بتاريخ 24 حزيران 1955

 

الصفحة الرئيسية للجزء الرابع