ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الرابع


مشكلة السلطة في الحزب

 

المشروع المقدم(1) من قبل الحزب (حول الكيان الفلسطيني) ما هو من قبيل التكتيك، بل هو تعبير عن قناعة الحزب في اصحّ أسلوب لتنظيم الفلسطينيين من أجل معركة التحرير.

موضوع الأرض في المشروع يبدو أحياناً، بأنه وُضع لإحراج الآخرين، البعض يستنتج بأنه تكتيك لإحراج حكومتي مصر والأردن. في الواقع ليس هذا قصد الحزب، وإن كانت القيادة تقدّر بأن شرط الأرض صعب التحقيق جداً، إذ توجد عوائق عملية واقعية شائكة تعترض تحقيق هذا الشرط ولكن للأمانة والفكرة نقول بأن الأرض شرط لجدية المشروع، وان لم يتيسّر توفيرها الآن فتكون للمستقبل. ويجوز أن نبدأ بالتنفيذ ولو لم يتوفر شرط الأرض.

ذكر هذا الشرط في المشروع هو من قبيل التعبير عن الصراحة الثورية لأن هذه هي قناعتنا - الكيان يجب أن تكون له أرض. والفرق واضح بين مشروع الحزب وما ضمنه من شروط وبين المشروع الذي باشر الشقيري بتحقيقه والذي هو عبارة عن تسوية بين الحكومات المختلفة. وبمقدار ما تنجح الثورة في سوريا بتثبيت أقدامها والانطلاق في تحقيق أهدافها -وبالتالي كسب ثقة الشعب العربي في داخل سوريا وخارجها- بمقدار ما تستطيع أن تُخرج هذا المشروع الى حيّز التطبيق، إذ بينه وبين سلامة الوضع الثوري في سوريا ومتانته واستمراره رابطة وثيقة.

هذا ينقلنا الى الموضوع الأساسي وهو وضع الثورة في سوريا، ولا شك بأن الوضع الاقتصادي شيء أساسي وخطير في وضع الثورة.

في الأشهر الستة الأخيرة ظهر ارتباك كبير وتخبط وعجز عن الانجاز والتحقيق ووضح هذا للجميع، حتى للعالم الخارجي. وإذا أردنا أن نوجز الأسباب الأساسية نرى انها في الدرجة الأولى نتيجة فشل الحزب في العراق وتضييع الثورة هناك فانعكست على سوريا وجرأت الأعداء في الداخل والخارج، مما سبب هذا الارتباك. ولكن هناك اسباباً اخرى على مكان من الخطورة والأهمية: نقص التجربة في الحزب، والنزاعات الداخلية في الحزب.. النزاعات الداخلية تذرّعت بخلافات مبدئية وعقائدية، وانعكس كل ذلك على الرأي العام وترك انطباعاً بالضعف والفوضى والعجز أحياناً. وإذا وضحنا هذه الأسباب بعض التوضيح نرى أن الحزب، بعد ثورتي رمضان وآذار، فاجأ الأعداء بخطر في مستوى لم يكونوا يتوقعونه فجمعوا كل ما عندهم من قوّة وحيلة لضرب الحزب ولعدم تمكينه من تحقيق اهدافه وانجاح تجربته لأن نجاح تجربة الحزب في قطرين هامين كسوريا والعراق له معناه الواقعي -والأعداء يفهمون ذلك قبل غيرهم- ان هذه التجربة ستشمل الوطن العربي كله بسرعة. فمن المعروف أن للحزب تنظيماً في مختلف الأقطار العربية ومعروف بأنه يستمدّ قوته من الشعب لا من زعامات إذا انتهى الأشخاص تنتهي معهم. إن خطر الحزب على الاستعمار وعلى الذين يرون فيه منافساً وعائقاً لتحقيق مصالحهم في الوطن العربي خطر كبير. كان من المفروض إذن أن نقدّر ضراوة المعركة قبل أن تبدأ الثورة أو منذ بدايتها وقبل أن تنكشف كل الخطط وكل الأسلحة والوسائل التي ألقى الأعداء وخصوم الحزب بها في المعركة. كان هذا يتطلّب وجود خطة واضحة ومفصّلة ولم تكن موجودة. ان وضع خطة بعد قيام الثورات هو أمر صعب جداً أيضاً لأن الانغماس في المشاكل اليومية والحاجة إلى مواجهة الأحداث يوماً بعد يوم تعوق وضع هذه الخطة، وان كان يمكن أن توضع خطوط عامة تغتني يوماً بعد يوم بالتجربة.

الخطوط العامة كانت موجودة، وموجودة حتى قبل قيام الثورة، لكن كان من الواجب وجود سلطة في الحزب تفرض الالتزام بهذه الخطوط العامة للخطة وعدم مخالفتها أو الابتعاد عنها، ولو لم تكن هناك خطه بالمعنى الكامل والمفصّل. إن مشكلة السلطة في الحزب هي من أهم وأعمق المشاكل الحزبية، ومن واجب كل بعثي أن يطّلع على هذه الحقيقة وأن يفكر فيها، وأن تبُحث في المؤتمرات وفي القيادات ومن قبل القاعدة، لكي نصل إلى حل، لهذه المشكلة الصعبة والمزمنة. البحث يقرّب من الوصول الى الحل. والاهتمام في المؤتمرات والقيادات والقاعدة يكون هو أيضاً عنصراً مساعداً على الحل لأنه يوجد هذا التنبّه وهذا الوعي عند أعضاء الحزب بأن هناك نقصاً مخيفاً، ولكنه يُستر ولا يُعترف به، بل يدّعى خلاف ذلك، وبالتالي يطرأ الخلل على سير الحزب بسبب هذا النقص، ولا يدري الحزب ولا أعضاؤه السبب حتى يتداركوا الأخطار قبل وقوعها.

حزبنا هو حزب ثوري عبّر عن ثوريته في عدة مجالات ولكن أهم مجال عبّر فيه عن هذه الثورية هو مجال وحده التنظيم -كون الحزب ذا تنظيم عربي لا ينحصر في قطر واحد- يشكلّ تحدّياً لواقع قوي وصعب جداً هو واقع التجزئة.

القيادة القومية هي التعبير العملي لنظام الحزب عن هذه الوحدة، وبالتالي عن ثورية الحزب، وهي تعني وجود عدد من القادة من أقطار مختلفة، حسب مؤهلاتهم وثقة المؤتمرات بهم، تنتخبهم المؤتمرات ويقودون الحزب. عندما يصل الحزب في قطر أو أكثر إلى مستوى الاشتراك في الحكم أو استلام الحكم كاملاً، تصل القيادات القطرية في هذه الأقطار إلى حدّ من القوة يغريها بالاّ تخضع لأية سلطة فوقها. فما هو المؤيد لسلطة القيادة القومية؟ انه نظري لا أكثر. لكي تكون القيادة القومية هي صاحبة السلطة العليا فعلياً يجب أن يكون وعي القاعدة الحزبية في أعلى مستوى وسهرها على سير الحزب والتزامه بمبادئه ونظامه أيضاً فائقاً. هذه أشياء لم يبلغها الحزب حتى الآن. فعندما كانت القيادات القطرية تصل إلى الحكم أو إلى جزء من الحكم كانت تبدو بوادر التصرفات الفردية والتمرّد الواضح أو المتستّر -هذه تجارب مرّ بها الحزب من سنين عديدة. في سنة 1956 اشترك الحزب في الأردن بالحكم خلافاً للنظام الداخلي. النظام الداخلي يترك للقيادة القومية أن تحدّد الأقطار التي هي في مستوى الاشتراك في الحكم -سوريا وحدها كان مقرراً لها الاشتراك. وتكرر نفس الشيء في العراق في سنة 1958، ولكن القيادة القومية كانت في حالة من التشتت، لأن القيادة القومية اشترك منها أعضاء في الحكم في الجمهورية العربية المتحدة بعد قيام الوحدة، فتشتّتت وصار جمعها صعباً.. كان ملاحظاً إذن منذ ذلك الحين بأن القيادات المحلية القطرية والقياديين الذين يكتسبون نفوذاً سياسياً كبيراً، يبدأون بالتملص من توجيهات القيادة القومية ومن التقيد بالنظام الداخلي لها. ثم حدث ردّ فعل لهذه التصرفات في سنة 1959 كان المؤتمر القومي الثالث جواباً ومحاولة لمعالجة هذا المرض، معالجة جزئية وغير عميقة، ولكن على أية حال فإن مؤتمر 1959 أكدّ وحدة الحزب القومية ضدّ الذين حاولوا أن يستندوا إلى قوّتهم القطرية للتمرّد على التوجيه القومي وعلى الخطة القومية -ولو انه لم تكن هناك خطة بالمعنى الصحيح موضوعة.

ومنذ نهاية 1959 إلى أول 1963 تمتّعت القيادة القومية بسلطة معنوية لحدّ لا بأس به كردّ فعل على محاولات الريماوي والركابي وكل الذين استخدمتهم أجهزة عبد الناصر -وهم أيضاً استخدموا أجهزة عبد الناصر أو استغلوها لتحقيق أغراض شخصية في أقطارهم. وكانت القيادة القومية في فترة الثلاث سنوات هذه رمزاً لوحدة الحزب. كانت وحدة الحزب مهدّدة فيها بالدرجة الأولى لأن عبد الناصر وأجهزته حاولوا أن يباعدوا بين فروع الحزب وأن يكسبوا أشخاصاً قياديين من خارج الجمهورية لهم. ففي الأقطار العربية الثانية خارج الجمهورية، وخاصة في المشرق العربي، كان الرأي العام إلى حدّ كبير متحمساً لعبد الناصر وللوحدة التي تحققت، وكان عبد الناصر رمزها. وكان الشعب في الأقطار العربية يجهل أخطاء حكم الوحدة ولا يرى فيه إلاّ ما يعرف عن طريق الدعاية والاذاعة وإلاّ ما يحمّل الوحدة من آمال للمستقبل. وبما أنها أول خطوة للوحدة وستتوسع، كان الشعب العربي حريصاً عليها. بل ان الجماهير في لبنان والأردن والعراق وغيرها كانت مع عبد الناصر إلى حد كبير، وكان الحزب يحتاج إلى جهد كبير وإلى صمود وتماسك حتى يحافظ على وحدته ولا يتأثر بهذا التباعد الموقت بينه وبين الجماهير. بعد الانفصال لم يتغير شيء في الواقع لأن الجماهير بقيت في اتجاهها ولكن تفهمها لمواقف الحزب ازداد -أي أن البعد الذي اصْطُنِع بينها وبين الحزب خفّ وتقلّص لأن الانفصال كشف نقصاً كبيراً في السياسة التي أدت إلى الانفصال، وكشف إلى حدٍ ما بُعد نظر الحزب وغيرته على الوحدة وعلى الأهداف القومية وخاصة موقفه من الانفصال طوال فترة سنة ونصف. موقف مبدئي عنيد، لم يتراجع أمام كل الضغوط والحملات التي شنها العهد الرجعي الانفصالي الشعوبي عليه في سوريا.. إلى أن قامت ثورتا العراق وسوريا، فكان الامتحان هنا -امتحان بأن القيادات القطرية تنجح في تفجير ثورة وتستلم السلطة، وعملياً تضع نفسها فوق كل سلطة أخرى أو قيادة في الحزب.

البراهين والبوادر والعلائم على تمرّد القيادات القطرية وتحللها من النظام الداخلي للحزب ومن الخضوع لسلطة القيادة العليا ظهرت من الأسابيع الأولى للثورة.. من الشهر الأول ظهرت في مباحثات الوحدة في القاهرة. كان الوفد العراقي، وهو كله حزبي -لأن الحزب في العراق استلم السلطة من الباب إلى المحراب- لم يجتمع ولا مرة مع الوفد الحزبي السوري.. الوفد السوري كان يضم غير حزبيين أيضاً، ولكن الحزبيين ضمن هذا الوفد كانوا يطالبون الاستاذ صلاح باجتماع مشترك مع الرفاق العراقيين لتنسيق الموقف، وكان الرفاق العراقيون يتهرّبون. ظهرت هناك نظرات وتجلّت في تصرفات عديدة: فروق بين النظرة للوحدة من قبل القيادة القطرية في العراق والنظرة للوحدة عند قسم من القياديين في سوريا. أما القيادة القطرية العراقية، وكانت بكاملها تقريباً، فلم تكن متحمسّة للوحدة. جرت أبحاث ضمن الحزب دلّت على ذلك، أثناء أو بين رحلة وأخرى إلى القاهرة كان يأتي وفد من العراق إلى سوري ويقول: وضع العراق لا يسمح بالدخول في وحدة من الآن إلى سنوات.. مشاكلنا الاقتصادية، والأكراد وغير ذلك، فنحن لا نستطيع أن نحلّ هذه المشاكل إلاّ إذا بقينا مسيطرين على السلطة، وانه إذا لم يكن ثمة بد من توحيد، فليكن وحدة جمهوريات اتحادية..

النقطة التي تبسّطت فيها وأعتبرها هامة جداً وأطالب كل بعثي أن يفكّر فيها هي هذه: كيف يكون حزب البعث قومياً في فكرته وتنظيمه ولا تكون هناك سلطة للقيادة القومية؟ يكون لها بعض السلطة عندما يكون الحزب في بعض الأقطار غير مستلم للحكم، وعندما يصل للحكم تنتهي سلطة القيادة القومية.

وفي سنة 1960 انعقد مؤتمر قومي رابع في آخر الصيف -أي بعد سنة من المؤتمر الثالث- وأكّد وحدة الحزب وكل المبادئ، إلاّ أني ما زلت أذكر أن بعض القياديين في لبنان أخذوا يبشرون بفكرة على أثر المؤتمر.. القيادة القومية ليس لها لزوم.. القيادات القطرية هي الواقع الحي.. الحزب موجود في أقطار، القيادات القطرية هي التي تعاني التجربة مباشرة، وهي التي تفهم حاجات الشعب من خلال معاناتها اليومية، إن القيادة القومية شيء نظري لا تقدر أن تفرض سلطة ولا تتفهم عن كثب حاجات الشعب، وبالتالي كانت خلاصة رأيهم أن هناك أحزاب بعث في حقيقة الأمر، ليس حزباً واحداً إنما أحزاب متقاربة يمكن أن تجتمع بين حين وآخر في مؤتمرات للتداول في أمورها ومنجزاتها المختلفة وتنسيق العمل.. هذا كلام كان يحكى همساً وليس في اجتماعات رسمية وليس في مؤتمرات. وهذا برأيي نتيجة اليأس عند هؤلاء، نتيجة صعوبة المعركة، لأن هؤلاء لما اختلف الحزب مع عبد الناصر في سوريا وطلب منهم بأن ينسجموا مع خطه، لأن الحزب طلب من ممثليه أن ينسحبوا من الحكم، (ولو أن التنظيم كان محلولاً إلاّ أن الروابط ما زالت بعد) هؤلاء كان بيدهم جريدة "الصحافة" في لبنان وكانوا يساومون ويدخلون في جدل ساعات وأيام لنشر عشرة أسطر في الجريدة عن استقالة الوزراء البعثيين، وكان فيها أن الوزراء البعثيين استقالوا لخلاف في الرأي مع عبد الناصر. وكانت هذه الأسطر يجري عليها التعديل والحذف لتبقى رمزية حتى لا تفسد العلاقات بينهم وبين القاهرة. الجمهور في لبنان ناصري عاطفي.. كانوا متأثرين من هذا ومرتبكين من انسحاب الوزراء البعثيين في سوريا من الحكم، هؤلاء كانوا من أول المصفقين للانفصال، وكانوا انفصاليين قبل وقوع الانفصال بسنة على الأقل. في البداية (1959-1960) تقريباً، استسلام أو إيجابية تامة مع أجهزة القاهرة. بعد ذلك لما فرض الحزب طريقه الذي يعبر فيه عن الخط الوحدوي السليم ويعترض على التطبيق المنحرف في الجمهورية العربية المتحدة وبالتالي يتحمل تبعات ذلك ويصمد، وجد هؤلاء ان الجماهير ظلّت لحدّ كبير مخدوعة ويئسوا من إمكانية نجاح الحزب، وبالتالي صاروا يتمنون الانفصال، ولما وقع الانفصال تبنّوا المنطق الانفصالي رأساً.

ثم لما أكّد الحزب في مؤتمره القومي الخامس في ايار 1962 عقيدته الوحدوية وثباته عليها وعزمه على تجديد الوحدة وأن يستفيد من التجربة الأولى ومن أخطائها أنقذ بذلك فكرة الوحدة التي كانت مهدّدة بالانهيار وسمعة الحزب التي كانت ايضاً مهدّدة، وبرهن على عقائديته الأصيلة.. هؤلاء تركوا الحزب. في المؤتمر كان موقفهم سلبياً جداً، وخرجوا من المؤتمر مصممين على مخالفة مقرراته، وكان بيدهم القيادة القطرية في لبنان.. وآخر الأمر انشقوا عن الحزب.

المشكلة كانت محلولة تماماً في العراق بعد الثورة. لأن القيادة هناك رفضت الخضوع لنظام الحزب ولتوجيهات القيادة القومية وللنظام عامة، وبقيت على رأس الحزب بدون إجراء انتخابات 7-8 أشهر. من البداية كان لهم موقف خاص من الشيوعيين، موقف مخالف لسياسة الحزب ولقرارات القيادة القومية. أثناء حكم عبد الكريم قاسم كانت القيادة القومية توجّه القيادة في العراق بنشرات وقرارات -موجودة معي الآن- بأن لا ننجرف في التيار اليميني المعادي للشيوعيين، برغم الفظائع التي ارتكبها الشيوعيون، والسيطرة على الوضع وعلى الرأي العام حتى لا يحدث ردّ فعل شعبي غوغائي يميني لا يستفيد منه إلاّ اليمين والاستعمار. واذ انفجرت الأحقاد الشعبية ضد الشيوعيين وأعمالهم الهمجية، وكان كل هذا قد نُسي، وقعت القيادة القطرية بكاملها بدون تفريق في هذا الخطأ منذ الشهر الأول. لم يعترض أحد في أن يُجاب على حمل الشيوعيين للسلاح في الأيام الأولى للثورة حملوا السلاح فيجب الردّ بالسلاح. ولكن الاستمرار في القمع دام أشهراً، وكان من الواضح أن هذه السياسة ستقوي اليمين والمحافظين في الداخل وتشجع الاستعمار وتُبعد عن المعسكر الاشتراكي. قامت حملة في العالم كله ضد ثورة العراق من الفئات التي تعتبر كل محاربة للشيوعية هي خدمة لليمين والاستعمار. واستمرت التصرفات الطائشة سواء في اعتقالات أو إذاعات ضد الاتحاد السوفييتي واستمرت الاعدامات كل شهر وأحياناً كل أسبوعين.

لا اعتقد بأن هناك مجالاً الآن لاسترجاع كل الخلافات القيادية في العراق، ولكن هنا موطن المرض والخطر خاصة عندما تكون قيادة كما هي عليه الحال في قيادة العراق ناقصة التجربة والثقافة والفكر، وقد أعطاهم النجاح في الثورة او معظمهم، أطماعاً كبيرة وغروراً فأساءوا استعمال السلطة. في سوريا الأمر يختلف بعض الشيء: هناك كانت فئات غير الحزب شاركت في الحكم وكان على الحزب ان يتماسك امامها حتى لا تنجح مؤامراتها لأنها كانت مدفوعة للتآمر والتخريب او بعضها. والقسم العسكري في الحزب هو الذي قام بالثورة، والقسم المدني شارك بعد الثورة في الحكم، فمرت فترة لغاية 18 تموز، كانت فترة صراع مع الفئات الثانية، وابتداء من 18 تموز اصبح الحزب -العسكري والمدني- هو وحده الحاكم في سوريا.

كانت فرصة نادرة أمام الحزب في سوريا، هي التهيؤ النفسي للشعب وتقبله للثورة لأنه استنكر مؤامرة 18 تموز كما أعجب بصمود الثورة وبحكمة القادة فيها الذين قدروا أن يمرّوا ضمن هذه الصعاب والمؤامرات مدة اربعة أشهر ويمروا بسلام. وكان منتظراً من الثورة أن تعطي ما عندها، ولكن -مع الأسف- من 18 تموز بدأت المنازعات الداخلية في الحزب في سوريا هي التي تطغى وتسيطر على كل شيء بعد أن تخلصوا من الفئات الأخرى التي كانت متآمرة وبعدما ظهر التآمر بشكله الواضح السافر في 18 تموز. الاطمئنان الذي حصل هنا، كان ممكناً أن يكون هو بداية الانطلاق لكسب الشعب وتنظيمه وتأجيج حماسته للثورة وإعطائه براهين على حيوية الثورة بإنجازات.. جّمد كل شيء والتفت إلى التصفيات الداخلية -أي شخص كان يريد لنفسه السلطة والمراكز، وأية فئة تحاول أن تزيح غيرها، مع الأسف.. وتجاهل أمراض الحزب لا يساعد على حل المشاكل ولا على شفاء هذه الأمراض. وكانت هناك الخطة بين العراق وسوريا معاً -كان الحزب في العراق قد دخل في توجيه الحزب في سوريا نحو النزاعات الداخلية والانقسامات والتقاتل على السلطة وصار التزييف والتزوير في الانتخابات وكسب الحزبيين بالتعيين في الوظائف وتضليلهم بنشر الشائعات والافتراءات على القادة. وتجلى هذا بشكل واضح في المؤتمر القطري السوري في شهر أيلول 1963، وظهرت نغمة اليمين واليسار، لا بل ليست نغمة، وإنما خطة مركزة وحملة وأدوار وشعارات وكل ما يلزم لتهديم اشخاص في الحزب من اجل ان يصل اشخاص آخرون الى السلطة، ومع الأسف هذا انتقل نوعاً ما إلى بعض ضباطنا في الجيش.

وفي المؤتمر القومي السادس ازداد المرض وظهر بشكل أوضح بكثير أيضاً بأن هناك تقاسماً للمناصب واتفاقات عندما تقوم الوحدة بين القطرين (سوريا والعراق) والتهاء عن الأعداء بالخصومات الداخلية وتجميد الثورة وعدم إعطاء أي شيء إيجابي للشعب غير الترقب والانتظار والتساؤل والملل. كان الشعب ما يزال إيجابياً إلا أنه طال انتظاره وفي هذه الأثناء تقع النكسة في العراق. طبعاً كان أثرها إلى حد كبير محطّم التفاؤل والاستعداد الايجابي الذي كان عند الشعب. كان بالامكان تلافي الشيء الكثير من الأضرار والآثار السلبية لنكسة العراق وأثرها على سوريا باتخاذ خطوات إيجابية سريعة حاسمة وتدابير ضدّ الرجعية حتى تُمنع من الأذى والاضرار والتخريب واستغلال النكسة، وتحقق إنجازات إيجابية لمصلحة الجماهير تربط الجماهير بالثورة ربطاً حقيقياً. وكان مثال الانفصال وتدابير عبد الناصر على أثر الانفصال ماثلاً للأذهان وكثيراً ما قيل هذا الشيء واستشهدنا بهذا المثال.. ولكن دون جدوى. عبد الناصر ضرب الرجعية في مصر بشكل حاسم وسريع قبل أن تستأسد وتستغلّ الانفصال ويأتيها المدد من الخارج.. عاجلها بالضرب وتابع الانجازات الاشتراكية وبرهن على بعد نظر وعلى جرأة وحكمة بهذه السياسة. الذي حصل في سوريا تقريباً العكس، لأنه مادامت الرجعية هي التي ضربت الثورة في العراق فنسايرها في سورية حتى لا تضربنا. وأخذت العناصر الرجعية والانتهازية تخلق جواً في الوسط المدني والعسكري بأن ضياع العراق كان نتيجة التعديلات والاستفزازات فيجب إذن أن لا نستفز أحداً. فإذا* كانت ترجمة هذا الكلام أن السياسة يجب أن تكون حكيمة وعاقلة، فلا خلاف على ذلك.. ولكن العقل يقول انه عندما تصاب الثورة بنكسة يجب أن تحدّد أعداءها ورأسا تقمعهم، تقلّم لهم أظافرهم، ورأسا نكسب الجماهير من عمال وفلاحين وكادحين. منذ تشرين الأول 1963 إلى نيسان - أيار 1964 سبعة أشهر من الجمود في الحكم، وعدم إعطاء شيء للشعب، لا بل إعطاء الرجعية بعض التنازلات والتطمينات. أفرج عن الانفصاليين، حدثت تصريحات ومسايرات وتقرّب من أوساط انفصالية ورجعية، واستمر النزاع والتنافس الداخلي على السلطة.

الذي حصل في العراق لم يكن شيئاً بسيطاً: ضياع ثورة في أقل من عشرة أشهر. هذا شيء قد يكون فريداً في تاريخ الثورات، وبالتالي يلزم أن يكون هناك أسباب جدية لأن الثورة لا تضيع بدون سبب جدّي. الأشياء التي ارتُكبت في العراق، حتى لما نطرح منها تضخيم الأعداء - الأعداء قد يكونون أضافوا إليها مثلاً 75 بالمئة ولكن الـ 25 بالمئة التي تبقى هي ثقيلة الوطأة جداً وكافية من أجل عزل الحزب والحكم عن الشعب وتنفير الناس من الحزب ومن أجل وصم حزبنا لسنين عديدة. طبعاً أي ضرب لحزب البعث لن يكون إلاّ في مصلحة أعداء الشعب، الرجعية والاستعمار والفئات الانتهازية، وكون الحكم الذي جاء بعد ضياع الثورة في العراق حكماً رجعياً وعدوّاً لمصلحة الجماهير وللاهداف القومية الحقيقية هذا يساعد الحزب على أن يصحح أخطاءه ويبني نفسه من جديد ويمحو ولو بمشقة وجهد آثار الأخطاء الجسيمة والأعمال اللاأخلاقية واللاإنسانية التي ارتكبها أفراد باسم الحزب في العراق. في سوريا لم يقع الحكم والحزب بمثل هذا التهور وبمثل هذه الأعمال الطائشة -طبعاً ظروف مختلفة ومستوى القيادات المدنية والعسكرية أنضج ولو بنسب مختلفة. ولكن مع الأسف أيضاً وجد في سوريا امتداد لهذا الأسلوب المريض ولهذا المرض الذي ظهر في الحزب في العراق...

 

21 حزيران 1964

(1) حديث في اجتماع الفرقة الحزبية في باريس، ورد على الاسئلة.

 

الصفحة الرئيسية للجزء الرابع