ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الرابع


نجاحنا يكمن في صدقنا ومصارحتنا للشعب

ما زلنا بحاجة ماسة إلى الزهد والصبر والارتفاع فوق الأنانية

 

ايها الاخوة(1)

كنت أتمنى لو أن الرفاق الذين هيأوا هذا الاجتماع، قبلوا عذري وأعفوني من الكلام في مناسبة من أبهج المناسبات وأحلاها على قلبي، ولكنه التعب والسن يمنعاني من المشاركة، ولو اني أجد نفسي مضطراً أن أقول بعض الكلمات، وكان الأجدى أن تكون تلك الأبيات من الشعر الطيّب الخالد هي ختام هذا الاجتماع، فاعذروني إذا وجدتم الفرحة والتأثر يعقدان لساني.

الفرحة بهذا الايمان الذي يتجدّد على الأيام، والذي ينتقل من جيل الى جيل، ويبعث الثقة والاطمئنان بالمستقبل والنصر الأخير، فرفاقكم الذين بدأوا هذا الحزب منذ أكثر من عشرين عاماً لم يبغوا الاّ أن يروا هذه الحركة أمانة في اعناق الشباب العربي، وفي اعناق الجماهير العربية، لا ملكاً لفرد او نخبة من افراد.

كان هذا هو القصد العميق من تأسيس حركة البعث، وكثيراً ما قلنا وقال المؤسسون والمناضلون في هذه الحركة، بأنها وليدة آلام الشعب، وان آلامه هي التي خلقتها، وان الحاجة التاريخية هي التي استدعت ظهورها، وان المفكرين والمناضلين فيها لم يعملوا اكثر من تلبية هذا النداء المنبعث من اعماق امتنا، ولم يفعلوا اكثر من ترجمة هذه الحاجات وهذه الأهداف التي تجول في ضمائرنا وضمائر شعبنا في كل قطر من أقطاره.

 أيها الاخوة

عندما أستعرض في ذاكرتي تاريخ هذه الحركة، أجد أننا كلنا أردنا لها أهدافاً وصفات عالية متكافئة مع صعوبة المهمة. وأجد في الوقت نفسه أننا قصّرنا في كثير من الأحيان عن تحقيق كل ما أردناه لحركتنا، وأمتنا، وأن أكبر ضمانة لاستمرار هذه الحركة ولنجاحها في تأدية رسالتها هو في صدقها، وفي مصارحتها لنفسها وللشعب، فيما ينقصها وفيما يعوزها من أشياء لم تستكمل الشروط اللازمة لتحقيقها. فما دمنا نشعر بهذا الحس العميق الحي الى الصدق والى الصراحة.. ما دمنا نثور على أنفسنا وعلى أخطائنا وعلى الغرور الذي قد ينتابنا في وقت من الأوقات، وعلى الشهوات التي قد تجد إلينا سبيلاً في ظرف من الظروف.. ما دامت هذه الحركة تحتفظ بالضمير الحي، بحسّ الصدق، بحب الحقيقة، بشعور الرسالة، وبأنها من أجل الشعب وُجدت، ومن أجل الأمة، ولم توجد من أجل أفرادها، وبالتالي عليها أن تعلو دوماً فوق نفسها..

ما دام هذا الحس موجوداً، ونابضاً، وحياً، فإننا نستطيع أن نطمئن إلى المستقبل، وأن نواجه المصاعب، وحتى النكسات، بروح عالية وبإرادة صلبة، تتغذى من الانتصارات والانتكاسات على السواء، لتكمل هذا البنيان، وتصحح ما فيه من خلل، ولترفعه عالياً بقدر ما هي أهداف الأمة العربية عالية وبعيدة.

أيها الاخوة

لقد وقع حزبنا عبر نضاله الطويل في بعض الأخطاء، ووقع بعض القياديين فيه في أخطاء غير بسيطة، ولكن هذا لا يبرر ولا يخفّف من جريمة المتآمرين على الحزب، من الرجعيين أو من ذوي المصالح والأغراض.. ويكفي هذا الحزب فخراً وثقة بسلامة اتجاهه وسيره، انه ما هوجم يوماً، ولا سُلّطت عليه الحملات والافتراءات، إلاّ وكان المستفيد منها أعداء الأمة العربية وإلاّ كان حصيلة ذلك إنعاشاً للاستعمار والرجعية في الوطن العربي، وهذا ما حصل في العراق بعد نكسة تشرين الثاني، حيث لم يخلف الحزب حكم أكثر تقدمية، وأصدق عروبة، وأقدر على تحقيق أهداف الشعب، من حكم الحزب، رغم أخطائه وثغراته.. بل العكس هو الصحيح.

ايها الاخوة

من المشاكل الفكرية والعملية التي واجهناها منذ تأسيس هذه الحركة الى الآن، مشكلة حية، هي هذا الميل الذي يظهر عند بعض الشباب إلى الانطواء والتعقيد.. إلى الاستعلاء.. فكنا دوماً نقول ونكرر أن حركة البعث ليست جمعية سرية ولا إرهابية.. ليست مدرسة فكرية معقّدة لنخبة من المثقّفين، ولكنها حركة شعبية للجمهور الواسع، ودعوة للشعب العربي كله، وهذا لا يمنع أن تكون حركة أصيلة وعميقة.

واذا وقع شيء من هذا، فالحزب أو الحركة مهدّدة في وجودها بالذات. وقد يكون في الماضي أخطاء، وقد يكون فيه ثغرات ونواقص، في الأشخاص، وفي الأشياء، وفي المنجزات، ولكنه هو الماضي.. هو الأصل والأساس.. ولا نستطيع أن ندّعي بأننا نحمل رسالة تاريخية ونحميها، وأن نجهل الفكرة الأساسية لحزبنا، وهي التي تلخص الدوافع العميقة التي دفعت أمة بكاملها.. شعباً بكامله.. إلى خلق هذه الحركة نتيجة الآلام والعثرات الكثيرة.

إن في تراث الحزب وفكرة الحزب تلخيصاً لهذه الدوافع، ولهذه الظروف النفسية والفكرية والاجتماعية والاخلاقية، التي كانت سبباً في ظهور حركة تاريخية.. فإذا كان لهذه المناسبة التي تحيونها اليوم من عبرة وعظة، فهي بالدرجة الاولى أن تحافظوا على وحدة حزبكم.. الوحدة في كل شيء وفي كل معانيها.. الوحدة في الحاضر، وفي المكان، وفي الفكر وفي الأسلوب.. الوحدة بين الماضي والحاضر، لكي نستطيع أن نبني المستقبل.

ايها الاخوة

في الوقت الذي يستلم فيه الحزب السلطة، تنفتح أمامه إمكانيات عظيمة للتحقيق، وتنفتح في الوقت نفسه مجالات كثيرة للانحراف والاستغلال(2)، فالسلطة امتحان كبير، وقاسٍ، ولا يعصم حزبنا من المزالق إلا هذا التذكّر الجدّي، الصارم، الواثق.. تذكّر للماضي.. للدوافع الحقيقية العميقة.. للضرورة التاريخية التي استدعت ظهور هذه الحركة.. فعند ذلك نأمن الزلل، وعند ذلك نعلم بأن هذا الحزب لم ينجح في الماضي، إلاّ لأنه كان في تفكيره علمياً وواقعياً ومخططاً، وبأنه لا يستطيع أن ينجح في الحاضر الاّ إذا كان أيضاً معتمداً على قواعد العلم والتخطيط والواقعية، وإلاّ اذا كان ايضاً كما كان في الماضي، عائشاً في جو ثوري حقيقي.. في الجو الأخلاقي.. في جو الرسالة التاريخية التي تتنـزّه عن الأغراض الشخصية، وعن الشهوات، وترفع النفوس، وتمد الأنظار والأبصار الى بعيد، الى الآفاق العالية، لأننا بحاجة مستمرّة الى هذا الجو لكي نحفظ لهذه الحركة اصالتها، ولكي يبقى جو المحبة هو المسيطر عليها، ولكي تنسجم النشاطات والكفاءات، وتصبّ كلها في نهر واحد.. في نهر الثورة العربية والمصلحة القومية، لأن مهمتنا ما زالت كبيرة وصعبة، وما زلنا في أول الطريق.

أيها الاخوة

رغم مرور عشرين سنة على نضالنا، ما زلنا بحاجة ماسة حيوية الى النظرة الاولى التي رافقت نشوء هذا الحزب.. الى نظرة الزهد، والصبر، والارتفاع فوق الأنانية، والى الايمان بكلّ معانيه، فالايمان لا يتعارض مع التفكير العلمي، والنظرة العلمية إنما يعطيها الايمان الروح والغذاء، وبعطيها الصبر والنفس الطويل، ويقيه من اليأس والتخاذل والنفعية والانتهازية.. الايمان بالمثل.. الايمان بالحقيقة.. الايمان برسالة الأمة العربية.. الايمان بالله.

7 نيسان 1964

(1) كلمة بمناسبة الذكرى السابعة عشر لتأسيس الحزب.

(2) حذفت جريدة "البعث" التي نشرت تلك الكلمة لفظتي الانحراف والاستغلال.

 

الصفحة الرئيسية للجزء الرابع