ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الرابع


فكرتنا في طريق التحقيق

 

أيها الاخوان

بعد ان قطع الحزب أشواطاً من حياته، ودخلت فيه أجيال جديدة متعاقبة صرنا نشعر بالحاجة الى أن نلقي بين الحين والآخر نظرة على تاريخ الحزب، لكي يعرف الأعضاء الجدد ولكي يتذكر الأعضاء القدامى الغاية التي من أجلها وُجد هذا الحزب، لكي يحاكموا بأنفسهم، ويروا هل الحزب سائر في الطريق الموصل إلى هذه الغاية؟ وأي حد قطع من الطريق؟ وهل اضطرته الظروف والحوادث والاصطدام بالواقع أن يغير ويعدل من فكرته الأساسية ومن غايته؟ وهل بالتالي هذا التعديل والتغيير اللذان طرأا على الحزب، هل كانا لا مناص منهما، وهل كانا في مصلحة الحزب أو لا؟..  

أيها الاخوان

أستطيع أن أقول لكم وأنتم شباب هذا الحزب أكثر مما استطيع أن أقوله لغير الشباب: أن الغاية التي كانت تنبعث في وقت واحد من الحاجات العامة ومن نفوس تلك الطليعة التي تقدمت لحمل المسؤولية كانت ترمي إلى خلق شيء جديد وجدي وكبير في حياة العرب.

ولعل تعليل ذلك.. تعليل هذا الطموح الذي داخل النفوس إذ ذاك، يرجع إلى طبيعة المرحلة القومية والى الآلام الكثيرة والحادة والعميقة التي كانت تنتاب حياة الأمة العربية. وكان ثمة شعور غامض يمكن توضيحه بهذا الشكل: بأن مثل تلك الآلام يجب أن تزول أو لا تبقى مسبباتها، ويجب بالتالي ان يخرج من الظفر عليها وضع جديد بل صورة جديدة لحياة العرب، لا يستبعد أن تصبح صورة جديدة لحياة الانسان بصورة عامة.

وكان وراء هذا الشعور اعتقاد بأن أي شعب، وأية أمة إذا أخلصت لنفسها، وأخلصت في فهم أحوالها ومشاكلها وفي تبين طريقها فإنها بهذا الإخلاص، بهذا الجد، بهذه الصراحة التي تواجه بها نفسها ومشاكلها انما تلامس علاوة على نفسها، نفس الإنسانية، وتصل إلى أبعد من مشاكلها الخاصة وحل هذه المشاكل.. انها تصل إلى شيء يشترك فيه كل الناس.

فالإنسانية ليست شيئاً عائماً في الهواء، وإنما هي متجسدة دوماً في حياة البشر، وفي حياة الأمم، وان كل أمة تستطيع أن تمثل الإنسانية في بعض ظروف حياتها وتاريخها.

كانت هذه الفكرة تجول بصور مختلفة من حيث الوضوح والغموض، في نفوس جميع الشباب الذين لـبّوا دعوة الحزب عندما ظهر ووجّه نداءه إليهم. والشباب المثقف هو بطبيعته مؤهل لأن يسمع هذه الدعوة، وان يطمح مثل هذا الطموح، لأن سن الشباب، وتجرد الشباب عن شتى المصالح التي تعلق بالأفراد بعد أن يكونوا قد انغمسوا في مشاكل الحياة، وثقافة الشباب، كل هذا، السن -والتجرد عن المصلحة- والوعي الناتج عن الثقافة.. يؤهل لتكوين ولقبول هذه النظرة البعيدة في مراميها، والجريئة في طموحها والبسيطة أيضاً، إذ لو لم تكن بسيطة في نظر هؤلاء الذين لبّوا نداءها لما اقبلوا عليها، ولما صدّقوا إمكان تحقيقها.

ثم يمر الزمن، ويتسع الحزب، ويثبت وجوده، فتضطره قوته نفسها والثقة التي خلقها في نفوس الشعب.. تضطره إلى النـزول من ذلك الصعيد الفكري، والى التفاعل مع الواقع ومشاكله، فلا يمضي وقت حتى يشعر الحزب أنه لم يعد كما كان، وانه تنازل عن أشياء من طموحه الأول، ومن سلامة تكوينه وتفكيره وأسلوبه، وانه لم يعد مسيطراً على نفسه كما كان في البدء.. اذ أنه في البدء لم يكن لديه الا الفكرة والإيمان يتسلح بهما، وينظر إلى مجموع الأمة، والى جميع ما يحيط بها ويتداخل فيها من مصاعب ومن آلام ومن أمراض، وإلى جميع القوى الخارجية والداخلية المعادية ليقظة الأمة وانبعاثها -كان ينظر إلى كل ذلك من علٍ ويشعر بأنه أقوى من كل هذه المصاعب. فلما اضطرته قوته نفسها -كما قلنا- أن ينـزل ويدخل صميم المعركة وصميم الواقع، لم تعد له تلك الثقة الأولى بأنه مسيطر على هذه المصاعب، وأنه هذا الجسم السليم الذي يستعد لمكافحة المرض ولخلق البنيان الجديد، بل أخذ يداخله شعور بأنه قد أختلط بالجسم المريض وأنه أصبح مزيجاً من تكوينه الأول ومن تكوين المجتمع، وان المرض قد يكون دخل اليه أيضاً.

هنا، لا بد من التساؤل، واعتقد أنكم تطرحون على أنفسكم هذا السؤال دوماً: هل اخطأ الحزب وضل الطريق؟ هل كان الأجدر به أن يبقى على حاله الأولى، وان يبقى محتفظاً بتلك الثقة بالنفس.. بذلك الوضوح بالنظر.. بتلك البساطة التي كانت تصور له المشكلة جلية واضحة، وتشعره بأن حلها ممكن وواجب؟..

هنا نلمس نقطة الأزمة في نفوس الشباب، وهي أزمة الشباب في كل مكان وفي كل عصر.

من الطبيعي -أيها الاخوان- ان أية حركة مهما تكن صادقة وقوية، لا تستطيع أن تغير شيئاً في وسط تبقى بعيدة عنه لا تدخله، ولا تصبح جزءاً من دمه ولحمه.. إذ لا يحصل التأثير الا بهذا التماس وهذا التفاعل. فلكي تغيروا الوسط يجب أن تدخلوا في هذا الوسط، وان يكون بينكم وبينه صلة حية، وإلاّ تبقى الحركة حركة وعظ لا طائل تحته. فما يحسبه البعض خسارة كان يجب تفاديها هو في الواقع ربح وتقدم. لأنه بدون هذه الخطوة.. بدون هذا التفاعل مع الوسط تنعدم في الفكرة كل إمكانية للخلق وللتأثير الفعال الجدي في وسطها، فهناك بعض الثمن لا بد من دفعه لكي تنتقل الفكرة من المجردات إلى الحياة.

والحياة -ايها الاخوان - لا ترينا الأشياء الكاملة الناصعة الا في الكتب، وعلى الورق، وفي الآثار الفنية، اما في الواقع البشري فليس ثمة أشياء كاملة لان الحياة بطبيعتها لا يمكن أن تكون كاملة، ولو كانت كاملة لكانت موتا. فحبذا لو تمعنون النظر في هذه الملاحظة وتحاولون ان تروا هذا التحول الذي لا يظهر للعيان ولا يلمس لمس اليد، ولا بد من إعمال الفكر، ولا بد خاصة من المعاناة والتجربة لكي يدرك المرء بأن ما بدا له أنه خسارة لم يكن في الواقع الا تحولاً من مظهر الى مظهر آخر.

والنظرة التي يجدر بكم ان تنظروها وتستمسكوا بها كجيل مناضل، وجد ليعمل وليغير أوضاع أمته تغييراً أساسياً، لا ليقف عند حد التأمل والتمني.. إن النظرة الجديرة به هي هذه: الافضل ان نتنازل عن شيء من كمال الصورة الأولى شريطة أن تدخل فكرتنا في العمل وتتجسد وتتحقق من أن تكون لنا فكرة كاملة وان تبقى على الورق.

عندئذ -أيها الاخوان- يتاح للشباب أن يصبحوا رجالاً، وعندئذ فقط يكون الشباب وتكون سن الشباب قد أدت مهمتها على أحسن شكل، إذ كانت الخطوة الطبيعية والضرورية لكي نتحمس لفكرة مطلقة.. لفكرة كاملة.. ونندفع في طريق حملها والتبشير بها والعمل لها..

وعندما ندخل صميم الواقع، ونتفاعل مع هذا الواقع تظهر تلك المرونة التي تجعلنا نتخلى عن بعض الأمور الثانوية في فكرتنا في سبيل أن نحقق الجوهري منها.

أما إذا تجمد الشباب على النفسية الأولى فإنهم لا يصبحون رجالاً.. ولا يبقون شباباً. فالشباب الذي يتجمد على النفسية الأولى بعد أن تكون الظروف قد أتت لكي يتطور معها ولكي ينتقل من طور التفكير والتبشير إلى طور التحقيق.. إن من يرفض هذا التحول الطبيعي ويتشبث بالنفسية الاولى يحكم على نفسه بأن يعيش كالشيخ الهرم الذي يمضي وقته في التذكر وفي البكاء على ما لم يتحقق.. إنهم يفقدون بهذا الرجولة ويفقدون الشباب معاً.

ولكن - أيها الإخوان - بين هذا القول الذي اقوله لكم وبين الظن بأني آتي بمبررات لأخطاء الحزب ولما في الحزب من نواقص.. بين الشيئين فرق كبير. فأنا لا أقول هذا القول لأستنتج منه بأن الحزب هو فعلاً قد خطا الخطوة الثانية الطبيعية، وانه دخل مرحلة التحقيق، وانه يوفيها كل حقها، وان ما فيه من تشويش ومن فوضى ومن عجز ومن تقصير ليس الا ثمناً ضرورياً لهذه المرحلة الجديدة التي دخل فيها، ان هذا بعيد عن تفكيري.

لقد أردت فقط أن أصف لكم طبيعة العمل ومراحل العمل، وكيف أن هذه المراحل رغم أنها يخرج بعضها من بعض ويكمل بعضها بعضاً فهي ليست متجانسة، وليست متماثلة، فكل مرحلة لها دورها ولها شكلها الخاص. وعلى العاملين في حركة قومية جدية أن يقدروا هذا الاختلاف في المراحل، وان يتلاءموا معها. أما ما يوجد فعلاً في واقع الحزب.. في حاضر الحزب فأكثره لا يُبرر ولا يُدافع عنه، ويجب أن ينظر إليه على أنه مرض وتشويه يجب أن يُفهما وان تُفهم أسبابهما وان نجد لكل ذلك العلاج الملائم والسريع معاً.

الا اني اريد ان أربط بين جانب مما نشاهده في الحزب من تقصير ومن تشويه وبين ذلك التجمد الذي أشرت إليه.. ذلك العجز عن التطور.. ذلك النقص في المرونة.. إذ ان بينهما صلة لا بد أن تروها وتعترفوا بها. فالأعضاء الذين لسبب من الأسباب: لنقص في توجيه الحزب لهم، لنقص في ثقافتهم، لموانع شتى حالت بينهم وبين المشاركة الفعلية في حياة الحزب وفي حياة الشعب.. هؤلاء الذين يعجزون عن الانتقال إلى مرحلة التحقيق عندما تتوافر شروطها، ويتشبثون بموقف ظاهره طلب الكمال، ورفض كل تساهل.. هؤلاء الأعضاء بتشبثهم هذا غير الطبيعي وبمكابرتهم وتمردهم على قوانين الحياة -وقوانين الحياة كما أشرنا تشترط بعض التساهل لكي تنتقل الفكرة الكاملة إلى حيز التحقيق- إن هذا التشبث إذا طال، واذا كان القائلون به كثيرين هو الذي يؤدي بصورة غير مقصودة إلى شيء من هذا الخلل الذي نلمسه في حاضر الحزب. اذ ان الحياة لا تعرف التوقف، فما دام أصحاب فكرة الحزب رفضوا أن ينسجموا معها، ويتلاءموا مع مقتضياتها وتطورها، فكأن هذه الفكرة انعزلت عنهم وسارت في طريقها وحدها دون أن يحميها أصحابها وأجدر الناس بحملها وحمايتها، وتمشي وتتفاعل هي مع هذا الواقع، وعندها بدلاً من أن يؤدي الانتقال من طور التفكير إلى طور التحقيق الى التضحية بالجوانب الثانوية في الفكرة.. يؤدي الانتقال عندئذ إلى التضحية بما هو جوهري فيها، والى أمور أساسية فيها، وعندها يقع الحزب في التناقض وتوجد الأزمة العصيبة، لأن الذي رفض أن يتنازل حتى عن الشيء الصغير يجد نفسه في آخر الأمر وقد تنازل عن أكثر الشيء أو عنه كله. فإذا لم نعط الحياة حقها من المرونة، من التساهل المعقول، من الواقعية السليمة التي لا يدركها ولا يصل إليها إلا من يعمل ويعاني العمل، إذا لم نعط الحياة حقها في هذه الأمور فإنها تنتقم بأن تفرض علينا فوضاها وتسد الطريق في وجه فكرتنا، وينعدم التفاعل بين هذه الفكرة المفروض فيها انها أتت بشيء جديد وأصيل، وانها قادرة أن تبدّل واقع أمتنا وتنبت وتخصب منه شيئاً جديداً سليماً، اذا رفضنا هذا التطور فكأننا قضينا على أمل الفكرة بأن تنفذ الى صميم واقعنا وان تخصبه، وتركنا للواقع الفاسد أن يعود وينتصر.. وأقسى انتصار للواقع الفاسد هو ان يتخذ لنفسه عنوان الانقلاب وعنوان الشيء الجديد وعنوان الفكرة الأصيلة.

 آذار 1956

 

الصفحة الرئيسية للجزء الرابع