ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الرابع


البعث لا يرضى باستغلال الواقع

 

أيها الاخوان(1)

آمل أن تتاح لنا فرص عديدة في المستقبل للتباسط وللكلام دون كلفة، لكي يحصل التفاهم والتجاوب بين جميع أعضاء الحزب على الأمور الكبيرة والصغيرة. لأن ذلك شرط أساسي لقيام الحزب كقوة فعالة تنطلق من عقيدة موحدة.

ولا يتسع المجال لإعطاء جميع شعارات الحزب حقها من الشرح، لذلك سأكتفي بأن أقول كلمة في موضوع الحزب نفسه:

مهمة حزبنا

لابد لنا من تكوين فكرة واضحة وبسيطة معا ً عن مهمة حزبنا في هذه المرحلة الخطيرة من حياة أمتنا. وأخشى كثيرا ً من أن تطغى المشاغل السياسية ومعارك النضال المتلاحقة وما يتبعها أيضا من فترات يستسلم فيها الحزب لنشوة الظفر أحياناً ويسترسل في الكلام، وغالباً ما يكون الكلام غامضاً وعاماً ومشوشاً، أخشى أن تضيع بساطة المهمة التي يحملها الحزب ووضوحها وتضيع خطورتها وسط هذه الجلبة. فعلينا أن نعود دوماً الى هذه المهمة بجديتها وببساطتها، وعلينا ان نتذكرها مراراً وتكراراً.

يجب ان نكون بمستوى الحركات العالمية

نحن نعيش في هذا العصر وحزبنا لن يكون حزباً بالمعنى الصحيح الا اذا كان في مستوى الحركات العالمية في هذا العصر.

حزبنا انقلابي كما يعرفه كل منكم. وهو لا يرضى باستغلال الواقع كما هو، بل صمم على إحداث انقلاب تاريخي فكري في حياة أمتنا، فما هو المقياس الذي يجب أن نرجع اليه لمعرفة ما اذا كانت أماني الحزب لم تبق وهماً وحلماً بل أصبحت حقيقة راهنة أو في طريق التحقيق الجدي؟ المقياس هو ان نقارن حركتنا بالحركات العالمية الجدية في عصرنا هذا .

النضال رسالة لا هواية

تذكرت ذلك عندما سمعت كلمة قيلت لكم: "ليقدم كل منكم هوايته أو ميله"، وسواء أقصد ذلك بالذات أم لم يقصد، فأني اغتنم هذه المناسبة وأستفيد من هذه اللفظة لأقول ان حزباً انقلابياً جدياً لا يقوم على هواية ولا يقبل في صفوفه الهواة. هذا الحزب أما أن يولد من الشعور القاهر، من الشعور العميق الأليم بضرورة حياتية قاهرة تدفع بطلائع أمتنا الى التضحية والمعاناة لإنقاذ الأمة من خطر الموت والفناء، وأما أن يكون خدعة لنفسه وللشعب الذي يطلب تأييده: فالعمل في حزب انقلابي ليس هواية ولا ميلاً وانما هو وظيفة هي أخطر من كل وظيفة وأكثر جدية من أي واجب، وهي كما عرفها الحزب منذ نشوئه، "هي رسالة" وعندما نفهم مهمة الحزب على هذا الشكل ندرك بالتالي ان الشيء الوحيد الجدير بحزب كهذا هو تنظيم حديدي، تنظيم لا يكتفي بجمع الكفاءات والمواهب وجمع أوقات الأعضاء، بل يضع هدفاً له ان يخلق منهم أناساً جدداً وأشخاصاً جديدين متكيفين مع ما تتطلبه المهمة الخطيرة منهم. فالتنظيم ليس جمعاً فحسب وانما هو خلق وإبداع في الدرجة الأولى. وليكن في بادئ الأمر مختصراً محدوداً، ليس في هذا ضير ولكن ليكن جدياً.

نتحرى الكيفية قبل الكمية

وإذا كان جدياً فانه يستطيع ان يتسع وأن يتوالد ولكنه إذا بدأ بغير الجدية، إذا بدأ بروح التساهل وعدم التقدير لخطورة المهمة فليس من شيء يقدر على إصلاحه. وهذا ما يهيب بنا دوماً الى أن نتحرى الكيفية قبل الكمية والى ان نتطلع دوماً الى الافراد قبل المجموع، لأن الافراد هم الذين يستطيعون بالاتصال الحر العميق، وبربط مصيرهم بمصير أمتهم ان يدركوا حقيقة الطريق المرسوم لهم. وهم الذين يستطيعون ان يغيروا مجرى الحزب إذا وجدوه منحرفاً أو متهاوناً. وقد لا يكون الحزب دوماً في الطريق الصحيح السليم. فالحزب يضم بشراً والبشر يخطئون ويتهاونون ويتكاسلون وتطرأ عليهم شتى نقاط الضعف التي تصيب كل إنسان، ولكن الخطر كل الخطر هو الا يظهر في هذا المجموع بين حين وآخر أولئك الافراد الذين يقارنون بين ما رغبوا اليه في البدء واستهدفوه وصمموا عليه وما آل اليه الحزب، فيهتزون في أعماقهم ويهتز وجدانهم ويصلحون ويغيرّون ويرجعون الحزب الى الصراط القويم.

القدرة على إعادة النظر

هذا قدرنا ولن نطمئن يوماً واحداً على أننا بلغنا ما نريد بلوغه وأننا ملكنا الحقيقة وسرنا في الطريق القويم. وبجانب ثقتنا بحزبنا والى جانب ثقتنا بشعبنا يجب ان تكون في نفوسنا القدرة على اعادة النظر دوماً في سيرنا ونهجنا وتفكيرنا حتى يكون تفكيرنا ناضجاً أصيلاً وحتى لا تطغى عليه السطحية والتقليد، لكي لا يودي بنا الغرور الى ما أودى بالكثيرين.

9 نيسان 1954

(1) كلمة في المهرجان الذي عقده حزب البعث العربي الاشتراكي في التاسع من نيسان، نشرت في جريدة "البعث"، العدد 532.

 

الصفحة الرئيسية للجزء الرابع